حكومة الأقلية .. ربما هي الحل / د. فلاح إسماعيل حاجم

ما أن وضعت المعركة الانتخابية أوزارها، حتى بدأت معركة أخرى لا تقل عنها، إن لم تكن أكثر شراسة، من المعركة الأولى، ألا وهي معركة تشكيل الحكومة، التي تختلف عن المعركة الأولى في أن فصولها وجبهاتها الأساسية تجري خلف الكواليس وفي غياب تام لجيشها الأساسي، وهو الناخب العراقي، الذي يقف بانتظار الحصول على ما وعد به أثناء المعركة الأولى، والذي يبدو أنه سيخرج الخاسر الوحيد من تلك الواقعة.
إن ضراوة المعركة الحالية واحتدام السجال بين أطراف العملية السياسية، الذي يكاد يرقى في بعض جوانبه إلى مستوى القطيعة ، مع كل ما ينتج عن ذلك من خسائر مادية وبشرية، بما في ذلك تعطيل عملية إعادة بناء الدولة على أسس حديثة، والتغلب على آثار الدكتاتورية البغيضة والطائفية سيئة الصيت، ودفع عجلة الأعمار والبناء، ينبغي أن يكون حافزا للبحث عن الحلول والأساليب والآليات الكفيلة بالخروج من الأزمة الخانقة والعبور بالعملية السياسية إلى بر الأمان.
إن واحدة من المعضلات التي يدور الصراع الراهن حولها، هي كيفية تشكيل الحكومة المرتقبة، وشكل تلك الحكومة والجهة المؤهلة دستوريا لتشكيلها. على أنه لابد من القول، ونحن بصدد الحديث عن تشكيل الحكومة، أن ليس كل ما يطرحه الدستور والوثائق القانونية الأخرى صالحا للقيام بكل ذلك. فالدستور في الوقت الراهن، مع انه القانون الأسمى في سلم التشريعات الوطنية، إلا أن ما يحتويه لا يعدو كونه قواعد ميتة، وحبراً فاقداً للصلاحية، إزاء الحالة الراهنة وما تفرضه من تعقيدات هي بالأساس انعكاس لحالة بالغة التعقيد، يفرضها الواقع الديني والأثني والطائفي والقومي، يضاف إليه واقع إقليمي ودولي مأزوم، يلقي بظلاله على الواقع العراقي من خلال قوى سياسية مؤثرة، تتطوع لتسهيل امتداد ذلك الواقع.
من هنا يبدو مشروعا، وضروريا أيضا، تجاوز القواعد الدستورية (الميتة) والبحث عن السبل الكفيلة بانتشال العراق من حالة الأزمة ووضعه على الطريق الصحيح، تمهيدا لانجاز مهمات المرحلة الانتقالية، مع كل ما يترتب على ذلك من سن التشريعات وإكمال بناء مؤسسات الدولة الدستورية، التي لم تكف عشر سنوات لانجازها لأسباب معروفة.
وربما يكون اللجوء إلى الموروث الإنساني، وما أغناه في هذا الجانب، مفيدا إثناء البحث عن سبل تشكيل الحكومة. اذ يفيد تاريخ التطور الدستوري لبعض البلدان التي تواجه معضلات مشابهة في مجال تشكيل الحكومة لما يمر به العراق حاليا إلى إشكال متعددة للحكومات، ربما يكون مناسبا الآن الحديث عن أحد تلك الإشكال، وهو حكومة الأقلية، على أمل تناول الإشكال الأخرى في مقالات لاحقة.
ويمكن أن تشكل حكومة الأقلية من قبل كتلة برلمانية، أو تحالف كتل لا يعتمد على أكثرية برلمانية. ففي كثير من الأحيان، عندما تعاني البلاد من خلافات ونزاعات بين الفرقاء السياسيين، على اختلاف انتماءاتهم. وعندما تكون الأحزاب التي تمتلك الأكثرية في البرلمان غير قادرة على الاتفاق لتشكيل الحكومة، أو غير راغبة في تشكيلها، ولأن وضع البلاد لا يحتمل تأجيل تشكيل الحكومة، كما في الحالة العراقية الراهنة، تتنازل تلك الأحزاب عن الزعامة للمنافسين السياسيين، مع تعهد بعدم التدخل في نشاط أولئك السياسيين وعدم التصويت ضد تلك الحكومة في البرلمان.
