ماذا بعد القضاء على تنظيم داعش" ؟ / فوزي الاتروشي

الثابت ان لكل ظاهرة علتها وان لكل نتيجة ومحصلة مقدمات تواترت وتراكمت فافضت اليها، وان القضاء المبرم على النتائج هي نقطة البداية لمراجعة البذور الاولى بغية القضاء النهائي على الظاهرة.
هذا هو المنطلق لتجفيف منابع ظاهرة الارهاب ومنها نسخة داعش والنسخ العديدة المتناثرة والمتماثلة في منطقتنا, فالسؤال هو ماذا بعد القضاء العسكري على فلول الارهابيين وطردهم خارج البلد وهو سؤال حيوي لابد من الوقوف والاجابة عليه اذا كنا طامحين في سلام ووئام واستقرار مجتمعي حقيقي غير زائف.
فمنذ التغيير في 2003 استجدت في الثقافة وفي اللغة، وفي طرائق التفكير العراقية اساليب جديدة لاعهد لنا بها، ومنها تبرير صعود التيارالاسلامي السياسي الى حد مغامرة البعض بالتهديد بخنق الخيارات الفكرية الاخرى داخل المجتمع، وبروز توجه صادم للارتداد نحو الماضي واحياء كل ما في المخطوطات الغابرة التي عفا عنها الزمن من سلوكيات ومصطلحات لغوية لا تنسجم مع واقع العصر، واصبح لرجل الدين قيمومة ليس على مجال ومفصل جزئي في حياة الفرد العراقي هو الدين، وانما امتد لمصادرة حريات الفرد وكل المجالات المعرفية الاخرى .
لقدأصبح البعض من رجال الدين هو العالم والطبيب والحجة القانونية والقضائية وصاحب الامر والنهي في قضايا الزواج والطلاق والاكل واللبس والخروج والاستمتاع بالموسيقى والغناء والرقص بل وحتى في مجال المطالعة وقراءة الكتب، وهذا مابرز مؤخرا في معرض كربلاء للكتب حيث منعت بعض روايات "احلام مستغانمي". واستبدت بعض الاحزاب الدينية وتعسفت في استعمال حقها وهي في قمة السلطة فلجأت الى وسيلة التحريم والتخويف والتكفير والاقصاء والتشويه بناء على مزاعم دينية وطائفية تراثية بدوية متعلقة بغابر الزمان .
اما المرآة التي تشكل اكثر من 50 بالمئة في المجتمع العراقي فجرى تكبيل طاقاتها بشكل لا نظير له في التاريخ العراقي وحجبت حقوقها، وشاعت ظاهرة المليشيات التي نصبت من نفسها شرطة لما سمي بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر والاعتداء في الشوارع على الفتيات بدعوى وجوب الحجاب وعدم السفور والحشمة والتقيد بعادات بالية سبق للمجتمع العراقي ان تخلى عنها منذ عشرينيات القرن الماضي، فاذا هي تبعث من جديد وكأن التاريخ ساكن لا حراك فيه. والانكى من ذلك ان الجامعات العراقية انضمت الى المد واصدرت تعليمات سطحية عبثية مهينة للعنصر النسوي حيث فرضت الواناً وخيوطاً وقياسات ونوعية قماش وفق معاييرها الفردية، تحت زعم تمثيلها للدين والدين منها براء. وليتها عززت الرصانة العلمية والبحث العلمي ومراكمة كفاءة الطالب والطالبة للحاق بمستوى الطلبة في العالم فيما ان اعرق جامعة عراقية لايتجاوز ترتيبها الالفين .
ومن جانب اخر تدخلت جهات عديدة محلية واقليمية لصالح تكاثر المنابر الاعلامية من الصحف والمجلات والاذاعات والفضائيات التي تمارس الشحن الطائفي , كل هذا مع عشرات من الظواهر الاخرى ادى الى تخندق طائفي وانقسام مجتمعي يبدو في كل مفاصل الحياة وحتى في شوارع ومناطق بغداد والمدن الاخرى ويبرز واضحاً من خلال صور ومقولات رجال الدين المنقسمين شيعهً وسنهً. وفي الجانب الاخر حصل تواطؤ لكل فئهً مع المتطرفين منها، فهي اذ تبرر عنف واستبداد وجرائم ابناء طائفتها تركز على استهجان واستنكار عنف متطرفي الطائفة الاخرى، وهنا لعب الارهاب لعبته الخبيثة، واستطاع غسل عقول الكثيرين من الجهلة والاميين والمقلدين والراقصين على الحبال وما اكثرهم في مجتمعنا.
وعودا على بدء نقول ان الامور بخواتيمها وان القضاء العسكري في جبهات القتال على داعش يعني فتح اول صفحة في كتاب التحدي والمواجهة الفكرية والاعلامية.
فمراجعة الذات تعني فيما تعنيه التغيير الجذري للمناهج وخاصة في الدراسه ما قبل الجامعية.
وبشكل اخص في الدراسة الابتدائية بالتركيز على دراسة الاديان وتاريخها ووظيفتها ومقاصدها على قدم المساواة والانفتاح الكلي على العطاء المعرفي الانساني الثرفي علوم الاجتماع والنفس والقضاء والقانون والفلسفة كونها عطاء انسانياً عابراً للحدود والقارات ولا علاقة له بامة دون امة او بقعة دون اخرى .
ولا بد من النظر بشكل غير محايد بل انحيازي انتقائي الى الماضي، للتعويل على المحطات المضيئة فيه فقط واستغلال عصارة تعيننا على مواجهة الحاضر واستشراف المستقبل، واللحاق بالحضارة. لان استنساخ الماضي بكل حقبه المظلمة من قبل بعض تيارات الاسلام السياسي هو الذي شكل جزءا من الازمة الفكرية في العراق. والى ذلك ولأنه في البدء كانت الكلمة، فلا بد من الاجماع العراقي على كلمة سواء فيما يخص مفهوم المواطنة والمساواة امام القانون واصدار قوانين صارمة لحماية الاقليات ومنع اي تشويه لأي دين او طائفة او عقيدة وتبني حملة فكرية عميقة لزرع الوئام والسلام بين الفئات والطبقات وبين الرجل والمراة وبين الاديان والطوائف كلها وصولا الى الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة التي تشكل نموذجا للعالم المعاصر.
ختاما نقول لكل الصامتين صمت القبور، الذين يسكتون دهرا وينطقون كفرا والمحنطين في الماضي اننا منذ الازل، كما قالت المقولة اليونانية القديمة، لا نضع قدمنا في النهر مرتين ..
فالحياة في تطور متسارع والقضاء المبرم على الارهاب يعني ان نغير ما في انفسنا وطرق تفكيرنا وسلوكيات حياتنا. وهذا هو الاساس الاول لدفن الارهاب الى الابد .