بعد شهور على سقوطها: الموصل.. مدينة للخوف والجهل والحذر / حسب الله يحيى

(1)

لم يكن سقوط مدينة الموصل في 9/ 6/ 2014 بأيدي التنظيم الارهابي التكفيري (داعش) طارئاً في حياتها، ذلك ان هذه المدينة سبق وأن شهدت جملة من الاستباحات والمذابح والهيمنة والاحتلال وصلت الى (21) مرة بدءاً من عام 1261 حتى الآن .
وفي مقدمة الاسباب التي تكمن وراء احتلالها مراراً، كونها مدينة عريقة بتجاربها وموقعها الجغرافي وتمتعها بأراضٍ زراعية شاسعة .
كما أن سكانها يجمعون بين المحافظة على أرثهم، الى جانب وعيهم الحضاري المنفتح على العالم، وهو الامر الذي جعل التنوع القومي والمذهبي والديني.. يشكل قوة في بناء وجودها التاريخي والحضاري والاجتماعي.. وجعل من هذا التفاعل بين مكونات المجتمع الموصلي.. تفاعلاً إيجابياً منسجماً يجمع بين : العرب والكورد والتركمان والمسلمين والمسيحيين والايزيديين والصابئة والشبك والكاكائية.. مثلما جعل التداخل بين التحضر المدني للموصل مع القرى والارياف المحيطة بها، ونزوح كثرة من سكان هذه المناطق، بات يشكل عاملاً في مدى إنفتاح هذه المدينة على اقوام وعادات واديان ومناطق شتى .
ويطبع أهل الموصل أواصر القربى والمعرفة والتواصل، ومن طبعهم المسالم الذي يتعايش مع الآخرين بيسر وسهولة .
ومع ان طابع المحافظة على العادات والتقاليد الاجتماعية والتوجه الى الورع والتقوى.. يعد من سماتها البارزة؛ الا ان مناطق عديدة منها باتت تشهد متغيرات حضرية جديدة أبرزها : حي الجامعة والدواسة وشارع حلب.. وكان لافتتاح جامعة الموصل واستقبال الطلبة من مدن العراق كافة، فضلاً عن استقبال طلبة عرب.. قد أثر في انفتاحها وانتقالها الى مدينة متحضرة، تخرج عن عباءة التقاليد المتخلفة والعادات، التي لم تعد متلائمة مع متغيرات العصر.. هذا الواقع الحياتي الذي تتميز به هذه المدينة العريقة؛ بات الآن يواجه جملة من المحن بعد سقوطها بأيدي قوة إرهابية مسلحة ومتخلفة وطارئة على المدينة اطلق عليها تنظيم (داعش) .
ومع ان البعض يرى ان (داعش) قد وجد له حاضنة في الموصل، يرى آخرون ان هذه الحاضنة غير موجودة اصلاً، وإنما كان عنصر الخوف وفوبيا الحذر الشديد الذي ابتليت به هذه المدينة على مدى سنوات طويلة، كان قد جعلها تستسلم للبطش وقوة السلاح الذي اعتمده تنظيم (داعش) في وقت كان اهل المدينة عزلاً الا من شرطة محلية في الجانب الايمن.. وقد قتل معظم المنتسبين للشرطة على مراحل مختلفة، وكان معظم منتسبي الشرطة المحلية يتخفون ويعملون سراً ويعمدون للحفاظ على أنفسهم من الاغتيالات التي كانت تطالهم يومياً.. فيما كان الجانب الايسرتسيطر عليه عناصر من الجيش الاتحادي القادم من مدن عراقية مختلفة.. وبين شرطة خائفة، وحذرة، ومرعوبة.. تخشى الظهور بملابسها الرسمية او حملها للسلاح، الا اثناء الحراسات، وبين قوة عسكرية لا تعرف طبيعة أهل المدينة ولا تتقن التعامل معهم، وانما تلزم الاهالي بأوامر يعدها سكان هذه المناطق التي شغلها الجيش بأنها صارمة ومهيمنة عليهم ومهينة لكرامتهم .. الى جانب الاعتقالات القسرية والعشوائية وغير المسؤولة التي مورست ضد كثرة من الابرياء من دون ضوابط قانونية .
ومع ان المجتمع الموصلي، مجتمع قائم على عوائل عرفت بزعامتها وسطوتها واحترامها والتزامها بقيمها، هناك مجتمع عشائري يلتم على نفسه، ويعمل على تأكيد حضوره على الرغم من توجه معظم ابناء الموصل الى الاستجابة للقوانين التي تحفظ لهم أمنهم وسلامتهم واستقرارهم ونشر العدالة بينهم.. مثلما تحفظ لهم نظام حياتهم .
