في الذكرى المئوية لثورة اكتوبر العظمى .. قاطرة تاريخ القرن العشرين (5) / د. صالح ياسر

من الثورة.. الى الردة !.. محاولة لفهم جذور انهيار التجربة الاشتراكية وأسبابه
قبل أكثر من عقدين ونصف، انهارت الانظمة التي قادتها الاحزاب الشيوعية والاشتراكية والعمالية في أوربا الوسطى (المانيا الديمقراطية والمجر) والشرقية (بولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا) والجنوبية (يوغسلافيا وبلغاريا). وتُوجت تلك العملية بتفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار "التجربة الاشتراكية" في عام 1990 - 1991.
وبعد انهيار هذه الانظمة بات من الصعب تفادي طائفة واسعة من الاسئلة المتعلقة بمعرفة اسباب وعوامل هذا السقوط السريع لهذه الانظمة وكذلك الافرازات المتفاعلة والمتداخلة المترتبة على ذلك.
نظرا لطبيعة هذا الموضوع المعقد والمتشابك فإننا نعتقد ان التناول الاكثر جدوى، هو محاولة فهم هذا "الزلزال" الذي حدث من منظور لا يركز على "ضرورة" الذي حدث من خلال الانشغال بالنتائج، بل البحث في الجذور والأسباب الكامنة وراءه.
من المؤكد ان الانهيار الذي حصل هو بحد ذاته حدث كارثي ولكن له ميزة ايجابية هي انه اسهم في دك اسوار الجمود العقائدي، وحرر العقول من قيود " الايديولوجية "(بمعناها السلبي) مما اعطى دفعا قويا للنقاش والحوار، وفتح الابواب امام انطلاقة كبرى للفكر للتجوال في رحاب البحث والتقصي والاستكشاف، حيث يلاحظ المرء هذا الكم الهائل من الدراسات والأبحاث والمناقشات الساخنة والاجتهادات غير المألوفة والاستنتاجات المفاجئة.
وفي ضوء ذلك يتعين أولا وقبل كل شيء تجاوز تلك التحليلات التبسيطية التي ترجع ما حدث من انهيار الى "ردة داخلية" أو الى "مؤامرة خارجية" أو الى "دور رجل خارق استطاع أن يغير مجرى الأحداث" ! لقد كانت هناك جملة من المشكلات والعوامل الاساسية وراء الانهيار الذي حصل. والمقاربة الصحيحة لهذه القضية تفترض الانطلاق من واقع أن هذه المشكلات نشأت بفعل عوامل اقتصادية وغير اقتصادية، داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، في اطار عملية تاريخية معقدة ومتناقضة وطويلة المدى. ويفترض التحليل السليم لهذه المشكلات رؤية العوامل المسببة للأزمة والانهيار الذي حصل في هذه البلدان باعتبارها جزءً من سيرورة دايلكتيكية بالغة التعقيد يمكن فهمها واستيعابها عند استخدام المنهج الماركسي في مكوناته الثلاثة: المادية والتاريخية والجدلية في تحليلها.
ولابد من الاشارة هنا الى رفض الاطروحات التي تقول بأن "المؤامرات الخارجية" هي التفسير الوحيد لما جرى. ومع الاقرار بأن التدخل الخارجي، وان كان قد ساعد على دفع عملية الانهيار، فإنه لم يكن "المذنب" الرئيسي فهذا تبسيط للقضية. فانطلاقا من الاطروحة الماركسية المعروفة وهي ان دوافع التطور (والنكوص ايضا) الاساسية يجب البحث عنها في تناقضات الظاهرة المدروسة ذاتها، اي في بنيتها الداخلية ولهذا فإنه يتوجب علينا ان نتلمس اسباب الانهيار في البنية المنهارة ذاتها دون اهمال جدل العلاقة بالعوامل الخارجية طبعا. وكل تضخيم لدور العوامل الخارجية في احداث الانهيار، أو كل تقليل لدور العوامل والأسباب الداخلية، أو العكس، سيؤدي الى استنتاجات لا تخدم حركتنا في سعيها للوصول الى بدائل اكثر قابلية للحياة من النموذج المنهار.
