الفسادُ مِعولٌ فاعلٌ لهدم التنمية في العراق / د. كامل العضاض

مقدمة: كيف يصبح الفساد معول هدم للتنمية؟ ما المقصود بالفساد في علاقته مع التنمية؟ وما معنى التنمية أصلا؟ هل تصح هذه التساؤلات في كل مكان وزمان، أم لا؟ نحاول في هذه الورقة الموجزة أن نجيب على هذه التساؤلات ضمن إطار الإقتصاد العراقي وخصوصياته، وسوف لا نسهب في عرضنا، لأننا لا نمتلك قياسات كمية للفساد ذاته في العراق، بل مؤشرات غير مباشرة، تختلف في قوة تقريبها لنا لحجم الفساد في العراق. أما التنمية فلها تعريف علمي واضح، ويمكن قياس إنجازاتها وإخفاقاتها المعبّر عنها بمقدار الإنحراف عن تحقيق أهداف التنمية، كأن تكون نسبا متدنية لأسباب مختلفة، منها عدم الكفاءة، ومنها ضعف الرقابه والمتابعة، ومنها عوامل عديدة محيطة بها، مثل الإرهاب وعدم الإستقرار والحروب لمواجهة قوى عدوانية إرهابية خارجية، ومنها نظام المحاصصات الفئوية والطائفية التي تفعل مفعولها بإتجاهين؛ الأول هو عدم الكفاءة بسبب عدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والثاني هو إفشاء الفساد والمحسوبية والرشوة والنهب.
ولعل هذا العامل (الثاني) يلعب دورا أكبر في تعويق التنمية، ولكن مشكلة قياسه تستعصي في غياب البيانات القياسية المناسبة، إذ ما يُتاح لنا هو مؤشرات مبتسرة عن عدد الدعاوى المرفوعة والمحسومة ضد فاسدين في المحاكم، ولكن لا قياس مباشرا لحجم الفساد أو النهب أو السرقة، فهذا موضوع ينبغي التصدي له بدراسات ميدانية مفصلة، تُستمد من محاضر التحقيقات والأحكام الصادرة ضد الفاسدين. عندئذٍ يمكن تحديد دور الفساد في تعويق التنمية بصورة دقيقة. ولمواصلة تفصيل التحليل والربط بين هذه العوامل، فلنتعرف على ما هو المقصود بلفظتي، التنمي? والفساد وكيفية تأثير الثانية على نتائج الأولى، عموما، وفي العراق تخصيصا.
أولا؛ المقصود بالتنمية
يتجسد مفهوم التنمية في زيادة إنتاج البضائع والخدمات في المجتمع، (الناتج المحلي الإجمالي، بلغة القياس الإقتصادي، يساوي مجموع ما يُنتج من بضائع وخدمات جديدة، خلال سنة، عادة، من قبل السكان)، زيادة تتوازى وحجم طلب الأستهلاك عليها، ويفيض منها ما يُكرّس لزيادة وتيرة الزيادة في الإنتاج للأعوام القادمة. وبلغة الإقتصاديين تعني زيادة الناتج المحلي الإجمالي، الذي يُخصص جزءً مهم منه للإستهلاك النهائي، (الذي بدوره ينقسم الى قسمين؛ الإستهلاك الخاص النهائي، إي إستهلاك البضائع والخدمات المنتجة بشكل نهائي من قبل السكان، والإستهلاك العام، اي ما تنفقه الحكومة على شراء خدمات الموظفين والمأجورين لتأدية خدماتها للمجتمع والأفراد، وما تنفقه أيضا على المستلزمات، كالقرطاسية وبزات الخدمة وجميع البضائع الأخرى التي تستهلكها من أجل مزاولة نشاطاتها الخدمية). أما الجزء الثاني، فيُخصص لزيادة ما يُسمى تكوين رأس المال الثابت، مثل الأبنية والمعدات والمصانع والبنى الإرتكازية، وهذه تماثل في قيمتها قيمة الأموال التي إستثمرها المجتمع أو الحكومة بالنيابة عنه، من أجل زيادة الطاقة الإنتاجية للمجتمع في الإقتصاد العراقي. ولكي نصل الى الحجم النهائي للناتج المحلي يجب أن نستبعد منه ما يُصدّر،(لإن الصادرات تُسهم في الإضافة الى النواتج المحلية الإجمالية للدول المستوردة لها)، ونضيف قيمة المستوردات من الدول الأخرى لأنها تساعد في زيادة الطاقة الإنتاجية في مجتمعنا الإقتصادي. وحينما تكون الزيادة الكلية في الناتج المحلي الإجمالي الذي يمثل حصيلة العناصر التي توّزع عليها، متفوقة على حصة الإستهلاك النهائي، يكون حينئذٍ عنصر تكوين رأس المال الذي يعني زيادة الطاقة الإنتاجية في المجتمع، قد زاد.