كذلك نجد ان الموصليين، شديدو الحرص على التمسك بفضائل الدين الاسلامي الحنيف، مع حرصهم على احترام الاديان الاخرى التي تعيش بينهم بسلام كالمسيحية والايزيدية والمندائية.. ولم تشهد الموصل خصومات مذهبية ابداً، وظلت حسينيات ومراقد الشيعة محترمة ومصانة ومفتوحة.. شأنها شأن مساجد وجوامع ومراقد السنة.. ومثلها المعالم الدينية كالكنائس والمعابد التي يركن اليها اصحاب الديانات الاخرى .
ولم تشهد الموصل خصومات على المذهب او القومية او المناطقية.. وإنما ظل المجتمع الموصلي مجتمعاً يبحث عن حياة آمنة مستقرة ..
صحيح ان عدداً من ضباط الجيش السابق.. هم من ابناء هذه المدينة، وصحيح ان تنظيمات اسلامية ومتطرفة، واخرى تنتمي في تفكيرها الى السلطة السابقة.. موجودون في هذه المدينة؛ الا انهم لايشكلون قوة يعتد بها، او يخشى من وجودها، ذلك ان معظمها قد انكفأ على نفسه، وبات يحرص على ذاته وعائلته من دون منغصات ..
وما يقال عن مساندة ودعم هؤلاء الضباط ومناصري السلطة السابقة، لتنظيم (داعش) الذي سقطت الموصل على ايدي عناصره؛ امر مبالغ فيه على الرغم من عدم نفيه او انكاره كلياً.. فيما يتجاوز حقيقة هذا الدعم عدد من (المحللين السياسيين) على الفضائيات ذلك ان الكثرة من الاسلاميين الموصليين لا ينتمون الى أي تنظيم سياسي، كما ان من كان ينتمي الى (حزب البعث) قد تخلى عنه بسبب الاحباط واليأس وفقدان الثقة بين اعضائه ..الى جانب تنظيم محدد للاخوان المسلمين ومن ثم تحوله الى حزب التحرير ثم الحزب الاسلامي وهو تنظيم مسالم لم يمارس العنف في خطابه الديني والسياسي .
اما الفئات السياسية اليسارية والديمقراطية، فقد غادر معظمهم الى المناطق المحيطة بمدينة الموصل مثل : القوش وقرة قوش وشقلاوة.. وذلك بسبب الاغتيالات التي طالت عدداً كبيراً منهم منذ سنوات تألقهم اواخر الخمسينيات.
فيما ظل الكورد يشكلون حضوراً آمناً ومستقراً في الجانب الايسر من المدينة.. بينما وجدت جماعات تعاني من الجهل والفاقة والدونية الذاتية وتمارس السطو والعنف معاً وصفت بـ (الغجر) او (العريبان) تغزو المدينة وتتحكم في إرادتها وهيمنتها على الكثير من المناطق المحيطة بأحياء الموصل القديمة.. وبات زحفها الى المدينة يشكل خطراً على طبيعة المجتمع الموصلي وجغرافيته .
هذا الواقع الموصلي بكل مايحمله من سلبيات وايجابيات، بات اليوم يواجه ضغوطاً قاسية بعد سقوط الموصل في 9/ 6/ 2014 .
وبعد ان شهدت الموصل إجراءات متسارعة قام بها تنظيم (داعش) برفع الحواجز من الازقة والشوارع، وتوزيع المياه بالخزانات المتنقلة، ومنع أي مظهر من مظاهر التسلح.. بدأ السكون يجتاح المدينة لبضعة ايام؛ الا ان هذا السكون بدأ يتحرك، ومن ثم يستاء ويغضب ويخشى ويعيش بحذر وترقب وقلق.. بعد ان كشف (داعش) عن هويته الحقيقية التي تكمن في فرض إرادته ونفوذ هذه الجماعات التكفيرية المسلحة، والعمل على بسط الاساليب القمعية والرجعية والسلفية التي تسعى وبشكل حثيث للعودة بالموصليين بل وبالعراق والعراقيين جميعاً الى قرون من التخلف والانحطاط والظلام.. والمجيء بنظام سلفي لايختلف عن (طالبان) في افغانستان، وهو ما لا يمكن للموصليين الذين عرفوا بعقولهم التنويرية القبول به والعودة بهم الى زمن التخلف الذي تقاطع كلياً مع متغيرات العصر .
