المنبرالحر

العدل طريق العراقيين نحو المصالحة الوطنية / د. جاسم محمد حافظ الساعدي

مر ما يزيد عن العقد من السنين، دون ان تزكي الحياة قدرة وكفاءة الطبقة السياسية والقوى الاجتماعية، وبالأخص منهم، الأحزاب والتيارات النافذة في الحكم في إدارة شؤون البلاد - أقرت ابرز قياداتها بهذه الحقيقة متأخراً - على حل أكثر المعضلات تعقيداً وأوسعها تأثيراً في كافة الظواهر الاقتصادية والاجتماعية، الا وهي المحافظة على وحدة النسيج الاجتماعي وتوطيد أواصر بنيته الهيكلية وتحقيق المصالح المشتركة لمكوناته، الأمر الذي وضع البلاد على مفترق طرق.
وان هذا كله ليس بمعزلٍ عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الموضوعية والذاتية المتردية، وآثارها السياسية الخطيرة، ومستوى انعكاس ذلك كله على الوعي الجمعي. فكيف لمجتمع خرج من أتون حروبٍ عبثية لا ناقة له فيها ولا جمل سوى الرغبة في إشباع نزوات طاغية مستبد، أعلى مصالح عائلته ومصالح الدول الأجنبية على مصالح شعبه،حروب استنزفت قدراته المادية والبشرية وطالت نيرانها قيمه الثقافية ومكانته الدولية، وخلفت وراءها (9) ملايين امي وحوالي 30 بالمئة من السكان تحت خط الفقر،كيف لهذا المجتمع وهو يعيش مآسي الطائفية والمحاصصة السياسية أن يجد له مكاناً مرموقاً في عالم فاقد للتوازن، وفي مرحلة تاريخية سمتها الرئيسة العولمة، التي تعني فيما تعنيه إلحاق مزيد من الشعوب وأسواقها الوطنية إلى حظيرة الرأسمال العالمي المتوحش، لانحسار أسواقه المحلية وتعمق أزمته الاقتصادية، التي لا طريق لتجاوزها إلا بترحيل هذه الأزمة إلى مناطق الإطراف الرخوة في أسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية، وتأجيج صراعات طائفية وعرقية هناك، تشعل فتيلها قوى محلية تطابقت مصالحها الأنانية الضيقة مع مصالح الرأسمال العالمي، لضمان خلق ظروف تساعد على تنشيط اقتصاديات مراكز النظام الرأسمالي العالمي وتسويق السلاح إلى المتحاربين والسلع الغذائية ومستلزمات إيواء الفارين من مناطق القتال الذين بلغت اعدادهم الملايين بحسب إحصاءات الأمم المتحدة.
لذلك سيكون من العبث بمكان تجاهل قراءة وإدراك هذا الواقع المعقد، وتحليل مكوناته في إطار رؤية إستراتيجية تتسم بالمرونة والوحدة العضوية، ومن ثم العمل على تغييره وإعادة تشكيله بما يخدم المصالح الوطنية العليا الجامعة لكل اطرافه، ولتحقيق ذلك يقتضي الأمر الإجابة على مايلي:-
ما هي أسباب الصراع الدائر في بلادنا؟
هي كثيرة ومتشعبة تلك الأسباب، غير ان مقتضيات الحاجة لمعالجتها، تستوجب الاعتراف أولاً، بأنها أسباب سياسية بامتياز أنتجت صراعاً، عَبرَعن نفسه بمظاهر واشكال مختلفة أبشعها العنف الذي يعكس بدرجه وأخرى طبيعة العقائد الفلسفية للمتصارعين ومساحات المناورة المحدودة امامهم، وان الجوهر الحقيقي لهذا الصراع هو تناقض المصالح الاقتصادية - الاجتماعية بين بعض قوى واطراف العملية السياسية من ناحية وبينها وبين المجتمع من ناحية ثانية، بهدف عرقلة وإفشال المشروع الديمقراطي الذي شرع شعبنا في العمل على إنجازه كبديلٍ عن النهج الدكتاتوري والاستبدادي في إدارة شؤون البلاد، وان هذا المشروع الحلم، أستفز كثير من القوى الاجتماعية المحافظة في داخل العراق وخارجه، التي رأت فيه تهديداً لمصالحها الفئوية والحزبية الأنانية الضيقة، في بيئة تتسم بالتخلف والأمية والفقر وبتراجع القيم الثقافية والأخلاقية الراقية ، التي جبل عليها العراقيون. وتجلت صور التخلف للأسف،في التخندق الطائفي والاثني والمحاصصة والفساد المالي والترهل الإداري وتغليب المصالح الشخصية على المصالح العامة وضعف مشاعر الانتماء الوطني وتعمق انعدام الثقة بين الحكومة والمواطنين.
