المسؤولية الفردية والتضامنية للحكومة وأعضائها / د. فلاح إسماعيل حاجم

أثار موضوع مسؤولية الحكومة، وما يزال يثير، اهتماما كبيرا، ليس فقط بين الفقهاء ورجال الدولة والمتخصصين في القانون الدستوري، بل أنه أصبح مادة للنقاش في أوساط واسعة من المواطنين، الذين يعتبرون الطرف الأهم في العلاقات الاجتماعية، التي تكون الحكومة طرفا أساسيا فيها .
وتكتسب مسألة مسؤولية الحكومة أهمية استثنائية في دول الديمقراطيات الناشئة، وتلك التي تعيش ظروف المرحلة الانتقالية من الأنظمة التوتاليتارية (الشمولية)، التي يكون من بين أهم سماتها ضعف، وحتى غياب، المسؤولية التضامنية والفردية للحكومة، ذلك أن مصير الحكومة وأعضائها عادة ما يكون خاضعا لمشيئة الدكتاتور وحزبه القائد. فيما توفر ظروف الديمقراطية غير المقننة وسيادة بدائل الدولة (الطائفة والقبيلة والحزب ...الخ) أرضية خصبة لتفشي ظواهر سلبية، مثل الفساد والتجاوز على القوانين وارتكاب المخالفات، التي ترقى في بعض الأحيان إلى مستوى الجرائم. وربما تمثل الحالة العراقية الراهنة مثالا ساطعا لذلك، حيث تشكل المحاصصة الطائفية المعتمدة في تشكيل الحكومة سببا مهما في ضعف الرقابة البرلمانية على عمل الجهاز التنفيذي للدولة، وهو الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى توفير الغطاء المناسب لارتكاب المخالفات القانونية من قبل الحكومة ووزرائها، وتوفير الحماية لهم.
وترتبط المسؤولية الفردية والتضامنية للحكومة بالمخالفات التي ترتكب من قبل أعضاء الحكومة منفردين خلال قيامهم بمسؤولياتهم كموظفين لدى الدولة، أو كأشخاص عاديين. وإذا كان الوزراء في الحالة الثانية، يتحملون المسؤولية عن مخالفاتهم الشخصية، التي لا ترتبط بنشاطهم الوظيفي، شأنهم شأن المواطنين الآخرين، فإنهم يتمتعون في بعض البلدان، وخصوصا (النامية) منها بالحصانة الوزارية، حيث يحال الوزير المخالف إلى القضاء فقط بقرار من البرلمان، فيما تتم مقاضاته أمام محاكم خاصة. من هنا تهافت الكثير من المسؤولين، وأعضاء البرلمان، الذين لم يحالفهم الحظ في الحصول على تفويض نيابي من الناخبين تحديدا، في الكثير من البلدان، وسعيهم للحصول على موقع وزاري، أملا في التخلص من المساءلة القانونية، أو على الأقل تعقيد إجراءات تفعيلها بحقهم.
ويمكن أن تكون مسؤولية الحكومة عن المخالفات القانونية التي ترتبط بالواجبات الوظيفية، وكذلك عن الجرائم الجنائية ، مثل الخيانة وغيرها، بالإضافة إلى الإخلال بأنظمة العمل وشروطه، وحتى عن التلكؤ في العمل وعدم القيام بالواجبات الملقاة على عاتقهم كما ينبغي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكثير من النظم البرلمانية تدرج المخالفة الأخيرة ضمن الخروقات السياسية، الأمر الذي تجلى بشكل معاكس وبوضوح جلي في التجربة العراقية الراهنة، حيث أصبح تعمد تأخير، أو عرقلة انجاز مشاريع إعادة أعمار البلاد أحد أدوات الصراع بين أقطاب العملية السياسية، فيما أصبحت مقاطعة جلسات الحكومة والانسحاب منها، لهذا السبب أو ذلك، أمرا طبيعيا في الحياة الوظيفية العراقية، لا يترتب عليه أي تبعات قانونية، أو نوازع أخلاقية.
ويذهب فقهاء القانون إلى تصنيف المسؤوليات إلى سياسية وجنائية ومدنية وانضباطية. وعادة ما تخص المسؤولية السياسية للحكومة بكاملها، أو الوزراء منفردين أمام البرلمان، أو رئيس الدولة، وكذلك رئيس الوزراء. وينتج عن المسؤولية أمام البرلمان سحب الثقة من الحكومة، أو الوزراء منفردين، على أنه لابد من الإشارة هنا إلى أن طلب سحب الثقة في هذه الحالة ممكن أن يتم بطلب من الحكومة ذاتها، الأمر الذي يترتب عليه حل الحكومة، أو إقالة الوزير (أو الوزراء) المعنيين. وربما يكون مفيدا الإشارة إلى أن مسؤولية الحكومة تكون، في أغلب الأحيان أمام غرفة البرلمان السفلى، في برلمان المجلسين (الغرفتين)، أو أمام برلمان الغرفة الواحدة. لكن ذلك لا يمنع من تدخل مجلس البرلمان الأعلى من التدخل ومحاسبة الحكومة في حالات نادرة. ففي ايطاليا، على سبيل المثال، تتحمل الحكومة المسؤولية أمام غرفتي البرلمان، لكن قرار إعلان سحب الثقة الأخير عن الحكومة، أو إقالة الوزراء منفردين، تعتبر من الاختصاصات الحصرية لغرفة البرلمان العليا (مجلس الشيوخ). أما في العراق فقد أكدت المادة (83) من الدستور على أن "تكون مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء أمام مجلس النواب، تضامنية وشخصية".