وكانت مؤشرات (داعش) واضحة للعيان، وقد تبينها الموصليون جيداً من خلال تدمير أضرحتهم ومقدساتهم ومعالم مدينتهم وسرقة إرثهم وتراثهم وآثارهم.. ومنع تدريس البنات، وحرمان العنصر التدريسي النسوي، وفصل المرأة عن الحياة ضمن مفهومهم (وقرن في بيوتكن)، والتوجه لتشريع قوانين جائرة تتعلق بالزواج، وفرض الجزية على من تبقى من المسيحيين والايزيديين .. وغسل ادمغة الاطفال والعاطلين والزامهم بالانتماء الى صفوفهم ومن ثم تدريبهم واعدادهم للأنتحار باحزمة ناسفة او عبوات مزروعة او مفخخات معدة .
وتم التدخل في شؤون اللباس والمظهر والسلوك الاجتماعي.. وتمادى هذ التنظيم (داعش) في اعماله القمعية التي لم يعرف الموصليون مثيلاً لها في حياتهم وبدأ غريباً عليهم، وتبين الموصليون ان عناصر هذا التنظيم طارىء ولا صلة له بأبناء الموصل الاصلاء الذين يعرفون بعضهم البعض الآخر، واكتشفوا لغات ولهجات هذه العناصر التي لم يسمعوها من قبل.. الامر الذي جعلهم يدركون جيداً ان هذه الفئة غريبة وطارئة تماماً عن الموصل والموصليين.. وزاد من دهشتهم واستيائهم وخوفهم وحذرهم من اعلان (ابو بكر البغدادي) نفسه خليفة على المدينة، وما كان لأهلها القدرة على التنفس رافضين.. فالموت يطال من يعترض، والقصاص بالجلد لمن يخالف، اوامر الخليفة جائرة ولا قدرة لأحد على صده بوصفه حاملاً للسلاح، فيما المجتمع بكامله ليس اعزلاً فحسب وإنما يتوسل هواءه وقوت يومه وامنه.. لئلا ينطفىء في أية لحظة ..
من هنا نتبين ان الموصل باتت تواجه جملة من المحن التي يصعب حلها، فأهلها بين مشرد فاقد لسكنه وجمع عائلته، وبين مسحوق عاطل عن تأمين سلامته ورغيف خبزه ، وبين الجميع تتوزع قوى ظلامية تكفيرية تفرض نفوذها بقوة السلاح على مدينة ترتدي السواد الحزين فيما تخشى المدينة من زمن اسود قد يطول أمده ويمتد الى زمن غير معروف.. تسود فيه ادوات القمع والدمار، ويهيمن على وجود اهله الخوف والموت الزؤام والجهل والحذر الذي لا يستقر على أمن ولا عيش ولا حياة .
وعلى وفق هذا الحاضر التدميري الذي تشهد وقائعه الموصل اليوم، لابد من البحث عن سبل موضوعية دقيقة لتحريرها من القوى المسلحة التي يتقدمها (داعش) وبعض العناصر التي تعود بانتمائها الى الجيش والحزب السابق.. من دون ان نقلل او نبالغ في عدة وعدد هذه العناصر ..
وامام الحكومة بوصفها راعية امن واستقرار البلاد، العمل وبشكل استراتيجي وتكتيكي معا لعودة الموصل الى احضان العراق، وذلك عن طريق اكتساب الخبرات الوطنية من الجيش السابق، والقوى الوطنية والعشائرية وكسب ثقة الموصليين بايلائهم قدراً من احترام انتمائهم الوطني وارثهم الموصلي واعانتهم في محنتهم للخروج من الكارثة التي حلّت بهم ..
(2)
.. فشلت الحكومة المحلية في الموصل، في أولى مهامها، فضلاً عن فشلها في تفاصيل الواجبات الاخرى المناطة بها .
فشلت في بسط الأمن والاستقرار على مدى السنوات العشر الماضية، وهذا الفشل المعتق، هو الذي أوجد ارضية خصبة لئن تبسط قوى الارهاب نفوذها بأخذ الاتاوات من المواطنين من دون اتخاذ أي اجراء رادع ضد هذه القوى مما جعل نفوذها يتسع ويقوى ومن ثم يتمكن من الاعلان عن نفسه من خلال التعصب الظلامي الراديكالي المتمثل بتنظيم (داعش) الأرهابي .
وتمادت هذه العصابات المتطرفة في غلوها، وتوجهت الى اهانة ابناء الموصل بهدم وسرقة وتدمير المعالم الدينية والآثارية التي تميز مدينة الموصل وتعطيها خصوصية نادرة تمتد الى اكثر من (7000) آلاف سنة .
وعمدت هذه العناصر الارهابية الى فرض عقوبات واغتصاب اموال المواطنين تحت اساليب شتى.. منها: عدم ارتداء الخمار، او حلق اللحى، او ارتداء ملابس رجالية او نسائية لاتتلاءم مع مارسمه هذا التنظيم المعتم على الناس والتدخل في ابسط خصوصياتهم.