والى جانب تلك الأسباب،تنصل غالبية اطراف العملية السياسية وبالأخص قوى المعارضة للنظام الدكتاتوري المقبور، عن تعهداتها في بناء النظام الديمقراطي الحقيقي واستحقاقاته، والنأي بالنفس عن تاريخ النضال المشترك وقيم التكافل الكفاحي الذي عاشوا فصوله الموجعة قبل السقوط المدوي لسلط البعث، وعلى الاخص تلك الاحزاب المتنفذة والحاكمة وإن بدرجات متفاوتة.مماوفر للقوى المتضررة من العملية السياسية إمكانية اختراق أجهزة الدولة والعمل على تشويه سمعتها ومن ثم التجربة السياسية برمتها. وما سقوط الموصل وفاجعة سبايكر وتردي الخدمات إلا تعبير عن هذا الإختراق المدروس.
كما تنبغي الإشارة إلى إن ما يربك المشهد السياسي ويعقد الحل هومواصلة نهج السياسة القائمة على الازدواجية والانفصام، باعتماد شكلين لإدارة الدولة والمجتمع في آن واحد، يشكل كل منهما نقيضاً للأخر وهما: الديمقراطية باعتبارها أرقى اشكال إدارة شؤون البلدان ، والعشائرية التي خلت مكانها تاريخيا للدولة في مراحل ظهورها الجنيني في حضارة ما بين النهرين.
ومن نافل القول التأكيد على الدور الكارثي للاحتلال الأمريكي، والتدخلات السلبية من قبل دول الإقليم كافة، وفقداننا القدرة على تحقيق السيادة الوطنية الناجزة وتحديد اتجاهات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. الأمر الذي شكل سبباً أساسيا للاستقطاب الطائفي والعرقي والانقسامات الأفقية والعمودية للمجتمع العراقي، واتفق ذلك كله بشكل كامل مع مبدأ " فرق تُسد " السيئ الصيت، الذي صب في طاحونة اللاعبين الإقليميين والدوليين في إطار إستراتيجيتهم في حماية مصالحهم الحيوية والتحكم بمصادر الطاقة في منطقة الشرق الأوسط، مما حول بلادنا إلى حلبة صراعٍ إقليمي ودولي نحن فيه ليس أكثر من قرابين طالتها الشظايا، ولا تستحق حتى الرثاء.
ناهيك عن ضعف دور غالبية المثقفين العراقيين ومنظمات المجتمع المدني في تشكيل جبهة واسعة، تتصدى لمهام الدفاع عن المشروع الديمقراطي وحشد الرأي العام للدفاع عنه،وإشاعة روح التسامح والتآخي والسلام الأهلي بين المواطنين. والتضامن مع مثقفي المناطق الساخنة ودعم نضالهم الصعب في مواجهة التطرف الاسلاموي المتحالف مع بقايا حزب البعث المحظور دستوريا، والذي يجب على الشعب العراقي اسدال ستائر النسيان عليه - كما حسم الشعب الالماني الامر مع النازيين - بعد تحقيق النصر النهائي على "داعش" لينطلق في مواصلة طريق بناء الدولة المدنية الضامنة للعدالة والمساواة.
ما هي الحلول الناجعة في تحقيق المصالحة الوطنية المنشودة؟
مما تقدم ينبغي على الاطراف والقوى السياسية المعنية بالمصالحة الحقيقية، ان تقر بالواقع السياسي الجديد القائم على التعددية والتبادل السلمي للسلطة، وتعترف بالحقوق المتساوية لكل اطياف الشعب العراقي، وان تحدد بدقة ودون مجاملة الاطراف التي تستهدفها عملية المصالحة الوطنية - شرط استبعاد البعث بكل تجلياته الانتهازية - وتؤمن بأنه لا فضل لعراقي على أخ له في المواطنة، إلا بمقدار ما يقدم لهذا الوطن من نفع وفائدة، بعيداً عن مشاعر التعالي والغطرسة ، أو الثأر والانتقام، وان ذلك لا يتحقق إلا من خلال التأكيد على تأمين مصالح وحقوق كل مكونات الشعب العراقي، واحترام الدستور والعمل على تحسين فقراته محط الاختلاف.وسريان تطبيق قانوني المساءلة والعدالة وقوانين مكافحة الإرهاب على الجميع وبمكيال واحد وواحد فقط على قاعدة إن الإرهاب والجريمة لا دين ولا قومية لهما، على ان يحدد زمن معلوم لوقف العمل بموجب اي منهما، وبموافقة البرلمان العراقي، ولتحقيق ما ورد ينبغي مراعاة مبادئ حقوق الإنسان الأساسية، التي اقرها الدستور العراقي وضمن صيانتها ومعاقبة منتهكيها ومنها:
ا - الحقوق المدنية والسياسية التي تكفل كامل الحريات للمواطنين أنى وجدوا في العراق من شماله الى جنوبه ، وان تشكل لجان محايدة لمراقبة تطبيق هذا البند خصوصاً في مناطق التوتر كالرمادي وسواها من المدن العراقية، والتأكد من سلامة الإجراءات القانونية المتعلقة بهذا الأمر وبفترات زمنية محددة ، وتحت إشراف البرلمان العراقي. وتعويض من انتهكت حقوقهم المدنية ومعاقبة الجهات المسؤولة عن هذه الانتهاكات. ومقاضاة ممارسي التمييز المذهبي والعرقي وتجريم أفعالهم. وضرورة تجنب سياسة الكيل بمكيالين حيال الخاضعين لقوانين المساءلة والعدالة وقوانين مكافحة الإرهاب وكافة القوانين الناظمة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية.
