المواطنة ركيزة السلام للأمة الوطنية / حسين درويش العادلي

لا يمكن إدراك السلام المجتمعي والسياسي دون اعتماد المواطنة كرابطة لتشكيل الأمة الوطنية (أمة الدولة)، والأمة الوطنية نتاج تماهي المجتمع (كأمة انسانية) والدولة (كأمة سياسية). إنّ اعتماد أي ركيزة غير المواطنة- كأساس لإنتاج (أمة الدولة) سيخلق الأرضية الموضوعية للكراهية والصراع والتناحر المجتمعي السياسي.
بتطور الدولة كأعلى بناءات المجتمع السياسي، تطورت الرابطة العضوية لمكوناتها من قبلية وقومية ودينية وطائفية.. إلى رابطة المواطنة. وأثبت الواقع التأريخي فشل كافة أنماط العضوية السياسية في الحفاظ على وحدة الدولة وانسجامها وتطورها فيما لو أقصيت المواطنة.
تصدق وتشتغل روابط العضوية والإنتماء العرقي والطائفي على الجماعة الإنسانية المكونة للمجتمع، لكنها لا تصدق ولا تشتغل في الجماعة السياسية المكونة للدولة،.. وكافة الإنتماءات والهويات الفرعية تشتغل في الحيز الإجتماعي الإنساني لا الحيز السياسي المشكّل للدولة.
الإنتماء إلى القوم أو إلى الطائفة مجاز وشرعي كونه انتماء بحكم الولادة أو الإختيار، وهو جزء من الهوية القومية أو الطائفية لهذا المكون أو ذاك. لكن القومية والطائفية محرمة، كونها إيديولوجيا وهوية سياسية بتحكيمها يتم العزل والإقصاء بحق المخالف عرقاً أو طائفة أو دينا،.. لذا لا تصلح لإتخاذها رابطة أو انتماءً للجماعة لسياسية المكونة للدولة. ليس هناك مجتمع أو دولة لا تتسم بالتعددية داخلها، فإن كانت (صافية) العرق والقومية، فلن تكن (صافية) الديانة والطائفة،.. إنّ اعتماد العضوية العرقية أو الطائفية في تكوين الدولة سيصدق عندها على مجموعة دون أخرى، وهو ما يؤسس للتمييز والصراع على حساب السلام المجتمعي والسياسي اللازم لاستقرار ونجاح مشروع الدولة.
المواطنة Citizenship هي الرابطة والإنتماء الوحيد الذي يصدق على كافة رعايا الدولة دونما تمييز، وهي الوحدة الأساس في التكوين السياسي. وتعرّف -كما في دائرة المعارف البريطانية وموسوعة الكتاب الدولي وموسوعة كولير الأميركية- بكونها: (عضوية كاملة تنشأ من علاقة بين فرد ودولة كما يُحدّدها قانون تلك الدولة، وبما تتضمّنه تلك العلاقة من واجبات كدفع الضرائب والدفاع عن البلد، وبما تمنحه من حقوق كحق التصويت وحق تولي المناصب العامة في الدولة). وعليه تكون المواطنة من أشد أنماط عضوية الفرد إكتمالاً في الدولة الحديثة، فهي هنا ليست صورة باهتة لإنتساب صورّي بين أفراد المجتمع ودولتهم المعينة بقدر ما هي كينونة لجنس العلاقة الرابطة بين الفرد ومن ثَمَّ المجتمع بدولتهم التي يستظلونها وينتمون إليها. وهي على ذلك من مستلزمات الإنتماء للدولة كوحدة سياسية متكاملة والتي تتألف من إقليم جغرافي ومجتمع ونظام وسلطات واعتراف دولي. ومثل هذا الإنتماء يفرض حقوقاً ويسلتزم واجبات كمنظومة متكاملة لا تعرف الفصل والتفكيك في أنظمتها واستحقاقاتها -إنطلاقاً من هذه العضوية المسمّاة بالمواطنة في ظل الدولة المعاصرة- والتي تكتسب بشكلٍ عام في ظل الأنظمة القانونية الحديثة على أساس الولادة في الدولة والإنحدار من أبوين مواطنَين والتجنّس.
