مرة أخرى ، التيار الديمقراطي : بين هَم الأمل وثقل العمل/ د.غالب محسن

نقد الذات قبل نقد الوقائع

على الساحل الغربي السويدي وفي مدينة يتبوري أستضاف البيت الثقافي العراقي وبالتنسيق مع جمعية المرأة العراقية يوم الأحد 30 حزيران 20103 السيد جاسم الحلفي عضو اللجنة التنفيذية للتيار الديمقراطي للحديث عن واقع وآفاق عمل التيار . والسيد الحلفي شخصية سياسية عراقية معروفة وناشطة وهو عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي .

أنا والسيد الحلفي ، أبو أحلام ، تربطنا علاقات نضالية قديمة تمتد في جذورها حتى مطلع الثمانينات من القرن الماضي عندما كنّا معاً في حركة الأنصار للمقاومة المسلحة ضد نظام صدام الدكتاتوري المقبور . لقد عرفته جريئاً ، صريحاً وعفوياً ، وهكذا كان في الأمسية . أن الظروف النضالية الصعبة التي تواجهها القوى الديمقراطية والسياسية عموماً التي وصفها والتي تقترب في كثير من الأحيان الى حد المستحيل أو كما قال هو " عند حافة الهاوية " ، أنما تثير فينا من ناحية أخرى مشاعر الأعجاب والتقدير لأولئك الذين لا يملّون الكفاح ويصرّون على مواصلته من أجل عراق ديمقراطي آمن ومزدهر .

ربما يعرف العديد من القرّاء الأعزاء أنني كتبت منذ حوالي العامين مقالين مطولين في هذا الموضوع أرتباطاً بالجهود ، في وقتها ، لتشكيل فروع للتيار في السويد وغيره من البلدان ( نشرا تباعاً في الحوار المتمدن في 2 و 29 نيسان 2011 ثم في موقع الناس وغيره ) . أعتقد أن الكثير مما جاء فيهما ما زال حياً .

شجون وظنون في العدالة الأجتماعية

ما زلت حتى الآن ، وبعد الأمسية ، لست متأكداً تماماً من أنني فهمت أهداف التيار ، سياسته ، قواه وتنظيماته . ولا أدري أن كان هذا مقتصراً على الجمهور ، مثلي، أم يشمل قوى التيار أيضاً . كان بودي لو بدأ السيد الحلفي جهوده من هذه النقطة حتى تتضح الصورة للجميع بدلاً من التشعب في تفاصيل كان بالأمكان تجاوز الكثير منها . ومن ناحية ثانية وددت لو كانت قاعدة الجمهور الحاضر أوسع وأن لا تقتصر على الأصدقاء والزملاء والرفاق ، فجمهور التيار حتى في الخارج لا بد أن يكون أوسع بكثير من تلك النخبة وإلا لأصبح التيار شكلياً . أولئك الذين أقصدهم هم أكثر حاجة منّا لمثل هذه الفعّالية وأنا واثق من أن حتى الأسئلة ستكون مختلفة ومفيدة ليس لأصحاب التيار فحسب بل و لنا أيضاً نحن الجمهور المهتم . على أية حال !

لكن عليّ الأعتراف من جهة أخرى ، مجازياً بالطبع ، بأن مزيجاً من مشاعر الفرح والحزن أنتابتني وأنا أستمع لحديث السيد الحلفي خصوصاً في موضوعتين : الديمقراطية بمفهوم العدالة الأجتماعية ودور منظمات المجتمع المدني في التيار عندما كرر حرفياً ، تقريباً ، ما طرحته قبل عامين في كتاباتي ومناقشاتي أيضاً .