ويعني ذلك باختصار شديد أن نتلمس أسباب الانهيار وعوامله في البنية المنهارة ذاتها. وكل تضخيم لدور العوامل الخارجية في احداث الانهيار، وكل تقليل لدور العوامل الداخلية، ستؤدي الى استنتاجات لا تخدم مسعى قوى اليسار والشيوعيين للوصول الى بدائل أكثر قابلية للحياة من النموذج المنهار.
ولاشك أن تجربة بهذه الأهمية والدلالة، في بنائها وانهيارها، تطرح أسئلة كثيرة وكبيرة ومفتوحة. وبسبب ذلك فإن أجوبتها لا زالت تحتاج إلى المزيد من البحث والتأصيل والتدقيق.
ومع الاقرار بأن السعي الى تقديم صياغة متكاملة لتفسير اسباب الانهيار خارج حدود هذه المساهمة لأسباب معروفة، إلا أنه من الضروري التأكيد هنا على ما يلي:
1. تجنب ايجاد مسوغات للستالينية.
في البداية لابد من الاشارة الى انه جرى تقديم تحليلات عديدة لتفسير جذور "الستالينية" وجوهرها. فقد رأى بعض المحللين ودارسي "الظاهرة الستالينية" بأنها عبرت عن نزعة "ارادية" ارادت حرق مراحل التطور وتجاوز حالة التخلف، التي كان يعاني منها الاتحاد السوفياتي السابق، في اسرع وقت، وتجلت في قيام سلطة استبدادية فرضت تخطيطا مركزيا وشموليا على الحياة الاقتصادية والاجتماعية. في حين أرجع محللون اخرون هذه الظاهرة الى ماضي روسيا "البربري" ويرون في الستالينية تعبيرا عن واقع تاريخي، وشكلا ملموسا اتخذته عملية بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي السابق. ومنذ وقت مبكر، كان هناك من رأى في "الاشتراكية الدولتية الستالينية" اساسا قامت عليه "رأسمالية ثانية" وضعت نفسها في خدمة "طبقة قائدة جديدة " كانت تمثلها البيروقراطية التي تطورت كجسم غريب عن البروليتاريا، استحوذ على كامل السلطة السياسية واحتكر ادارة الاقتصاد، وفرض الانضباط باللجوء الى اساليب القمع.
ولفهم جوهر الظاهرة الستالينية علينا ان نحدد مكان جذورها. ومن المفيد التأكيد على انه من العبث ان نبحث عن تلك الجذور في النوايا السيئة أو الارادة الشريرة لدى ستالين، في طموحاته السياسية أو في "مرضه العقلي الخاص" لان ذلك لا يفسر شيئا .ان على اي تحليل جاد حقا لجذور الستالينية أن يوضح أولا العلاقات القائمة بين اهم المجموعات والفئات الاجتماعية المشاركة في الحركة الثورية الروسية، و كيف كانت مصالح هذه الفئات والجماعات ومبادؤها وتطلعاتها تتفاعل وتتضارب. كان ماركس هو الذي ابتكر، منذ وقت طويل، المنهج الصحيح للقيام بمثل هذا التحليل. فقبل فحص وجهات نظر شخصيات معينة ونواياهم ورغباتهم يلزمنا منهج ماركس بمعاينة المنطق والصيغ النمطية التي تقود الحركة والصدامات الحاصلة بين قوى اجتماعية كبيرة. ولا شك ان دور الافراد يكون دورا ذا اهمية. غير ان الأفراد، مع ذلك، لا يستطيعون ان يؤدوا هذا الدور إلا في اطار تلك الاتجاهات التاريخية القوية والموضوعية غير الخاضعة لإرادة كائن من كان. اضافة الى ذلك ان شخصية تاريخية معينة قد تنتقل من قوة اجتماعية الى اخرى وقد تبدل مواقفها دون حصول تغير ذي شأن في مواقف هذه القوى وفي المجابهة بين هذه القوى وفي المضمون الفعلي لتلك التناقضات الشاملة والكلية تاريخياً. ذلك هو الذي يجعلنا نخص جوهر هذه التناقضات التاريخية الشاملة والكلية ذات الاساس الطبقي بالدور المركزي في الدراسات التاريخية تاركين سلوك الافراد ودسائسهم جانبا.