(1)SNA، أي أن ثمة تنمية قد حصلت. وإذا كانت الزيادة في هذه السنة أعلى ب 10بالمائه، مثلا، عن السنة السابقة، نكون قد حققنا تنمية بمقدار 10بالمائة عن السنة السابقة. بعبارة موجزة، أن معدل زيادة الطاقة الإنتاجية هو مؤشر التنمية الحقيقية. فإذا حصلت عوامل سلبية داخلية، من نوع الفساد، كما سنعرّفه، والهدر والضياع وعدم الكفاءة، فإن معدل الزيادة هذه سينخفض وقد يصبح سالبا، وبذا سيكون هناك إنخفاض في الطاقة الإنتاجية، أي أن معدل النمو صار سالبا، أي أن التنمية صارت سالبة، أي أن المجتمع يأكل رأسماله، ويصبح الإستهلاك النهائي هو العنصر الأكبر المكون للناتج المحلي، أي اصبحنا مجتمعا إستهلاكيا، مع عدم القدرة على زيادة تكوين رأس المال. وهذا موضوع خطر وله خصوصية في الإقتصاد العراقي بالذات، لماذا؟ سنرى في السطور اللاحقة.
الإقتصاد العراقي، كما هو معروف، هو إقتصاد ريعي، اي انه يعتمد في موارده الرئيسة على العوائد من تصدير مورد طبيعي ناضب، ضمن منظور زمني محدود، وهو إستخراج وتصدير النفط الخام؛ حيث تشكل هذه العوائد أكثر من 90بالمائة من الموازنة العامة للحكومة، كما تُشكل ما يقرب من 60بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، (2و3)، أما مساهمات النشاطات الإنتاجية الأخرى، غير النفطية، كالزراعة والصناعة والتشييد والبناء، فلا تزيد في مجموع مساهماتها في الناتج المحلي الإجمالي، وخصوصا، خلال العقد الأول من هذا القرن، لا تزيد كثيرا على 23بالمادة، أما بقية النشاطات، كالنقل والخزن والمواصلات، والتجارة وخدمات البنوك والخدمات الثقافية، كالتربية والتعليم، والأمن، والخدمات الشخصية الأخرى، فإن مجموع مساهماتها لايزيد كثيرا على 17بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. (لمزيد من الإطلاع، أنظر في دراستنا عن إعادة هيكلة الإقتصاد العراقي المشوّهة حاليا، الهامش رقم 2 في أدناه ). فعوائد النفط تموّل الإستهلاك أكثر منه الإستثمار، وأن أكثر من 70بالمائة منه يذهب لتمويل الإستهلاك، اي لدفع الرواتب والإجور لموظفي الحكومة أو/و لدفع إعانات لدعم الإستهلاك. أما الضرائب والرسوم فلا تشكل نسبة مهمة، ربما تقل عن الـ10بالمائة من مجموع العوائد في موازنة الحكومة العامة، (4- انظر المصدر 3 المذكور آنفا). وعليه، وفي ضوء خصائص الإقتصاد العراقي المشار إليها، بإيجاز آنفا، يتطلب السلوك العقلاني للحكومة أن تبذل أقصى جهد لتوجيه أكبر نسبة من عوائد النفط الناضب للإستثمار الذي يضيف للطاقات الإنتاجية في المستقبل، وأن تسيطر على ما يُوجّه لأغراض إستهلاكية نهائية قدر الإمكان، فتعمل لتطوير الزراعة والصناعة، بإعتبارهما نشاطين أساسيين في توفير القدرة على الوصول الى الإكتفاء الذاتي في الإستهلاك، ولتقليل الإعتماد على الإستيراد الذي يستنزف موارد العملة الصعبة التي توفرها عوائد النفط المصدر الناضب. بل أن الحصافة تُوجب على الحكومة العمل على تصنيع النفط في صناعات كيمياوية وصناعات الأسمدة والبلاستيك ومشتقات النفط، مثل البانزين والكازولين، ليس فقط للوصول الى الإكتفاء الذاتي، إنما ايضا لأغراض التصدير، لتقلل بذلك إعتمادها على تصدير النفط الخام الذي يشكل حاليا ما يقرب من 60بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، كما عرّفناه. كما عليها العمل على تصنيع وتسييل الغاز، وخصوصا الغاز المصاحب لإستخراج النفط الخام، بدلا من حرقه سدى، مع الأسف الشديد. ومن هنا تبرز أهمية إعداد خطط تنموية للتصنيع الذي