الطائفية السياسية تعيق بناء الدولة الحديثة / فاروق يوسف

البناء الثقافي المتماسك أدى إلى اقامة حياة سياسية لافتة في اعتدالها. ما كان للتجربة الماليزية أن تكون على ما هي عليه اليوم لولا توجه النخب السياسية إلى تطوير التعليم في اطار الانتماء الوطني على أسس حديثة.
أن تكون الطائفية واقعا يعيشه المجتمع برضا ويكون قادرا على مواجهته وتهذيبه من منطلق كونه تعبيرا عن التعددية الفكرية هو شيء وأن تكون الطائفية قاعدة لبناء الحياة السياسية في بلد ما هو شيء آخر. في الحالة الأولى تكون فكرة التعايش على اساس التنوع الثقافي هي الغالبة وبالأخص حين تستند إلى مبدأ المواطنة، اما في الحالة الثانية فان ما يغلب هو الصراع على الحكم والتسيد وسعي كل طائفة إلى اضعاف الطوائف الأخرى وصولا إلى الاقتتال الأهلي.
وكما أرى فان لبنان، بخبرة شعبه العالقة والملتبسة بين ما هو ثقافي وما هو سياسي انما يشكل نموذجا مجسدا للفكرة التي تقول بان ما تخربه السياسة لا يمكن أن تصلحه الثقافة.
في المقابل فان ماليزيا تشكل النموذج المناقض تماما، حيث البناء الثقافي المتماسك قد أدى إلى اقامة حياة سياسية لافتة في اعتدالها. من المؤكد أن السياسة القائمة على التناحر والتوزع الطائفي في لبنان كانت قد أضعفت الدور الثقافي الذي كان في إمكان ذلك البلد أن يلعبه في المنطقة العربية.
كانت لبنان في سنوات ما قبل الحرب الأهلية ملاذا آمنا لحشود من المثقفين العرب، بغض النظر عن نزعاتهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية والعقائدية.
بالنسبة لأولئك المثقفين كانت الحرية التي تميز بها المناخ الاجتماعي والثقافي السائد في لبنان يومها مكسبا لا يمكن التنازل عنه. غير أن تلك الحرية كانت كما تبين لاحقا كانت تطفو على سطح براق يخفي تحته موعدا مع خراب، لم تستطع الطوائف كلها اخفاء نزعة سياسييها في الانزلاق إليه.
كانت الثقافة فعلا جانبيا، فيما احتلت السياسة قلب المشهد.

هذا ما جرى ويجري في العراق كل لحظة

قبل عقود قليلة كانت ماليزيا تضم مجتمعا مفككا.
هذه الدولة التي لم يكن لها وجود بهذا الاسم قبل 1963 ينحدر سكانها من أصول وعرقيات مختلفة. هم بعكس اللبنانيين أو العراقيين لا يملكون ارثا كبيرا من التعايش والعمل الحضاري المشترك ولم تكن نسبة الانسجام في ما بينهم لتشير إلى إمكانية قيام دولة تجمعهم.
غير أن ماليزيا تمثل اليوم واحدة من أعظم التجارب البشرية المتفوقة، لا في مجال الصناعة (وهو امر لا نقاش فيه) بل في البناء الاجتماعي الذي يستند إلى قاعدة ثقافية صلبة، اساسها التنوع والتعدد.
وكما صار معروفا فان تلك التجربة ما كان لها أن تكون ما هي عليه اليوم لولا توجه النخب السياسية إلى تطوير التعليم في اطار الانتماء الوطني على أسس حديثة.

كان التعليم الوطني الحديث إذاً هو اساس المعجزة الماليزية

وللانصاف يمكننا القول أن الطوائف في لبنان كانت إلى زمن ما قبل الحرب الأهلية (1975ـ 1990) تتسابق في ما بينها في مجال الاهتمام بالمتميزين من أبنائها في مجال العلوم والثقافة.
كان هناك شيء من التوازن بين ما هو سياسي وما هو ثقافي.
واحدة من أكثر افرازات الحرب سلبية تكمن في أن المعادلة كلها ذهبت لصالح الحوار السياسي بين الطوائف، والذي غالبا ما حضر متشنجا وملوحا بالقوة.
وكما هو معروف فان المسيحيين، بالرغم من امتيازاتهم الدستورية التي لا تزال صامدة في وجه التغيير قد خرجوا بشكل جزئي من تلك المعادلة.
على الأقل لم يعودوا يمثلون طرفا قويا فيها كما كانوا من قبل. وهذا يمثل خسارة لتنوع الحوار بما يمكن أن ينطوي عليه من قيم ثقافية مختلفة. صار الصراع المكشوف يجري في لبنان بين طرف سني وآخر شيعي، في الوقت الذي توزع المسيحيون بين الطرفين.
ما بناه مهاتير محمد في ماليزيا يبدو مستحيلا في لبنان أو العراق

لقد اختارت ماليزيا أن تزج بنفسها في العصر الحديث بقوة التعليم فنجحت في أن تكون دولة حديثة، ينعم مواطنونها بالرخاء والأمن والتربية الحسنة المتصلة بروح التسامح الوطني.
في حين اختارت البلدان العربية (وبالاخص بعد وقائع الربيع العربي) كما لو أنها مجبرة أن تلتفت إلى الوراء لتعود إلى الانظمة التي كان سائدة قبل العصر الحديث. وهي انظمة طائفية ومذهبية لن يؤدي اتباعها في اية حال من الأحوال إلى بناء دولة حديثة.
فحتى لو استطاعت واحدة من الطوائف، على سبيل الافتراض، أن تمحو جميع الطوائف، فانها ستكون محكومة داخليا بالأسباب نفسها التي دعتها إلى حرمان الآخرين من حقهم في العيش.
سيكون لزاما على تلك الطائفة أن تتشظى، ليحارب بعضها البعض الآخر. فالسلوك الطائفي لا يصنع مجتمعا موحدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الانترنيت/ وكالة اور الاخبارية