وتوجه (الداعشيون) الى الغاء كلية : الصيدلة والفنون واللغات، الأمر الذي أدى الى نزوح مئات الاطباء والصيادلة والطلبة من المدينة، الى جانب نزوح آلاف العوائل خشية من بطش يعد له هذا النفر التدميري .
من هنا يصبح توجه الحكومة المركزية ومعها كل القوى التنويرية الوطنية والموصلية منها على وجه الخصوص.. هي من يمتلك زمام المبادرة والنضال من اجل طرد هذه العناصر التي عاثت في الأرض فسادا، وشردت آلاف العوائل البريئة من البيئة التي كانت تتجذر فيها على مر الأزمنة .
ومع علمنا ان الامر ليس سهلاً، ولايمكن الحصول على نتائجه بالسرعة المرجوة؛ الا ان جملة خطوات من شأنها ان تعجل وتحقق المستقبل المنشود لمدينة الموصل، وذلك على وفق الطرق والأساليب الآتية :
1- توضيح حقيقة ان هذا التنظيم التكفيري يكفر المسلمين باستثناء المنتمين اليهم مع ان القران الكريم اورد (105) آيات تحذر العباد من دخول النار و (77) آية تشير الى جهنم ولم تكفر مسلماً، فيما جاءت اربع آيات فقط تشير الى مشركي مكة تحديداً .
2- كسب ثقة المواطن الموصلي، عن طريق زرع وعي متفائل وصادق وصميمي معه، والتعاطف مع ما اصابه من بلاء ومحن، وتقديم المعونة المادية والمعنوية التي من شأنها جعل كل مواطن موصلي يحمل زمام المبادرة في التخلص من هذا الوباء والكارثة التي الحقها تنظيم (داعش) به، وتعبئة الداخل، واعداده للأنتفاض على الواقع الفاسد الذي لحق بكل موصلي .
3- ضبط حدود الموصل والحيلولة دون دخول عناصر داعش من سوريا او تركيا او السعوية او المدن العراقية الاخرى .. والتنسيق مع القوات الكردية المسلحة (البيشمركة) لتنفيذ هذا الهدف .
4- العمل المخابراتي والاستخباراتي والامني الداخلي والخارجي مهم جدا في تحقيق ما نصبو اليه، شرط أن يتحرى الحقيقة والمصداقية والامانة والدقة، وان يكون المنتمون الى هذه الأجهزة ممن يتميزون بالكفاءة والمصداقية .
5- المعرفة المسبقة لتفاصيل اسلحة وافراد العدو (داعش) قبل الاقدام على أي عمل من شأنه الحاق الخسائر البشرية والمادية.
6- ايجاد الارضية والوقت المناسب، والانتباه الى الجبهة الداخلية في بقية مدن العراق،بحيث تكون آمنة ومستقرة.. لئلا تفتح جبهات اخرى.. وبالتالي يصعب ايجاد حلول لها.. مما يسبب كوارث وخسائر جديدة .
7- اعادة بناء الجيش العراقي الوطني العابر للطائفية والاثنية .. لا كما جرى من قبل وصُرِفَ عليه اكثر من (50) ملياردولار .. وحقق فشلاً في أول معركة له مع داعش !
وعلى وفق هذه الرؤى التي تنشد المساهمة ولو بجزء يسير يمكن ان تفتح ابواباً لحلول مرجوة للخلاص من هذه القوى التدميرية الدخيلة على العراق والعراقيين والتي ألحقت افدح الخسائر بالارواح والإرث الحضاري العراقي.. والذي إذا ما استمر فأنه سيمتد ليشعل نار الفتنة بين العراقيين وتحويل البلاد الى رماد ..
كما أن وجود وعي بالمواطنة المتآخية والمتراصة، والقوى المسلحة المؤمنة والمخلصة في اداء دورها ومسؤوليتها.. هي الاساس الفاعل في إنقاذ ليس الموصل حسب، وإنما كل شبر من العراق.. من آثام (داعش) وكل قوى الارهاب .
أخيراً .. ادعو والتمس مخلصاً من اجهزة الاعلام واتحاد الادباء ونقابتي الصحفيين والفنانين ووزارة الثقافة وحقوق الانسان والتربية والتعليم العالي والجوامع والمساجد والحسينيات والكنائس ومنظمات المجتمع المدني.. الى تغيير خطابها التقليدي والانتقال الى خطابات تثقيفية تعبوية تفضح القوى الارهابية وتتوجه لبناء مجتمع سلمي متآخٍ مزدهر ..