آه... يابلد : "دبان" و "زمن حاتم زهران" (2) / مازن العاني

مازلت اذكر جيدا تفاصيل صغيرة عن كثيرمن شخوص الايام الخوالي واحداثها اليومية العابرة في مدينتي البعيدة، تلك التي نامت مسترخية في أعالي الفرات لاكثر من ألفي عام، قبل أن تبتلعها مياهه في حوض السد العملاق الذي شيد جنوب شرقها.
أتذكر كيف ان العوائل كانت تعتمد في حصولها على الطحين، الذي لم يكن يباع في السوق، على إرسال ما عندها من حنطة الى طاحونة المدينة، وكان الكادح "دبان" وحماره الهزيل واسطة النقل بين البيوت والطاحونة. دبان هذا كان "مدمناً" على شرب الشاي، ولا يكتفي بإستكانين تجري استضافته بهما، كما جرت العادة، بل كان عليه وهو الرجل الخجول ان يبتدع "حيلة" مقبولة اجتماعيا تطمن إدمانه، فكان بعد ان يشرب نصف الاستكان يلتفت الى مضيفيه: "يبدو ان السكر زائد في الاستكان ان أمكن كسره بقليل من الشاي". وبعد ان يُلبى طلبه ويأخذ رشفتين، يلتفت مجددا طالبا قليلا من الماء لتخفيف المرارة. يشرب من جديد ثم يطلب قليلا من السكر لان طعم الشاي صار باهتا ، بعدها يطلب اضافة الشاي لان ما يشربه ما عاد شايا بل "قنداغاً"، وهكذا يواصل ممارسة لعبة "الحلو والمر"، حتى يروي عطشه بخمس او ست استكانات على اقل تقدير.
ما ذكرني بـ"دبان" ابن مدينتي المغمورة المغدورة هو سلوك لجان توقيع عقود المشاريع في كثير من وزارات الدولة ومؤسساتها في عموم المحافظات، وشركات ومقاولي زمننا الرديْ، "زمن حاتم زهران"، زمن الغش والتدليس.
فساد الصفقات والمقاولات المشبوهة ليس بالجديد، ويتذكر الكثيرون منا كيف بدأت أعراض هذه الآفة بشكل صارخ منذ الفورة النفطية بداية سبعينيات القرن الماضي حين توجهت الدولة لبناء مشاريع تنموية. يومها تصدر اسم "خال الحزب" محافظ بغداد، او "حرامي بغداد"، خير الله طلفاح قائمة المضاربين في مناقصات الدولة والمبتزين للمقاولين وللشركات. حدث ذلك قبل ان يشتهر هذا الحرامي والبطانة الحاكمة بشراهتهم ونهمهم بالاستيلاء على بساتين المواطنين واراضيهم الزراعية.
اليوم تكاثرالسراق و تناسل المحتالون وعشعشوا في مرافق الدولة مراكمين خبرات وألاعيب اسلافهم.
وتخضع مناقصات المشاريع الحكومية لسرقات وعمليات نصب، يشارك فيها مسؤولون في اغلب المؤسسات بالاتفاق مع شركات غير رصينة ومقاولين فاشلين، وباسناد من احزابهم أحياناً. فبعد ان ترسو المناقصة على احدهم، ويباشر في التنفيذ، تبدأ الجهات الرسمية بارسال طلبات (أوامر غيار) لزيادة نسبة المبالغ المرصودة للمقاولة او الكلفة الكلية لها الى الجهة الحكومية المعنية، وهي وزارة التخطيط. وكثيرة هي المشاريع التي قُدمت بشأنها ثلاثة واحيانا أربعة طلبات لزيادة الكلفة على المشروع الواحد، على طريقة "الشاي الحلو والمر" لطيب الذكر دبان، مرة بحجة ظهور مشاكل تصميمية اثناء التنفيذ، واخرى بذريعة نواقص في جدول الكميات الاصلية المعدة للتنفيذ، وثالثة بزعم خطأ في احتساب مقاومة التربة، ورابعة الحاجة لتنفيذ فقرات اضافية وخامسة وسادسة وغيرها. ووصل الأمر الى حد ان بعض المشاريع تضاعفت كلفها مرة ومرتين وثلاث، حتى وصلت مبالغ التغيير الاضافية فوق ما أنفق عام 2013على المشاريع الاستثمارية حوالي خمسة ترليونات دينار، وهو ما يعني نسبة تغيير تعادل 24 بالمئة من المبالغ المقرة رسميا.
نعم صفقات مشبوهة بين الشركات المتعاقدة ومسؤولين رسميين من "لعبة السي ورق" ومحترفي "البيضة والحجر"، يجري عقدها منذ البداية على قاعدة "شيلني وأشيلك أنا برضو إرتحتلك".