آه.. يا بلد (3) / مازن العاني

"اكتب عندك.. ترليونات أتلفها الفساد..!
فى الجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ "بين القصرين" بدا "سى السيد" مبددا لثروته على نساء الليل في السهرات الحمراء وعوامات النيل. وفي مشهد من الرواية، ومن الفلم الذي حمل نفس الاسم، وحينما ارادت احدى بنات الهوى دفع حساب مشترياتها من حانوته اعتذر عن استلام ثمن البضاعة، لان "الحساب وصل، من ساعة ما حصل"، كما رد عليها. وعندما سأله مساعده في الحانوت عن كيفية تسجيل البضاعة التي لم يُدفع ثمنُها ، قال مقولته الشهيرة: "اكتب عندك ... بضاعة أتلفها الهوى".
ذكرني بـعوامات "سي السيد" و"عالم العَوالِم" ما ورد في مقال لرئيس ديوان الرقابة المالية السابق نشرته مؤخرا احدى الصحف المحلية، أكد فيه ان جميع موازنات العراق منذ عام 2005 حتى عام 2011 ، باستثناء موازنة عام 2009، كانت تبدأ بعجز مالي وتنتهي بفائض في نهاية السنة، حتى بلغ مقدار الفائض خلال تلك السنوات 75 ترليونا و763 مليار دينار.
وجاء استمرار ارتفاع فائض الموازنة العامة طوال السنوات الماضية بعد عام 2003، مصاحبا لزيادة في العوائد المالية للصادرات النفطية، ولتدني في مستوى الانفاق الفعلي على المشاريع التنموية، ارتباطا بتدني نسب انجاز تلك المشاريع.
تُرى.. اين ذهبت تلك الترليونات الفائضة المدورة ؟.
وكيف جرى التصرف بها؟
يشير ديوان الرقابة المالية إلى ان الحكومات السابقة تعاملت مع الفائض المالي بصورة تذكرنا بطريقة "بضاعة أتلفها الهوى"، باعتبار الفائض موارد حرة تستطيع الحكومة التصرف بها على هواها، دون حسيب او رقيب، ودون أن تأخذ بنظر الاعتبار الالتزامات المترتبة على الموازنة العامة. بل حتى مجلس النواب، ممثل الشعب والرقيب على التصرف بثرواته، تعامل بعبث وزاد من الانفاق وفتح ابوابا للصرف لاسباب أقل ما يقال عنها انها استهدفت اغراضا انتخابية.
على الضد من عبث الحكومة ومجلس النواب وهوسهما في الانفاق الباذخ المستفز لمشاعر الناس، ارتفعت اصوات وطنية نزيهة ليست بالقليلة طالبت بضرورة كشف الفائض امام البرلمان والرأي العام، والتعامل معه بذمة ومسؤولية ووفق الضوابط المالية و القانونية. غير انك "اسمعت لو ناديت حيا..".
جانب من المطالبة الحريصة دعا للاحتفاظ بالفائض في صندوق خاص للاجيال القادمة اسوة بدول اخرى، مثل الكويت التي تمتلك حسابا خاصا اسمته "احتياطي الأجيال القادمة " استحدثته منذ منتصف السبعينيات لتأمين مستقبل تلك الاجيال. ويضم هذا الاحتياطي اليوم مبلغ 262 مليار دولار.
ديدن حكوماتنا ظل يدور حول "التخطيط المستمر لعجز الموازنة" و"استخدام المدور او الفائض" خارج الضوابط والسياقات. هذا السلوك من وجهة نظر حسني النية يعكس عدم دراية كافية وفهما خاطئا للموارد ولمفهوم الموازنة العامة ودور أدواتها. لكنه يعبر في حقيقة الامر عن عبث واستخفاف بموارد البلاد وثروات الشعب من جانب "عَوالمِ" عالم العولمة، ونهمهم لمواصلة الاختلاس والسرقة والانغمار في مستنقع الفساد.
عفوك "سي السيد" ومعذرة ان كنت قد اوردت اسمك مع هؤلاء، فانا اعرف ان بعدك عمن أعنيهم هنا بقدر بعد السماء عن الارض. نعم لقد كنت عابثا ومصابا بهوس التبذير، لكنك كنت تعبث بمالك وصحتك وتستهين بهما، وليس كما يفعل الفاسدون في دولتنا حين يعبثون بثروات البلاد وقوت الفقراء.