نظــرة قانونيــة: رئيــس الحكومــة/ د. فـلاح إسـماعيــل حاجــم

بأمل وقلق كبيرين يترقب المواطنون العراقيون ما ستنتج عنه جولات الحوار بين الفرقاء السياسيين، الذين لم يتمكنوا في أولى جلسات البرلمان من انتخاب رئيس لأحد أهم أضلاع السلطة، وهي السلطة التشريعية، والانطلاق لإنجاز الاستحقاقات الدستورية التالية المتمثلة بانتخاب رئيس للبلاد، الذي يدخل ضمن صلاحياته، كما تنص المادة (76 ) أولا من الدستور، تكليف "مرشح الكتلة الأكبر عددا في البرلمان بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشر يوما من تأريخ انتخاب رئيس الجمهورية".
لكن بصيص أمل العراقيين هذا سرعان ما يتبدد أمام حالة القلق المشروع من إعادة إنتاج المحاصصة الطائفية، التي بدأت مؤشراتها جلية منذ الجلسة الأولى للبرلمان، حيث بات من الواضح أن انسحاب بعض الكتل من تلك الجلسة كان بسبب الخلاف على توزيع المناصب المهمة بين هذا الطرف أو ذاك من أطراف العملية السياسية، أو بين أعضاء الكتلة الواحدة، الأمر الذي يعد مؤشرا خطيرا للجوء القوى السياسية إلى انتهاج سياسة المحاصصة، في مخالفة صريحة للوعود التي قطعتها تلك القوى للناخبين، المتمثلة بالعمل على التغيير والتخلص من إرث المحاصصة الأثنية، والانطلاق نحو بناء دولة عصرية، يكون فيها المواطن الهدف الأسمى.
وفي ظل خلاف أقطاب العملية السياسية على هذه الشخصية أو تلك من قيادات الدولة والمجتمع، يختفي الحديث، أو يكاد، عن البرامج والخطط الواجب اعتمادها لمواجهة الحرب الإرهابية التي باتت تهدد مستقبل البلد ووحدة أراضيه، والانطلاق لتصحيح العملية السياسية المتعثرة . على أنه لابد من الإشارة هنا إلى أن السجال حول الشخصيات وإهمال التركيز على البرامج يبين مدى حاجتنا إلى بناء منظومة مؤسسات رصينة تعتمد مبدأ الفصل الايجابي بين السلطات، وتشديد الدور الرقابي لبرلمان الدولة، فيما تكون إعادة النظر بالدستور، الذي هو أقرب إلى وثيقة للمصالحة الوطنية، منه إلى مجموعة قواعد لتنظم عمل الدولة والمجتمع، من المسائل التي لا تحتمل التأجيل.
لقد أصبح موضوع الشخص الذي سيتسنم منصب رئيس الوزراء الأكثر إشكالية في السجال الدائر بين أقطاب العملية السياسية، إذ يجتهد البعض بعدم إمكانية تولي رئيس الوزراء الحالي المنصب للمرة الثالثة، مع أن الدستور العراقي الساري لا يحدد عدد المرات التي بإمكان رئيس مجلس الوزراء تولي هذا المنصب، بخلاف رئيس الجمهورية، الذي تشير المادة (72)- أولا من الدستور إلى إعادة انتخابه لمرة ثانية فحسب. وهنا يجدر القول أن أشد ما يمكن خشيته هو تحول هذه الممارسة (اشتراط تبديل الشخصيات مقابل الاستمرار بالعملية السياسية) إلى عرف سياسي، يمارس من خلاله ابتزاز الخصوم السياسيين وإسقاطهم، سيما وإن العملية السياسية قد شهدت سابقة بهذا الشأن.
من هنا ربما يكون من المفيد الإطلاع على الإرث الإنساني ودراسة الجوانب المختلفة الخاصة بمنصب رئيس الوزراء. مع التركيز على الدول التي اتخذت من البرلمانية شكلا للحكم.
ففي الملكيات المطلقة والملكيات المزدوجة وكذلك في الجمهوريات الرئاسية يعتبر رئيس الدولة (الملك أو الرئيس) من الناحية الفعلية، رئيسا للسلطة التنفيذية، مع كل ما يترتب على ذلك من خصوصية في غياب لمنصب رئيس الوزراء وكيفية تولي هذا المنصب وتشكيل الكابينة الوزارية وحجم الصلاحيات التي يتمتع بها أعلى منصب في السلطة التنفيذية دستوريا.