2. تجنب ارجاع الأزمة والانهيار الى البيرسترويكا فقط.
وهذه الفكرة تحتاج الى ملاحظات مكثفة تجنبا لأي سوء فهم. فكما هو معروف جاء سعي (غورباتشوف) منذ توليه قيادة الحزب عام 1985 وإطلاق البيرسترويكا (اعادة البناء) والغلاسنوست (العلانية) التي أقرها المؤتمر الـ 27 للحزب الشيوعي السوفيتي المنعقد في مطلع عام 1986، كتواصل مع النهج الذي بدأه (أندروبوف) وان اختلفت المداخل. إن برنامج البيرسترويكا الذي اقره المؤتمر المذكور، انطوى على تشخيص نقدي، صحيح اجمالا، لمظاهر الخلل التي كانت تعترض نمو الاقتصاد وتطور المجتمع. ولكن هذا التشخيص كان يفتقد عنصرا هاما وهو أن الجهد كان منصبا على ابراز مظاهر الخلل ومن دون تحليل جذرها الاجتماعي وأسبابها الكامنة. ومن المفيد الاشارة هنا الى أن الاجماع الظاهري على البيرسترويكا، في البداية، كان يخفي في طياته صراعا بين مصالح اجتماعية متنافرة، وبالتالي يلاحظ الجدل المتناقض والمركب حولها. وباختصار شديد، يمكن القول بأن البيرسترويكا كانت تنطوي، في الواقع، على تناقض وصراع بين مفهومين، وبالتالي بين قوتين اجتماعيتين متناقضتين، الاولى كانت تروج لـ " اقتصاد السوق الاشتراكي " للخروج من المأزق، أما القوة الثانية فكانت تريد " اشتراكية السوق ". وطبيعي أن هذه العملية كانت تجري في ظروف سياق دولي بدأت معالم الاختلال فيه تميل لصالح القوى الامبريالية، وكان هذا يملي اعادة نظر جذرية في اولويات السياسة الخارجية. ولم يكن الصراع بين القوى الاجتماعية بعيدا عن السياق الخارجي فيما يتعلق ببلورة السياسة الخارجية. هكذا إذن رافق ولادة البيرسترويكا ظهور ما سمي في حينها بـ " التفكير السياسي الجديد " ، الذي كان يمثل في الواقع غلافا ايديولوجيا لخيار جديد قوامه التراجع على الصعيد الدولي. وهكذا تم اختراع مفهوم "وحدة العالم"، الذي كان يستهدف – على صعيد الممارسة - الانسحاب من المجابهة مع القطب الاخر بأقل الخسائر. إن هذه المفاهيم كانت تمثل جزءا من منظومة فكرية بدأت تبلور معالمها لتعبر عن مصالح البيروقراطية، وبخاصة فئاتها العليا والوسطى، التي كان همها يتمحور حول الحفاظ على امتيازاتها. لقد تم تدشين البيرسترويكا تحت زعامة (غورباتشوف) من خلال التصادم مع المؤسسات القائمة: الحزب / الدولة/ النظام الاجتماعي القائم، وواجه نهج البيريسترويكا عدم قبول من عدة اتجاهات، في حين هللت القوى المسيطرة في الغرب له، خاصة بعد حالة الارباك التي نجمت عنه.
وبذلك لم يستطع غورباتشوف توفير بدائل معقولة وبناءة لعملية الهدم التي قام بها. ولم يفض مشروع "تجديد الاشتراكية" الذي تزعمه سوى الى انهيار الاشتراكية وفقدان مكاسبها وتفكك الاتحاد السوفياتي. وهكذا فإن البيرسترويكا بطبعتها الغورباتشوفية (والتي عبر عنها غورباتشوف في كتابه الموسوم: البيرسترويكا تفكير جديد لبلادنا والعالم) التي حاولت أن تبلور في الظاهر بديلا للاستحقاق التاريخي الذي كان يتطلبه تطور الاقتصاد والمجتمع، انتهت الى فشل ذريع على الصعيد الاقتصادي وعلى جميع الصُعد، وكانت العامل المباشر لانهيار النظام وتفكك الاتحاد.
