ثورة 14 تموز 1958.. تأصيل لتاريخ العراق المعاصر / صباح جاسم جبر

"
ثورة 14 تموز هي الثورة الوحيدة في العالم العربي" المؤرخ مكسيم رودنسون
ان ثورة 14 تموز 1958 هي ثورة حقيقية بكل المعايير التاريخية كونها غيرت اشكال ومضامين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية. كما احدثت انعطافة تاريخية كبيرة على المستوى السياسي الدولي والاقليمي وقد انعكست نتائج الثورة في الاشهر الاولى من نجاحها على الحياة الاجتماعية وقد ظهر ذلك جليا في قوة النسيج الاجتماعي وانحياز الجماهير العريضة ووقوفها الى جانب الثورة. تعد ثورة 14 تموز تاريخيا انتقالة حاسمة وكبرى لتاريخ الشعب العراقي لا سيما في ضمير ووجدان الطبقات والشرائح الاجتماعية الفقيرة والمهمشة، سواء كان على المستوى الوطني الديمقراط? او على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، كما شكلت علامة مضيئة ومشرقة في تاريخ القرن العشرين لما نجم عنها من تطورات تاريخية هائلة شملت الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية كافة، وانعكس ذلك على شكل ومضمون العلاقات الاجتماعية.
لقد انصب اهتمام ثورة تموز ومنذ البدء على تأسيس مجتمع عراقي متماسك والعمل على بناء مشروع حقيقي لدولة حديثة، بعد ان كان المجتمع العراقي وبحسب المؤرخ حنا بطاطو "لم يكن العراقيون شعبا واحدا او جماعة سياسية واحدة".
ان ثورة 14 تموز كانت حلا راديكالياً لجملة من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد والمجتمع معاً، لان النظام الملكي ومجموعة السياسيين المرتبطين به كانت لهم علاقات وثيقة مع الاستعمار البريطاني وانهم عقدوا العزم على تنفيذ السياسة البريطانية بعيدا عن الارادة الشعبية والتي تقف بالضد منها والتي عبرت عنها في عدة انتفاضات جماهيرية (1948- 1952- 1956).
ان السياسات الرجعية للنظام الملكي قد قطعت الطريق امام اية امكانية اجتماعية او سياسية للأخذ بأسباب التطور في البلاد، مما ادى الى خلق شعور اجتماعي شعبي عام بانه ليس هنالك اي امل الا بالثورة والاطاحة بالنظام.
ان ثورة 14 تموز حدثت نتيجة عوامل واسباب موضوعية داخلية وعوامل خارجية اقليمية ودولية ويقف في مقدمة تلك الاسباب السياسات الاستبدادية والقمعية ضد القوى الوطنية اليسارية والديمقراطية والفقر المدقع وان الموارد والثروات الطبيعية كانت نهباً للاستعمار البريطاني والثلة الحاكمة، اضافة الى الاستلابات الاجتماعية والاستغلال الاقتصادي في الريف والمدينة على حد سواء والتخلف الشامل في مجال الاقتصاد والتعليم والصحة والثقافة، يضاف الى ذلك بروز عامل هام وحاسم على الصعيد السياسي تمثل في تشكيل جبهة الاتحاد الوطني عام 1957 والتي?شكلت الدعامة الجماهيرية والسياسية للثورة.
لقد وضعت ثورة 14 تموز 1958 العراق على سكة الحداثة لما شهده من تطورات سريعة وفتحت آفاقاً واسعة رحبة في مختلف الميادين الحياتية والمادية والثقافية التي انعكست كما يرى الباحث في شؤون الثورة الدكتور عقيل الناصري في بنية العلاقات الاقتصداية والاجتماعية ومحاولة خلق نوع من التوازن بين الدولة والمجتمع من خلال تبني عقد اجتماعي بينهما مؤسس على قواعد العيش المشترك ويعكس واقع التركيبة الاجتماعية المتنوعة.
كان الشغل الشاغل والهدف الاسمى لثورة 14 تموز هو الانسان العراقي وتنمية الوعي المجتمعي وتحقيق الرفاهية الاقتصادية وتوسيع قاعدة الحريات المدنية وتحويل افراد المجتمع من رعايا الى مواطنين حقيقيين، شركاء ومساهمين في العمل السياسي والفعل الاجتماعي.
ان الانجازات التي تحققت في ظل الثورة يفوق تاريخيا ما انجزته الثورات المعاصرة لها في المنطقة، فقانون الاحوال الشخصية وبشهادة المختصين هو قانون عصري ومتقدم وهو ارقى من اي قانون للاحوال الشخصية في تاريخ المنطقة بالكامل، كما اصدرت ثورة تموز قانون رقم 80 نتيجة الصراع مع شركات النفط الاحتكارية ويعد هذا القانون المقدمة الحقيقية لتأميم النفط فيما بعد.
ان برنامج ثورة تموز كان يستهدف بناء الانسان العراقي من خلال فك اسره من استغلال القوى الاقطاعية وشبه الاقطاعية وتحقيق استقلاليته، فجاء القانون رقم (30) للاصلاح الزراعي الذي اعاد الحق الى الفلاح وبنفس الاتجاه تم تغيير اشكال العلاقات الاجتماعية في الريف.
لقد كان الهدف الرئيس من الثورة تغيير البنية الاجتماعية والاقتصادية وتطويرها والانتقال بالمجتمع من حالة التشظي والتفكك والعشائرية الى مجتمع مدني ومتطور ومتماسك واكثر اندماجا، ومن اجل ذلك تم الغاء قانون العشائر واصبحت المدينة والريف تخضعان لقانون مدني واحد للعقوبات.
لقد قطعت الثورة شوطا بعيدا في المجال السياسي فقد تبنت سياسة عدم الانحياز وألغت جميع المعاهدات الاستعمارية التي قيدت العراق واعاقت تقدمه وتم الخروج من منطقة الاسترليني. اما في مجال البناء والاعمار فقد حققت الثورة الشيء الكثير لا سيما في بناء المساكن وتوزيعها على الفئات والشرائح الاجتماعية الفقيرة وبناء المستشفيات والتوسع في بناء المدارس وتطوير البنية التحتية للمنظومة التربوية.
ان ما تحقق من منجزات كانت تتصل بحياة المواطنين والمجتمع والدولة وان ما حدث من تطورات تاريخية في مختلف المجالات وفي اقل من خمس سنوات تعطينا الحق بان نطلق عليها صفة الثورة الحقيقية وبهذا الصدد يؤكد المؤرخ حنا بطاطو الى ان ما تحقق يوم 14 تموز وما تلاه من انجازات اعطتها صفة الثورة وبكل استحقاق.