ومن الممكن أن تكون المسؤولية السياسية للحكومة والوزراء أمام البرلمان تضامنية، أو فردية، حيث يترتب على الأولى إقالة الحكومة بكامل أعضائها، حتى في حالة سحب الثقة عن أحد وزرائها فقط (فرنسا، اسبانيا، كوبا). فيما تعني المسؤولية الفردية تسريح الوزير، الذي يقرر البرلمان سحب الثقة منه. على أنه من المفيد الإشارة إلى أنه من الممكن تفعيل شكلي المسؤولية، الفردية والجماعية على حد سواء. لكن مراجعة بسيطة لتشريعات مختلف الدول حول هذا الموضوع تشير إلى التوجه نحو تعقيد الإجراءات المرافقة لإعلان سحب الثقة عن الحكومة والوزراء، وتتمثل تلك الإجراءات في اشتراط جمع عدد كبير من تواقيع أعضاء البرلمان لاقتراح مناقشة موضوع سحب الثقة عن الحكومة، أو أحد وزرائها (ربع أعضاء البرلمان في جمهورية التشيك، ما لا يقل عن ثلث أعضاء البرلمان في بيلاروسيا، بالإضافة إلى القيام بعمل تحضيري معقد والقيام بمحادثات طويلة بين البرلمانيين ومرجعياتهم السياسية...الخ).
من جهة أخرى، وبموازاة السعي لتعقيد إجراءات سحب الثقة من الحكومة، يمكننا أيضا ملاحظة انتشار ظاهرة اللجوء إلى إقالة الحكومة وأعضائها، مع بعض الشروط، حتى في الدول التي اتخذت من الجمهورية الرئاسية شكلا للحكم، إذ يمكن ملاحظة ذلك في بعض دول أمريكا اللاتينية مثل كوستاريكا وفنزويلا والاورغواي وغيرها. غير أنه لابد من التـأكيد هنا بان سحب الثقة في هذه الحالة يتخذ ضد وزراء منفردين، ذلك أن الحكومة في البلدان المذكورة مؤلفة من كابينة رئيس الجمهورية ذاته.
إن المسؤولية السياسية أمام رئيس الدولة عادة ما تكون في الجمهوريات الرئاسية، وشبه الرئاسية، التي تسمى أيضا نصف برلمانية أو نصف رئاسية (جورجيا وأوكرانيا بعد التعديلات الدستورية لعام 2004، روسيا، كولومبيا، الاكوادور، البيرو ... وغيرها)، وكذلك في الملكيات المزدوجة، وشبه المطلقة (الأردن، المغرب، الكويت، البحرين، عمان، قطر، الأمارات العربية المتحدة). وعادة ما يقوم الملك أو الرئيس في الدول التي اعتمدت هذه الأشكال من الحكم بإقالة رئيس الوزراء، الأمر الذي يترتب عليه تسريح الحكومة. وينبغي التأكيد هنا على أن مسؤولية الحكومة أمام رئيس الدولة غير موجودة في الملكيات البرلمانية (بريطانيا، النروج، السويد، الدنمرك، اسبانيا ... وغيرها). وربما يكون من المفيد التذكير بأن أول رئيس لروسيا الاتحادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بوريس يلتسين، استخدم صلاحيته في إقالة رئيس الوزراء، ونتيجة لذلك الحكومة بالكامل، ست مرات خلال سنة ونصف فقط من فترة حكمه.
أما المسؤولية السياسية أمام رئيس الوزراء فإنها عادة ما تكون في الملكيات والجمهوريات التي اتخذت من البرلمانية شكلا للحكم، حيث يكون رئيس الوزراء قائدا للحزب، أو الكتلة الأكبر في البرلمان. وتتلخص المسؤولية السياسية في هذه الحالة بطلب رئيس الوزراء من الوزير المعني تقديم استقالته في حال بروز اختلافات جوهرية حول عمل وسياسة الحكومة. ففي ألمانيا، على سبيل المثال، أقدم المستشار الألماني أكثر من مرة على إقالة بعض وزرائه بسبب تصريحاتهم السياسية غير المنسجمة مع سياسة حكومة المستشار وحزبه الحاكم. ويمكن لرئيس الوزراء في الجمهوريات شبه البرلمانية وشبه الرئاسية (نصف الرئاسية ونصف البرلمانية) إقالة الوزراء فقط من خلال رئيس الجمهورية، باعتبار أن تعيين الوزراء يدخل في اختصاص الرئيس، وبالتالي فان مسألة إقالتهم تعود إليه أيضا.