3. تجنب استخلاص الاستنتاج القائل بأن النظرية الماركسية هي التي جعلت التشويهات ومن ثم الانهيار امورا محتومة.
طبعا يحتاج هذا الربط الى اسئلة نقدية تعيد طرح قضية الماركسية في حقلها الطبيعي (الحقل النظري) بعيدا عن كل مظهر من مظاهر مأسستها مما يكون سببا في تمثل موضوعاتها تمثلا سياسيا تجريبيا. وهنا ولأسباب منهجية لا يجوز قراءة أية نظرية – والماركسية هنا مثالاً – من داخل اطار الممارسة، لان هذه القراءة تلغي الاستقلال الذاتي للنظرية، وتقرؤها في سياق آليات اخرى مادية تقع خارج منطق المعرفة النظري واشتغاله الفكري والخاص. فهكذا حين تكون الممارسة السياسية للذين ينتسبون الى الماركسية مأزومة لا يصح أن يكون ذلك مسببا كافيا للاعتقاد أن مرجعهم النظري مأزوم بالضرورة، إذ قد تكون اسباب الازمة كامنة في بنية الممارسة ذاتها.
خلاصة القول: اننا نعتقد ان البداية الايجابية والصحيحة هي الوصول الى تحديد الاسئلة والإشكاليات الأساسية، التي تتطلب الإجابة من خلال التحليل المتأني، وأيضا من خلال الجهد الجماعي.
ثمة في رأينا، عدة اشكاليات تستحق ان تناقش في اطار تطلع يرمي للإجابة على الاسئلة المطروحة من الحركة اليسارية بشكل عام والشيوعية بشكل خاص، في ظل الهجوم الايديولوجي الذي اندلع في أوائل التسعينات ولا يزال، والمروج لشعار نهاية الايديولوجيا ونهاية التاريخ.
المهمة إذن، باختصار شديد، تتجلى في ضرورة البحث في "جذور" انهيار "نظام الاشتراكية الفعلية"، ومحاولة التوصل الى اجابات ولو اولية عن التساؤلات الحارقة التي تطرح نفسها، وهو ما سعت اليه ورقة العمل في محاولتها لتحريك النقاش والاجتهاد بشأن جملة من القضايا من قبيل:
-لا آليات هذا الانهيار؛
- التناقضات الداخلية لهذا النظام الذي ولدت وتوالدت معه؛
- الاسباب والعوامل الداخلية التي ادت الى التفكك والانهيار؛
- آلية تكون "الطبقة الجديدة" (البيروقراطية) التي تتميز بأنها استثمرت الملكية العامة لصالحها الخاص؛
- الاسباب والعوامل الاقتصادية الاجتماعية الطبقية لمختلف اشكال الممارسات القمعية وأهدافها؛ ...... الخ.
- الممارسات "الفكرية/النظرية" التي كانت تصل الى ذروة تزوير العلم وتزوير الماركسية؟
- اشكالية العلاقة بين الديمقراطية والاشتراكية – اشكالية تغييب الديمقراطية السياسية
- العوامل الخارجية والصراع الايديولوجي على المستوى العالمي.
وعلى الرغم مما بذل من جهد لمحاولة الاجابة على الاسئلة التي طرحها الانهيار، إلا ان النقاش مع ذلك يظل مفتوحا، بل تتزايد الحاجة اليوم في ظل معركة فكرية صاخبة وطنية وكونية الطابع، الى إعمال العقل الجمعي للتفكير في هذه القضايا التي تتخذ ابعادا واستحقاقات لا تخص فقط الشيوعيين وإنما جميع قوى اليسار بل وكل المناضلين من اجل بديل يتجاوز الرأسمالية ولا ينحصر في افقها أو يخضع لآليات ومنطق ادماجها وهيمنتها.