أما في الجمهوريات البرلمانية والمختلطة (نصف برلمانية، نصف رئاسية)، وكذلك في الجمهوريات والملكيات البرلمانية، فانه لا تستقيم منظومة أجهزة الدولة بدون منصب رئيس الوزراء، الذي تختلف تسميته في مختلف البلدان. لكن التسمية الأكثر انتشارا هي إما رئيس الوزراء، أو الوزير الأول، حيث يذهب الانجليز، باعتبارهم بلد البرلمانية التاريخي إلى إطلاق تسمية الوزير الأول (prime minister) بالإضافة إلى ذلك فان هناك تسميات أخرى مثل رئيس مجلس الوزراء (ايطاليا، العراق) أو رئيس الحكومة (اسبانيا، التشيك)، فيما ذهبت تشريعات بعض الدول إلى إطلاق تسمية الوزير- الرئيس على رئيس الوزراء (بعض أراضي ألمانيا الفيدرالية). وهناك تسميات تعكس الخصوصية الوطنية لبعض البلدان. ففي ألمانيا والنمسا، مثلا، يسمى رئيس الوزراء المستشار الفيدرالي (الاتحادي). لكن المصادر التاريخية تشير إلى أنه في بداية الأمر كان الرجل الأول في السلطة التنفيذية يسمى كبير الوزراء، ففي بريطانيا، على سبيل المثال، كانت تطلق هذه التسمية على الشخصية التي كانت تساعد الملك في ادارة السلطة، فيما أدى انحسار الملكية المطلقة وتراجع دور الملك واختصاره بالاختصاصات الشكلية (الشرفية) إلى تبوء الوزير الأول المكانة الأبرز في الدولة.
يتميز الشكل البرلماني للحكم، الذي يعتمده العراق منذ التغيير في عام 2003، بأهمية الدور الموكل إلى رئيس الوزراء. فمع أنه يعتبر من الناحية الشكلية رئيسا للسلطة التنفيذية، لكنه يقوم، من الناحية العملية، بتنفيذ مهمات رئيس الدولة، فهو يخطط السياسة الداخلية والخارجية للدولة ويعمل على تنفيذها. ولأهمية دوره في منظومة أجهزة الدولة الأخرى يتم، في اغلب الأحيان، تضمين دستور الدولة قواعد لتنظيم عمل رئيس الوزراء. فالقانون الأساسي لألمانيا الاتحادية، على سبيل المثال، يذهب إلى أن المستشار الفيدرالي "يضع التوجهات الأساسية لسياسة الدولة ويتحمل المسؤولية عن ذلك" (المادة 65). وفي ايطاليا كذلك على رئيس الوزراء "قيادة سياسة الحكومة وتحمل المسؤولية عنها" (المادة 95). وهنا يجدر التذكير بأن كل من ألمانيا وإيطاليا تتخذان من البرلمانية شكلا للحكم، حيث صلاحيات رئيس الحكومة واسعة جدا.
وعادة ما يتزعم رئيس الوزراء في الدولة البرلمانية حزبا سياسيا، الأمر الذي يجعل من ذلك الحزب قائدا أيضا للدولة، لكن ذلك لا يمنع من لجوء رئيس الوزراء من التشاور مع رؤساء السلطات الأخرى إثناء اتخاذ القرارات، التي يتحمل هو المسؤولية الأولى عنها. على انه لابد من الإشارة هنا إلى أن صلاحيات رئيس السلطة التنفيذية عادة ما تكون أكثر سعة عندما يركن إلى أكثرية داخل البرلمان، مما هي عليه فيما لو قاد حكومة ائتلاف حزبي، إذ يترتب على رئيس الحكومة حينذاك تقاسم المسؤوليات وإتباع سياسة التوافق مع قادة تلك المكونات لتنفيذ سياسة الحكومة، وهو الأمر الذي من الصعوبة بمكان تحقيقه، خصوصا اذا ما تعلق الأمر بأحزاب تمثل مكونات أثنية مختلفة وتفتقر (الأحزاب) إلى الانسجام، الذي يعتبر الشرط الأهم لتطبيق سياسة الحكومة. وربما كانت التجربة العراقية خلال السنوات المنصرمة، وما ولدته سياسة المحاصصة، التي يطلق عليها جزافا التوافق، من مأزق حاد، يصعب التنبؤ بتقدير نتائجه، مثالا ساطعا على ذلك.
ونحن بصدد الحديث عن رئيس الحكومة يبدو مناسبا تناول الصلاحيات التي يتمتع بها. ففي أغلبية البلدان يعمد رئيس السلطة التنفيذية إلى اختيار أعضاء حكومته وتقديمهم بقائمة إلى برلمان الدولة للمصادقة عليها. فيما تكون مسألة إقالة الوزراء من مناصبهم من اختصاصات رئيس الوزراء، شريطة موافقة برلمان الدولة (المادة 87 من الدستور العراقي) ، أو بناء على توجيهه، مع أن هذه الصلاحية تعتبر، من الناحية الشكلية، من اختصاصات رئيس الدولة، الذي تقع عليه، من الناحية الشكلية أيضا، مشاريع القرارات، التي توضع، من الناحية العملية، من قبل رئيس الوزراء. وقد ذهب المشرع العراقي (المادة 80 من من الدستور العراقي)، مثلما ذهب أمثاله في ألمانيا وايطاليا إلى جعل هذه المهمة من صلاحيات رئيس الوزراء.