يتطلب مسبقا خططا إستثمارية لبناء وتطوير البنى التحتية والقواعد الإرتكازية للصناعة والزراعة، من دون أن تُغفل الخطط الإستثمارية لتشييد المساكن والمباني السكنية، وتوزيعها توزيعا مكانيا مناسبا بين المحافظات. هذه هي ملامح مفهوم التنمية التي يجب أن تكون لها الأولوية والقدح المُعلى، وليس إلتهام العوائد النفطية من أجل الأغراض الإستهلاكية التي سوف لا تبقي شيئا لصالح الأجيال القادمة التي قد يصبح مصيرها كالحا، عندما ينضب النفط، ولا يُخلّف، بعد نفاده، طاقات ذات سعات إنتاجية خلّاقة في القطاعات الإنتاجية غير النفطية، كالزراعة والصناعة وفي قطاعات الخدمات، وعلى رأسها خدمات الصحة والتعليم والثقافة، وتليها خدمات النقل والمواصلات والتجارة والصيرفة التجارية والإنمائية. وإذا كان الحرص على تعظيم الإستثمارات من أجل توفير سعات إنتاجية تكفل لنا تنمية مستدامة، أي تنمية تعيد إنتاج نفسها وتضمن مستقبل الأجيال القادمة، هو حرصا كبيرا وله الأولوية القصوى، فبماذا تنعت الحكومة المسؤولة، حين يطغي تحت إدارتها الفساد والنهب وهدر الموارد؟ اليس هذا إثما ما بعده إثم تجاه الشعب ا?ذي أولاها الأمانة، وهو صاحب السيادة والمالك الشرعي لثروات البلاد جميعها؟! وهنا لابد من تساؤل، ما المقصود بالفساد بمعناه الواسع؟ وهل تتوفر لدينا أدلة دامغة لهذا الفساد الذي يهدد مستقبل الأجيال القادمة ومصير العراق؟
ثانيا؛ مفهوم الفساد وحجمه التدميري في العراق
يمكن أن نركز نقاشنا هنا على وفق الفقرات الآتية:
أ - تعريف الفساد بالمعنى الواسع
يوصف الشيء بالفاسد حينما يكون خَرِبا، ويقال فَسُد البيض، أي أنه اصبح غير قابل للأكل. ويقال أن فلانا فاسدٌ بمعنى أنه لا يلتزم بالأخلاق ولا بالضوابط الدينية، كما يقال أن هناك فسادا في عمل هذه الدائرة أو الحكومة كلها، حينما تَشيع المحسوبية والرشوة، وكذلك حينما تتم مخالفة الضوابط والقوانين من أجل سرقة المال العام، وهكذا، فلفظة الفساد أو كلمتها لها معان عدة متقاربة من حيث الدلالة، حيث هي تُدلل على الإنحراف عن العمل الصائب أو العادل أو المتقن، وهذه الدلالة تشمل أيضا الكذب والغش ومخالفة الموجبات القانونية والفنية? فسرقة المال هنا مخالفة قانونية واضحة، ولكنها قد تتم بإسلوب تمويهي، كأن يتفق المسؤول مع شركة أجنبية سرا على أنه سيقبل عطاءها لإرساء العمل عليها مقابل عمولة بنسبة معينة تودع في حسابه المصرفي في بلد ما قبل إرساء المقاولة على الشركة الراشية. ومن هنا نلاحظ صعوبة توفر الأدلة المباشرة على السرقة أو الرشوة التي يستحوذ عليها المسؤول. كما يمكن بسهولة أحيانا تغطية عمليات بعض السرقات باسم بعض بنود مستقاة من قوانين قديمة، وهكذا. ونلاحظ أن الفساد هنا لا يتوقف فقط عند خراب الأخلاق، بل يشمل جوانب واسعة من الأعمال المخالفه ليس فقط للقوانين وإنما للأخلاق ونواميس الدين والأعراف. وعليه، فالنهب هو أسم آخر للسرقة وبالتالي للفساد، والتخريب من أجل إستبدال معدات مقابل عمولة هو فساد أيضا، وتزييف المعلومات هو فساد مشيطن، والرشوة هي أوضح أنواع الفساد. وبسبب تعدد أساليب وطرائق الفساد يصعب جدا تحصيل معلومات واضحة عنها، حتى ربما في المحاكم، فيُحكم ببراءة المتهم، إن جُلب الى المحكمة. فما هي شواهد الفساد في غياب الأدلة الفردية الواضحة، لأن الفساد قد يكون مركبا، ويشارك فيه مسؤولون من مواقع مختلفة، فهم يمررون الفساد ضمن منظومتهم السرية، دونما إنكشاف سهل أمام المواطنين. فكيف يمكن تحديد الفساد وقياسه وفضحه في هذه الحالة. هنا سيكون الإسلوب غير مباشر ومباشرا أحيانا.
