الصعاب العذبة .. الأمل الأخضر/ د. إبراهيم إسماعيل

قراءة في كتاب (من تاريخ الحركة الأنصارية)

"سنوقظها، ونُخرجُ من خلاياها ضحايانا
سنغسل شعرهم بدموعنا البيضاء
نسكبُ فوق أيديهم حليبَ الروح كي يستيقظوا
ونرشُّ فوق جفونهم أصواتنا:
قوموا ارجعوا للبيت يا أحبابنا"
محمود درويش

في كتابه الثالث (من تاريخ الحركة الأنصارية) الصادر حديثاً عن دار الرواد المزدهرة في بغداد، يحاول الصديق الكاتب فيصل الفؤادي، الإجابة على حزمة الأسئلة المهمة والمركبة، التي تواجه اليوم أي باحث في تلك المأثرة التي إجترحها الشيوعيون العراقيون منذ أواخر سبعينات القرن الماضي وحتى سقوط نظام صدام حسين.
ولعل من أبرز تلك التساؤلات، ما يتعلق بالأسس التي إرتكز عليها تبني الحزب الشيوعي العراقي للكفاح المسلح، إسلوباً نضالياً رئيسياً، ودرجة التفاعل المتبادل بين هذا القرار وبين مجموعة العوامل المحيطة به كالوعي الجمعي بالغياب الشامل للعدالة الاجتماعية والحرية السياسية، وكمستوى توفر حد مناسب من إرادة التغيير لدى الناس وطلائعها السياسية، وكمدى إتساق الحلم، رغم مشروعيته الفكرية والأخلاقية، مع واقع أحتكر فيه المستبد الثروة والقوة وحتى رحمة السماء، وكم ينبغي أن يكون الحالم رائياً، فيبصر القادم من متغيرات وأحداث، بما هي عليه لا بما يريدها أن تكون، وأن يولد من مخيض كل فجر جديد، جديداً رغم زحمة القتل والجوع، وأخيراً أن يقنع جنده العاشقين، بأن يكونوا قرابين فداء، تعيد الأدمية لمن حرمهم القهر حتى من القدرة على الهمس.
في الفصول التسعة عشر التي ضمها الكتاب، حاول الفؤادي أن يجيب على تلك التساؤلات، بسرد لا يعتمد أدوات المؤرخ، لكنه يتتبع بصورة منظمة، أو بتفصيل متسق، ما مرت به التجربة من مواقف وأحوال تمكن المؤرخ من إعادة بناء تاريخية للأحداث تكشف عوامل تطورها تقدماً أو تراجعاً.
يشير الكاتب في الفصل الاول الى كيفية تحول الحزب الى المعارضة المسلحة، وكيف إقتنعت الغالبية العظمى من كوادره وقاعدته بذلك، لا كإستجابة عفوية لقرارات مركزية بل عبر إدراك حقيقي بأن لا خيار، حين تطبق عتمة السجن على أنفاسك، سوى أن تفتح بيديك العاريتين جلمود الجدران، وأن تبدد بصرختك عتمة الغيوم، كي يأتي القمر باسماً لشرفاتك الحالمة.
ورغم إنهم كانوا يعرفون تماماً بأن تغريدة عصفور واحد لا تطرد وحشة الشتاء، فقد أيقنوا من إنها ستوقظ حتما العصافير، فينطلق النشيد ويهطل الربيع. ولذا لم تقتصر سياستهم على رفع روح التحدي لدى الناس وإسقاط ثقافة الإستسلام للسلطة واللامبالاة والتعصب فقط، بل وفي تحقيق تراكم معرفي لديهم يخلق وعياً بحقوقهم السياسية والاجتماعية، وفي توفير الدينامية اللازمة للفعل الجماهيري المؤثر. وهكذا، وبجوهر هذا الكلام، لا برومانسيته، إرتقى الشيوعيون ذرى جبال كردستان، وإمتشقوا السلاح ضياءً، مبصرين في الوقت ذاته الواقع عبر بصيرتهم لا عبر فوهات البنادق، فبقي عالمهم فسيحاً وجميلا.