إن حجم الصلاحيات الكبير الذي يتمتع به رئيس الوزراء في بعض الدول دفع العلماء في مجال القانون الدستوري إلى وصفه بالملك غير المتوج. وربما كان رئيس الوزراء في المملكة المتحدة من بين رؤساء السلطة التنفيذية الأكثر نفوذا. فله وحده تعيين الوزراء وإقالتهم ويقود نشاطهم. وكذلك يشكل الحكومة الموسعة، والكابينة المصغرة داخل الحكومة (تؤلف من الوزارات المهمة). ومن مهمات رئيس الوزراء إعداد قرارات الحكومة النهائية. وبطبيعة الحال فان رئيس السلطة التنفيذية في المملكة المتحدة يترأس جلسات الحكومة، التي تعتبر سرية وليس لأعضاء الحكومة الحق بإعلان ما يدور داخل تلك الاجتماعات، وهنا تجدر الإشارة إلى أن رأي الأغلبية داخل الحكومة ليس إلزاميا بالنسبة لرئيس الوزراء، فيما لا يمتلك الوزير المخالف لرئيس الوزراء أي سبيل للتعبير عن معارضته سوى الاستقالة.
إن رئيس الوزراء في الملكيات والجمهوريات التي اتخذت من البرلمانية شكلا للحكم لا يختلف، من حيث حجم الصلاحيات، عن رئيس الجمهورية في الجمهوريات الرئاسية (الولايات المتحدة، البرازيل، مصر)، أو الجمهوريات المختلطة (فرنسا، سريلانكا). ومن بين الدول التي تمتلك رئيس وزراء مؤثر وقوي، دستوريا، اليابان وكندا والنمسا (مستشار) واستراليا والبرتغال والعراق ... وغيرها.
عندما يجري الحديث عن رئيس الوزراء يكون من الضروري الإشارة إلى الأجهزة الخاصة، التي تساعد الرجل الأول في السلطة التنفيذية في تنفيذ المسؤوليات الموكلة إليه. وقد شهدت السنوات الأخيرة تفرع الأجهزة المساعدة التابعة لرئيس الحكومة. وربما كان من بين أهم تلك الأجهزة هو مكتب رئيس الوزراء، الذي عادة ما يكون المسؤول عنه بدرجة وزير . ففي المملكة المتحدة يعتبر مكتب سكرتير رئيس السلطة التنفيذية، وكذلك مكتب سكرتارية الحكومة من الأجهزة المهمة في الحكومة. وفي فرنسا يستعين رئيس الوزراء بمكتبين، أحدهما مدني، فيما يتخصص الآخر بالشؤون العسكرية. أما في ألمانيا فهنالك قسم خاص للمستشار الألماني يترأسه موظف بدرجة وزير، وتكمن مهمته في إعداد التوصيات للحكومة الفيدرالية ورئيسها (المستشار). ومن وظائف القسم الهامة وضع مشاريع القوانين والقرارات الحكومية. وقد ذهبت بعض الدول إلى سن قوانين لإنشاء وتنظيم عمل الأجهزة المساعدة للحكومة ورئيسها. ففي إسبانيا، على سبيل المثال، هناك قانون ينظر في كيفية إنشاء سكرتارية الدولة للعلاقة مع البرلمان، وسكرتارية خاصة للتشريع، بالإضافة إلى السكرتارية العامة .. وغيرها. وربما يكون من المناسب، بالنسبة للتجربة العراقية المتعثرة، الاستفادة من تجارب بلدان الديمقراطية المتأصلة في هذا الجانب، بهدف مد جسور متينة وبناء علاقات سليمة بين السلطة التنفيذية والسلطات الأخرى، وخصوصا السلطة التشريعية، وهو ما سيؤدي إلى إزالة الكثير من التداخل في عمل السلطتين ويفعل مبدأ الفصل الإيجابي بين السلطات.
إنني أرى أن مؤتمرا وطنيا جامعا للقوى السياسية الفاعلة في المجتمع، بموازاة الفعاليات الرسمية الجارية حاليا لتحقيق الاستحقاقات الدستورية، سيكون له أثرا كبيرا في دفع العملية السياسية وتعزيز ثقة المواطن ودعم القوات المسلحة في مكافحة الإرهاب وتصحيح مسار العملية السياسية باتجاه بناء دولة الحق والمؤسسات.