وكما تنوعت أشكال المسؤولية السياسية للحكومة ووزرائها، اختلفت تصنيفات المسؤولية الجنائية للوزراء عن الجرائم التي ترتبط بتأدية الوزير لمسؤولياته الوظيفية. ففي بعض البلدان من الممكن إقالة رئيس الوزراء، أو الوزير، من قبل البرلمان، تماما مثلما يقال رئيس الدولة المتهم بارتكاب جرائم جنائية، قبل مقاضاته وإدانته من قبل المحكمة. في حين لا تمنح تشريعات البعض الآخر من الدول جهاز الدولة التشريعي (البرلمان) حق إقالة الرئيس، مكتفية بمنحه توجيه الاتهام فقط (فرنسا وبولونيا)، فيما تقوم المحاكم الخاصة بمقاضاته وإصدار الحكم بحقه. أما عن الجرائم العادية، التي ليس لها علاقة بوظيفة رئيس الوزراء، أو الوزير فان المتهم يحاكم أمام المحاكم العامة، شأنه شأن المواطنين العاديين. وربما يكون من المفيد التأكيد أنه في حال امتلاك رئيس الوزراء أو الوزير للحصانة، فان إجراءات توجيه الاتهام والإحالة إلى القضاء عادة ما تبدأ تحت قبة البرلمان.
ومن بين مسؤوليات الحكومة التضامنية والفردية تلك التي ترتبط بالدعاوى المرفوعة ضد الحكومة والوزراء بسبب الأضرار التي تلحق بالأشخاص الاعتباريين والمعنويين في حال خرق القانون، أو التطبيق الخاطئ للتشريع من قبل الحكومة، أو الوزراء منفردين، وكذلك في حال تلكؤأو تقصير الحكومة في معالجة آثار الكوارث الطبيعية والحروب (ايواء النازحين وحمايتهم، على سبيل المثال).
وهنا تجدر الإشارة إلى أن عدد تلك الدعاوى عادة ما يكون مرتفعا في البلدان التي يتمتع مواطنوها بمستوى عال من الثقافة القانونية، مع وجود الآليات التي من شأنها مساعدة المواطنين وتسهيل عملية التقاضي أمام المحاكم المختصة. وربما كان لمنظمات المجتمع المدني، والمنظمات غير الحكومية، مثل النقابات وغيرها، دور هام في تفعيل حق المواطنين في التقاضي للدفاع عن واستعادة الحقوق التي تنتهك بسبب الإهمال الوظيفي، أو بسبب خرق الموظفين لتشريعات العمل وشروطه وانتهاك حقوق المواطنين.
ومن بين مسؤوليات أعضاء الحكومة، التي يرى الكثير من المتخصصين بالقانون الدستوري أنها فردية وترتبط بالمخالفات التي ترتكب من قبل هذا الوزير أو ذاك، هي المسؤوليات الانضباطية، الناتجة عن الإهمال أثناء تأدية عضو الحكومة لواجباته الوظيفية، مثل التغيب عن العمل، أو عدم الانتظام في حضور اجتماعات الحكومة ونشاطاتها... الخ. لكن التجربة العراقية، والواقع الذي فرضه نظام المحاصصة الطائفية في تشكيل الحكومة، تدفعنا إلى الاعتقاد أن ليس بالضرورة أن تكون تلك المسؤوليات مجرد فردية، وأنها من الممكن أن تكون تضامنية أيضا، شأنها شأن المسؤوليات السياسية والمدنية. فالانسحاب المتكرر لممثلي الكتل السياسية من جلسات الحكومة ومقاطعتها، بشكل جماعي، بسبب الخلافات السياسية، يزيل عن تلك المسؤولية صفة الفردية، الأمر الذي يضعنا أمام واقع ينبغي التفكير إزاءه بوضع تصنيف نظري لهذه الظاهرة.
إنني أرى أن انجاز شروط المرحلة الانتقالية في بناء الدولة، والعمل على إرساء أسس ديمقراطية حقيقية يتطلب تعزيز الرقابة البرلمانية على عمل السلطة التنفيذية، وتفعيل المسؤولية التضامنية والفردية للحكومة ووزرائها، الأمر الذي لا يمكن القيام به في ظل نظام المحاصصة، التي باتت تشكل العقبة الكأداء في طريق بناء الدولة الحديثة.