أكد أبو أحلام أن الديمقراطية بمفهوم العدالة الأجتماعية ، ( الذي أعشقه ولا " أضجر منه " كما مازحني ) قد " يُقييد " التيار ويحصره في حدود ضيّقة في هذه المرحلة التي تتطلب أوسع تحشيد جماهيري ليضم كل القوى بما فيها الأسلام السياسي المعتدل . يمكن أن أُكمل ما قاله ، كل القوى التي تؤمن بالديمقراطية بأبسط أشكالها ( دولة مواطنة ومؤسسات وقانون الذي يعني عملياً ضد الطائفية و فصل الدين عن الدولة و التداول السلمي للسلطة ومحاربة الفساد وغيرها) . هذه الديمقراطية ليست ملك قوى اليسار وهي تختلف عن الديمقراطية بمفهوم العدالة الأجتماعية . أليكم ما كتبته في مقالتي المشار لها :

"أن تشكيل مثل هذا التيار والعمل المثابر من أجل توسيع قاعدته وجمهوره توفر فرص أفضل بالتأكيد في الضغط السياسي وربما واقعية أكبر في الوصول الى البرلمان " . وأيضاً: " ويكاد يكون مقبولاً عند الجميع أن القوى الديمقراطية ليست قاصرة على قوى اليسار فحسب . هذا الأقرار يتطلب تحرر فكري قبل الأعتراف اللفظي وألا تبقى مصداقية التيار موضع شك وريبة . "و أيضاً: " الجرأة في أن نتخلص من الشعور الفكري والنفسي ، الطاغي ، حد الوجع ، ومن ثم في الممارسة كمحصلة ، من أن التيار الديمقراطي هو ملك لجهة سياسية بعينها يحق لها أكثر مما لغيرها ".

الديمقراطية بمفهوم العدالة الأجتماعية تأتي لاحقاً بعدما تتحقق في شكلها الأول (أتحدث عن ظرف العراق الحالي) . لذا يجب أن تكون سياساتنا متوازنة مع طموحاتنا ، أي أن تكون واقعية ، فالشفافية وحق المواطن في المعلومات عن الشان العام والدولة ، التي يفتقدها السيد الحلفي في العراق ، وهو على صواب ، هي من مكونات الديمقراطية لكن لا يمكن أن تتحقق اليوم في العراق كما هي عليه اليوم في السويد ( ذكرها هو في المقارنة ) .

أما بخصوص منظمات المجتمع المدني فقد وردت في حديث الرفيق نفس الفكرة التي كتبتها وتجادلت مع الأصدقاء بشأنها . قال ما معناه أن منظمات المجتمع المدني ليست لها أهداف سياسية ولا تريد الوصول للسلطة .... الخ وبالتالي لايمكن أن تكون ضمن مكونات التيار كقوى لكن كأفراد . جاء في المقال المشار له :
" أذا كان هدف هذا التجمع الجديد ، سياسياً في الأساس ، كما عبّر العديد من المساهمين في اللجنة التحضيرية المؤقتة ، فأن هذا يعني من بين ما يعنيه تشكيل أئتلاف سياسي جديد مهما تفننا في محاولة الأحتماء وراء التسمية . لسنا هنا بحاجة للتنظير ، فلكل أئتلاف سياسي أهدافاً سياسيةً محددةً بما فيها الوصول الى البرلمان وربما السلطة أو المشاركة فيها . أذا كان الأمر كذلك فما هي حجتنا في أقناع المنظمات والجمعيات والروابط والنقابات والشخصيات للأنضمام للتيار وهي كلها ليست لها أجندات سياسية مباشرة و " طموحات " كما عند الأحزاب."