وعادة ما يكون عمر هذه الحكومة قصيرا، حيث تستمر، في أغلب الأحيان، إلى حين نضوج وضع، يكون فيه من الصعوبة استمرار البرلمان بتشكيلته هذه، الأمر الذي يؤدي إلى حل السلطة التشريعية وإجراء انتخابات جديدة. من هنا يبدو واضحا أن حكومة الأقلية، لا تعدو أن تكون حكومة تصريف أعمال، تؤلف للتغلب على الأزمة السياسية، ومن هنا أيضا تسميتها بحكومة الخدمات، أو الحكومة المؤقتة. على أنه لابد من الإشارة هنا إلى أن هذه الحكومة ليست حكومة موظفين، كما يعتقد البعض خطأ، ذلك أن حكومة الموظفين (التكنوقراط) عادة ما تتألف من موظفين محايدين بشكل مطلق، في حين يكون وزراء حكومة الأقلية من القادة السياسيين الذين لا يمتلكون أغلبية في برلمان الدولة.
وتذكر التجارب التاريخية بأن حكومة الأقلية وجدت تطبيقاتها في الدول الاسكندنافية (الدنمارك والسويد)، وكذلك في الهند ودول مختلفة أخرى. ويبدو هذا النوع قليل التداول في البلدان النامية، ربما بسبب صعوبة التنازل بالنسبة للأغلبية الفائزة واعتماد الانقلابات العسكرية، كأسهل الطرق لحسم النزاعات بين الفرقاء السياسيين، بالإضافة إلى عدم تأصل تقاليد التداول السلمي للسلطة.
وتشبه حكومة الأقلية، من حيث ظروف تشكيلها والمهام التي تلقى على عاتقها، حكومة الوحدة الوطنية، التي يتم تشكيلها في أوقات الأزمة وفي فترة ما بعد الحروب والثورات والكوارث، من أجل جمع مختلف الأحزاب والقوى السياسية. على أنه لابد من التمييز هنا بين حكومة التوافق (الشراكة) وحكومة الوحدة الوطنية، ذلك أن الأخيرة يمكن أن تضم أحزابا منافسة، حيث تتوحد لفترة محددة لخدمة البلاد وانتشالها من الأزمة. وتأريخ بريطانيا، على سبيل المثال، شهد في فترات مختلفة مثل هذه الحكومات، التي تم تشكيلها من أحزاب المحافظين والعمال والليبراليين.
كما شهدت كل من بلجيكا واليونان ولبنان حكومات الوحدة الوطنية، التي يكون من بين أهدافها التغلب على الأوضاع الاقتصادية الصعبة، أو مجابهة الأعداء الخارجيين ... وغيرها. ومن أهداف حكومة الوحدة الوطنية أيضا توحيد مختلف الطبقات الاجتماعية، التي ترى أن مختلف القوى السياسية موحدة أمام الخطر الداهم، وهو الأمر الذي يعزز الوحدة الوطنية
وتنتمي حكومة الأقلية إلى ما يدرج في أدبيات القانون الدستوري ضمن الحكومات الحزبية، أي تلك التي يكون المعيار الحزبي وطبيعة التحالفات بين أقطاب العملية السياسية في الصميم من عملية تشكيلها. لكن التأريخ السياسي للكثير من البلدان يشير إلى حكومات لا تلعب التركيبة الحزبية للمجتمع دورا في تشكيلها.
إنني أرى أن الحالة العراقية الراهنة تستدعي من القوى السياسية المختلفة، وخصوصا الكبيرة منها، الترفع عن المصالح الذاتية والبحث عن السبل الكفيلة بانتشال البلاد من الأزمة الحالية، وربما كانت الحكومة المؤقتة أحد الحلول الناجعة للوصول إلى هذا الهدف النبيل