في الفصلين الثاني والرابع عشر، يقدم الكاتب عرضاً للوحة السياسية في العراق وكردستان، وسعي الحزب في سياسته الى خلق أرضية للحوار الهادف بين كافة القوى السياسية المؤمنة بتغيير الواقع العراقي، والتعبير عن مدى حاجة تلك القوى لإدراك جسامة المسؤولية المنوطة بها والتخلي عن السلوك المتردد وتجاوز التباينات السياسية والإيديولوجية فيما بينها لصالح تحقيق هذا التغيير.
ولم يغفل الصديق الفؤادي الثمن الذي دفعه الحزب لصيانة إستقلاليته ومواقفه. وهنا، لن يكون القول بأن التجربة قد حافظت على إستقلاليتها بالدم، تعبيراً مجازياً، حين نتذكر ما جرى في مأساة بشتاشان عام 1983. أو نحدق في المشي بين الألغام، في ظل ثنائيات فرضها الواقع، لم يكن أقلها رفض النظام والحرب التي أشعلها على إيران، أو إكتشاف الخط الجامع بين ما تفترضه تعددية ثقافية وقومية، من حق تقرير المصير، وما يستلزمه مستقبلها المنشود من وحدة مصائر البلاد والعباد.
ملمحان متميزان للتجربة، مشاركة المرأة المقاتلة والنشاط الثقافي الموازي والمؤازر للبندقية، حضيا بإهتمام الصديق الفؤادي في كتابه، الاول في الفصل الرابع، حين سجل ما سطرته النصيرات الشيوعيات من مفخرة المساهمة في هذا السفر الكفاحي المجيد رغم كل الصعاب، والأخر في الفصل الثاني عشر حيث قدم المثقفون الأنصار مساهمات متميزة في تشخيص معنى التخلف، وتحديد المنهج النقدي الذي يكشف عن مساره التاريخي وفي رسم سياسة التحديث التي تنبع من الإطار الجامع لقيم المجتمع المادية والروحية.
في الفصول الأخرى، يستعرض الكاتب المواجهات الباسلة التي خاضتها قوات الأنصار ضد جواسيس النظام وضد هجمات قواته وقوات حليفه النظام التركي، وصولاً لمأساة الأنفال التي مثلت أبشع إنتقام سادي نفذته عصابات البعث الصدامي ضد شعبنا الكردي والقوى السياسية العراقية وفي طليعتها الحزب الشيوعي العراقي وقوات أنصاره.
وفي جميع صفحات الكتاب يأتي الشهداء .. نوارس جميلة تسير فوق صفحة الماء ..تجمع بين خيوط حلمنا الزاهي ومطامح الناس .. توقظ في الفجر الليلكي غيوماً غافية وتحملنا عليها نحو صباح جديد .. في جميع الصفحات يأتي الأصدقاء .. أولئك الذين إنسلوا من بين الأصابيع كالماء.. دون أن نسلمهم، كما توهمنا، للتراب، فقد بقوا بين الضلوع .. نبضاً أزليا .. في جميع الصفحات أراهم، فأنحني وتسيل على الخد دمعة حنين.
إن كتاب الصديق الفؤادي يعد بحق مرجعاً مهماً لتاريخ الحركة الأنصارية. كما يعد اليوم، وفي ظل التعتيم الشامل وتجريف العقول بمعاول الطائفية والتزمت الديني والأثني، قراءة مهمة لملامح التجربة وثوابتها وحصادها ولبعض من يومياتها الدالة وتقييماً مناسباً لإداء مؤسساتها، قراءة رجل عاصر التجربة بأكملها.
كما يأتي الكتاب ليشير الى أن الجمرة لا زالت متقدة رغم رماد خيبة الأمل، فالجروح التي غصّت بها صفحات الكتاب، تحمل في أغوارها ألماً ذاتياً مطهراً، ومنه فقط يأتي الأمل الأخضر، ويبقى زاهياً.!
صديقي أبا شلير .. شكراً لجهدك الجميل!