خرجت المواطنة المعاصرة عن نطاقها التقليدي إلى حقٍ ثابت في الحياة القانونية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية بين الدولة ورعاياها، وهو ما يصطلح عليه بالمواطنية. ولا جوهر للمواطنية في ظل التعريفات أو الإنتماءات العرقية والطائفية، ولا وجود لها في ظل النظم الدكتاتورية أو الملكيّة غير الدستورية أو الإرستقراطية أو الثيوقراطية، فالمواطنة حصيلة ترسيخ مفهوم الدولة الحديثة وما تقوم عليه من سيادة لحكم القانون والمشاركة المدنية السياسية الكاملة في ظل دولة المؤسسات.
المواطنة على هذا الأساس صفة موضوعية عامة يتمتع بها كافة منتسبيها بشكل محايد لا تقبل التفاوت والتفاضل بذاتها، فليس بين المواطنين مَن هو مواطن أكثر من الآخر، وكافة الإختلافات العرقية والطائفية أو الإمتيازات الإقتصادية والسياسية لا اعتبار تفاضلي لها في ظل هذه الصفة، من هنا تكون دولة المواطنة دولة الإنسان ودولة القانون التي تقر المساواة ولا تعرف التمييز والإقصاء، وهي دولة الرعايا الفعالين الذين يمارسون حقوقهم ويؤدون واجباتهم بوعي والتزام وحماس على أساس من الحريات والحقوق المدنية الثابتة. إنّ كافة أشكال الدولة (القومية والطائفية والعشائرية والعائلية) هي دولة ما قبل دولة المواطنة، كونها دولة التمييز لا المساواة، ودولة الإمتياز لا الحقوق التي تؤسس كيانها على أساس الهيمنة والإقصاء والحجر في تنظيم العلائق والإستحقاقات بين المواطنين شركاء الوطن الواحد.
كافة أنماط المواطنة غير الديمقراطية هي مواطنة منقوصة، فالمواطنة المضطهدة والباهتة والمهمّشة والمحجورة.. هي مواطنة ناقصة ومنقوصة إذ أنَّ وجودها مقترن بالإنتهاك القانوني والسياسي والثقافي بفعل التمييز أو الإستبداد أو الإستعباد. ولتمتع المواطن بكامل مواطنيته واستحقاقاتها يتوجب اعتماد النظام الديمقراطي الذي يعني دولة القانون والمؤسسات المستندة إلى إدارة المواطنين واختيارهم الحر ومساهمتهم الفعّالة في خلق تجاربهم على أساس من الحرية والأهلية التامة غير المُصادرة، من هنا يُعتبر المواطن في الدولة الديمقراطية وحدة سياسية تامة.
انكفأت الدولة العراقية منذ تأسيسها في تبني المواطنة كأساس في العضوية السياسية للدولة، ومارست التمييز العرقي والطائفي، مما خلق بنية اجتماعية وسياسية هشة حالت دون انبثاق المجتمع السياسي اللازم لتكامل الدولة. بعد سقوط الدكتاتورية ونتيجة لغياب الحياة السياسية السليمة وأخطاء المحاصصة والتوافقات القائمة على وفق الأسس العرقية والطائفية ودور مجموعات الإرهاب والدوائر المتصلة بالنظام البائد.. تصدرت الهويات الفرعية وغلبت على المشهد السياسي والمجتمعي،.. أخطر ما فيها محاولة التأسيس للإنتماء والولاء الطائفي كأساس في تكوين الوجدان العام، وهو ما يقود لخلق دويلات متنافسة وعدائية.
لضمان قيام مجتمع متماسك ودولة موحدة يسودهما السلام، لابد من تمكين وتفعيل المواطنة كرابطة وحيدة لإنتاج الحياة المجتمعية والسياسية، بما يمكننا من خلق مجتمع سياسي قافز على الأطر العرقية والطائفية الضيقة. كما لابد لها من اشتراطات ديمقراطية حقيقية فعالة في جوهر بنية الدولة، ومنها: مدنية الدولة قانوناً وثقافةً، الفصل بين الدولة كمؤسسة دستورية راسخة والحكم كسلطة تداولية، وأيضاً إقصاء التحكم الفردي أو الفئوي بالسلطة، كذلك اعتبار الشعب مصدر للسلطات وأساس شرعيتها، وتمتع الكل الوطني بنفس درجات ومستويات الحقوق والواجبات المدنية والسياسية والإقتصادية دونما أدنى تمييز.