المرجعية الدولية.. رحيل مبكر / عبدالمنعم الاعسم

البصيرة التي تتملى بيان مجلس الامن الدولي حول العراق، الصادر نهاية الاسبوع الماضي، لا بد ان تجفل، بحيرة، في مواضع لافتة تتعلق بالرضا المفرط عن «مفوضية الانتخابات» والثقة، الاكثر إفراطا، بالحكومة «وقوات الامن» والجماعات السياسية، وما اسماه البيان»المؤسسات الديمقراطية» والامل المعلق على «ايجاد عملية سياسية شاملة نحو تشكيل حكومة تمثل ارادة الشعب». ولا بد، بعد ذلك، إذا ما أرادت البصيرة تسجيل موقف تشكر عليه المرجعية الدولية، ان تعيد قراءة الفقرة ذات العلاقة بكارثة الانبار، حيث تخلى العالم والحكومة عن مسؤوليتهم ولم ينفذوا إلا 10 بالمئة من التزاماتهم لمساعدة البشر النازحين هناك في محنتهم الانسانية.
ومرة اخرى، واخرى، القت الامم المتحدة مسؤوليتها المثبتة في ميثاق العام 1945 جانبا، وتنازلت عن دورها في تسمية الاشياء باسمائها، واكتفت بدور شرطي المرور الذي يعنيه انسياب السيارات، لا انسياب الدم.
على ان بيان مجلس الامن «الباهت» حيال الانتهاكات والنواقص في مجالات الحريات وحقوق الانسان وعدالة القضاء وشفافية الانتخابات، لا يختلف كثيرا عن الدور «الباهت» لممثل الامين العام للامم المتحدة السيد «نيكولا ملادينوف» في العراق، خلافا لقرار مجلس الامن 1546 (2004) الذي الزم بعثة الأمم المتحدة بتقديم المساعدة إلى العراق في مجال «تعزيز حماية حقوق الإنسان والمصالحة الوطنية والإصلاح القضائي والقانوني من أجل تعزيز سيادة القانون في العراق». واذا شئنا الدقة، فان هذا الموقف لا يختلف كثيرا عن حال «التفرج» والشلل الذي انتهت اليه المرجعية الدولية على مستوى مشكلات العالم والمحن التي تعصف بدول كثيرة.
فلم يسبق للامم المتحدة، منذ امينها العام الاول النرويجي تريغف هالفان لي(1946) ان وقفت متفرجة على ما يحدث في العالم من كوارث وانشقاقات وحروب واعتداءات، كما هي الآن في عهد الكوري الطيب بان كي مون الذي لا يتحمل، طبعا، وزر هذا المآل المؤسف للمرجعية الدولية.
ومنذ ايام احصى معهد غربي ما يزيد على مائة وستين مشكلة تعصف بالاقاليم والدول الاعضاء(آخرها مذابح نايجيريا) مما تدخل معالجتها في مسؤولية المنظمة الدولية. لكنها تقف عاجزة عن تقديم اية مساعدة لتلك الاقاليم والدول، إما لأنها لا تملك اموالا كافية، او ان احدا لم يطلب منها التدخل، او ان اطراف الازمات لا يسمعون ما تقوله الامم المتحدة ويفضلون تدخل اعضاء اكثر هيبة وتأثيرا و»فلوسا».
لنتذكر ان مندوبي الدول الأعضاء اضطروا في ايلول من عام 1968 الى الجلوس على مقاعدهم أربع ساعات كاملة، للاستماع الى خطيب واحد سمح له بالاستطراد كل هذا الوقت وسط ذهول مسؤولي الجلسة الذين لم يستطيعوا التدخل. وكان الخطيب فيدل كاسترو لا يمثل في الواقع بلداً مؤثراً على خارطة العالم وليس له ثقل عسكري أو اقتصادي ذو قيمة استراتيجية.غير انه في عام 1995، وفي الشهر نفسه، لم يسمح لكاسترو الا بسبع دقائق ليلقي خطابا لم يلفت نظر أحد، وتلاشى صوته الجهوري في قاعة خلت مقاعدها من كثير من المندوبين، ولم يكن نفسه آسفاً على مصير هذه المرجعية.
العام المقبل 2015 ستحتفل الامم المتحدة بميلادها السبعين، واغلب الظن سيكرر كي مون الطلب من الدول الاعضاء دعم المنظة لتنهض في مهمة اطفاء بؤر الارهاب والعنف، و اشاعة اجواء الثقة والبحث الموضوعي لتكوين ارادة السلم والاستقرار. وربما سيوحي بما كان قد اوحى به الامين العام السابق كوفي عنان لبعض مندوبي الدول التي تطلب النجدة من الامم المتحدة: «لا تحرجونا.. لقد مضى ذلك الزمان» وكأنه يشير الى تلك الأيام الغابرة للمنظمة الدولية، حين كان كاسترو يتحدث لساعات طويلة من دون مقاطعة، و خروشوف يقذف بحذائه الى الصالة.. وسط تصفيق عاصف.

*********
«ما أحسن تذلل الأغنياء عند الفقراء، وما أقبح تذلل الفقراء عند الأغنياء».
سفيان الثوري- فقيه قديم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بالتزامن مع جريدة (الاتحاد)