ب- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ينبغي في هذا الإطار السهر على تبني استراتيجية واقعية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ومكافحة الفقر في العراق، وذلك من خلال تنشيط وتنمية كافة قطاعات الاقتصاد الوطني الإنتاجية وتحسين إداراتها ورفع الإنتاجية فيها، بغية توفير فرص عمل لكل العاطلين القادرين على تأديته وتحسين مستوى معيشة السكان.وتطوير وتنمية التعليم بمختلف مراحله.وضرورة التأكيد على أهمية الإفلات من دائرة ما أطلق عليه الاقتصاديون " بنقمة البترول " والاسترخاء إزاء إيراداته الكبيرة، للانطلاق في طريق استثمار هذه الإيرادات في تنمية القطاعات الإنتاجية الأخرى كالزراعة والصناعة وضمن ضوابط الجدوى الاقتصادية. وتحقيق تنمية قطاعية وجغرافية متوازنة تنعش مشاعر الانتماء الوطني وتوطد الثقة بين الدولة ورعاياها وتبدد مشاعر الإحباط والتهميش.
ج-الحقوق البيئية والتنموية:يجب السهر على حماية البيئة التي تعد الحاضنة لمجمل نشاطات النظم التحتية المساهمة في البنية الهيكلية للنظام الايكولوجي العام، للوصول الى بيئة حيوية نظيفة ومتوازنة، توفر الشروط الموضوعية للعيش اللآئق وللتنمية الاقتصادية المستدامة.
خارطة الطريق لتحقيق ذلك
1-تشكيل هيئة وطنية عليا للمصالحة الوطنية تضم في عضويتها الأحزاب الوطنية والقوى والتيارات الدينية المتنورة ومنظمات المجتمع المدني ورواد الثقافة والفكر، وإيلائها الدور القيادي لعملية المصالحة.
2-استبعاد كافة المتورطين في الشحن الطائفي والعرقي والمروجين لهما من المساهمة في عملية المصالحة الوطنية مهما تكن مواقعهم السياسية والاجتماعية.
3-تحريم وتجريم كل فعل يدل على، أو يدعو إلى التمييز الطائفي والعرقي والديني بين المواطنين، واتخاذ الإجراءات الصارمة لتطبيق القانون في هذا المجال. أسوة بديمقراطيات الشعوب المتحضرة، والاستفادة من خبرتها المتراكمة.
4-تحسين المناهج التدريسية بما ينتج وعياً يتسم بالعقلانية والتسامح والتآخي بين مكونات المجتمع، وتشجيع طلبة الجامعات على المساهمة في النشاطات الثقافية والفكرية لمحاصرة التطرف والغلياء.
5-الابتعاد عن سياسة عسكرة المجتمع وحل جميع المليشيات، وحصر السلاح بيد الدولة فقط، بعد ان يحقق شعبنا انتصاره الأكيد على " داعش " والمتآمرين معها مع التأكيد على رفع كفاءة القوات المسلحة والحفاظ على حيادها السياسي.
6- استثناء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية من حقها في المشاركة بالانتخابات البرلمانية مؤقتاً، لتجنب نتائج ولائها الحزبي والعرقي والمذهبي في إطار التجاذبات السياسية القائمة، والمتعارضة مع النهج الديمقراطي.
7-تصنيف المشاكل حسب أولويات تأثيرها على الوحدة الوطنية، لمواصلة تفكيكها والسير في طريق حلها جميعا بصبر ومسؤولية عاليين.
8-إصدار صحيفة ومنشورات دورية تهتم بشؤون المصالحة وتُطلع الرأي العام على نجاحاتها وإخفاقاتها،بروح من المسؤولية والحياد التام.
أنني أعتقد بأننا نمتلك من الإرث الحضاري ما يسمح لنا بأن ننشر السلم الأهلي والتسامح الديني والعرقي في بلادنا ونضعها على طريق النمو، وان ذلك لا يتم إلا بتحقيق العدل والعدل اولاً وان " لا نستوحش طريق الحق " لأنه المفضي الى المصالحة والتآخي الوطني المنشود.