نقد الذات قبل نقد الوقائع
هذا هو العنوان الفرعي لسلسة التأملات التي بدأت في نشرها منذ بضع سنوات ، ويبدو أنه سيبقى لفترة قادمة أيضاً . فما زلت أشعر بأهميته اليوم ربما أكثر . أوضح السيد الحلفي أنه جرى تعديل على هذا المفهوم ( حصر الديمقراطية بمفهوم العدالة الأجتماعية وكذلك قضية منظمات المجتمع المدني ) بعد أن تبين أنه يُقيد الحركة ولابد من توسيعه ليضم أوسع القطاعات الجماهيرية وتحسين فرص وصولنا للبرلمان . كلام جميل لكنه مكرر .
هكذا يمكن الأعلان صراحة أن تصوراتنا كانت غير دقيقة في البداية والآن قمنا بتصحيح تلك المفاهيم والسياسة والتوجهات التي ترتبت عليها بعد أن أثبتت الممارسة عدم صوابها . في هذه النقطة لم يكن صديقي العزيز أبو أحلام جريئاً كما عهدته بل شعرت برفضه لفكرة النقد الذاتي عندما أزداد حماساً في " الشرح والتوضيح " و " الدفاع " بدلاً من المضي قدماً كي لا نتقع في التجريبية من جهة وأن نقدم الدليل على أستماعنا للآراء المختلفة التي تسعى لتقديم المساعدة . أن ترميم الآثار والأضرار المترتبة عن سياسة خاطئة ستكون أكبر بكثير من الأقرار العلني بأخطائنا الذي سيمنحنا ثقة أكبر بين الجمهور والقوى السياسية داخل وخارج التيار .

هذا الرفض الغير مباشر تكرر عندما تحدث بأسهاب عن قصور وعجز القوى الديمقراطية في موضوعة العامل الذاتي . تحدّث بحماس عن الفقر المالي ( ألم نكن دائماً هكذا) ، عن التقصير الأعلامي والتضامني وغيرها. تحدث أيضاً عن غياب الثقة بين المكونات نفسها ثم بين القوى السياسية . وهي نفس الفكرة التي خطرت في بالي " وبسبب غياب الثقة (كدت أقول أنعدامها) في السماوات العراقية الملبدة خصوصاً هذه الأيام ، فأننا هنا وفي هذا السياق بحاجة ، بدءاً ، لبناء ثقة من نمطين أو مستويين ، الأولى ثقة لدى الفاعلين والناشطين في التيار الديمقراطي عموماً ولجنته التنسيقية بشكل خاص لأنه الشرط الضروري لتأسيس الثانية وهي أكتساب ثقة الجمهور في أن مبادرة التيار هي مبادرة جادة وصادقة ليس الهدف منها مصلحة شخصية أو حزبية ضيقة" .

كيف تُخلق تلك الثقة أن لم نتحلى نحن ( الطليعة أن شاء البعض ) في جرأة الأعتراف بالخطأ والنقد الذاتي العلني الذي هو عندي شرط التحرر من ثقافة مهيمنة أساسها أمتلاك الحقيقة و هذا ليس في السياسة فحسب بل وفي الثقافة الدينية التي قد تكون أحد مسببات وأمتدادات الأولى . لكن صديقي أبو أحلام لم يتحدث ولا بكلمة واحدة عن أحتمال الخطأ في سياسة وخطاب وأسلوب عمل القوى الديمقراطية (بما فيها الحزب الشيوعي) ولماذا لم تستطع تلك السياسة أن تصل الى %70 من الجمهور الذي رفض المشاركة في الأنتخابات الأخيرة . ألا يحتمل أن في تلك ما هو بحاجة ولو حتى الى " تعديل " ولربما حققنا نجاحات أكثر قليلاً من الـ 2% التي يتباهى بها التيار في أنتخابات مجالس المحافظات (رغم أن السيد الحلفي لم يشأ المبالغة بها ).

لست متيقناً ما أذا كانت النوايا الحسنة تفيد في السماء ، لكنها لا تكفي قطعاً على الأرض ، الأعمال والنتائج هي المحك . فنحن ما زلنا نعاني ، في الممارسة لا القول ، من ثقافة غير ديمقراطية لا تقبل الجديد بل كثيراً ما يجري الأستخفاف بذلك الجديد بذرائع تبسيطية ذات هيمنة فكرية تُذَكِّر بثقافة الأيام الخوالي .

أليست هذه هي القيود التي ما زلنا نعاني منها ؟