ب - شواهد الفساد المتاحة أحيانا
من الشواهد المعلنة أحيانا، بين الفينة والفينة، ما تعرضه الصحف ووسائل الإعلام عن إحالة قضايا فساد أمام المحاكم المختصة، وذلك على الرغم من عدم تحديد طبيعة القضايا المحالة ومع التستر، طبعا، على أسماء المحالين الى المحاكم. ولا ريب في أن المتهم بريْ حتى يُدان، ولسنا في معرض تناول قضايا الفساد في العراق بأسماء المتهمين أو المشكوك في أمرهم الفسادي. ولكن على ذمة ما تعلنه الصحف عن أخبار قضايا الفساد في العراق، أُعلن مرارا وتكرارا أن عدد قضايا الفساد المحالة الى المحاكم بلغ ما يزيد على 3000 قضية في عامي 2013-2014، وان اكثر من 400 قضية قد حُسمت، من دون الكشف عن اسماء المحكومين ولا عن نوعية الفساد الذي مارسوه، ولا عن مراكزهم الوظيفية ومستويات مسؤولياتهم. نسمع بأن معظم القضايا المحسومة قد طالت موظفين في مراكز وظيفية متدنية، أو/و قد تصل درجة قسم منهم الى مرتبة مدير عام. وهناك قضايا محدودة نُشر عنها، تدور حول عدد محدود من الوزراء والمسؤولين الذين هربوا بمسروقاتهم خارج العراق. ولا تزال هناك آلاف أخرى من القضايا غير المحسومة ومنذ سنوات عدة. ونلاحظ هنا حتى حين تُتخذ بعض الإجراءات ضد الفساد، يبقى الفاسدون محميين وأسماؤهم غير معلنة حتى بعد الحكم عليهم. هذه قضايا تهم الشعب وقوته ومستقبله، فلماذا يُحمى المحكومون؟ وبغض النظر عن الأسماء لماذا لا يُعلن عن طبيعة وحجم الفساد وكيفية حصوله، من اجل ترصين الرقابة الشعبية ولزيادة الوعي بالنزاهة والإستقامة الوطنية؟ ونحن نعلم بأن لدينا لجنة أو لجانا للنزاهة، فلماذا لا توجه جهود الباحثين لديها الى دراسة ملفات قضايا الفساد المرفوعة والمحسومة، من أجل نشر الوعي الوطني الأخلاقي، ومن أجل بناء سياج رادع ضد الفاسدين مستقبلا؟
ج - صورة الفساد بالمعنى الواسع وكم هو معوّق للتنمية؟
في غياب تفاصيل الفساد وحجمه الحقيقي على الصعيد الفردي والوظيفي وعلى صعيد الأجهزة الحكومية، كيف يتسنى لنا تقدير حجمه ودوره في تعويق أو تعطيل التنمية في العراق؟. في هذه الحالة نتبنى مدخلا كليا ومنطقيا على صعيد الإقتصاد العراقي كله. منذ الإطاحة بنظام صدام في عام 2003، مرّ الآن إثنا عشر عاما. ولو حسبنا عوائد النفط خلال هذه المدة لوجدناها تعادل أو تزيد على تريليون دولار، والارقام عن تصدير النفط وسعر البرميل والعوائد المتحققة متوفرة في مصادر ومواقع ودراسات عديدة؛ ليراجع من يشاء مواقع وزارة النفط والبنك المركزي ومحاضر مجلس النواب وغيرها. لنقل أن تريليون دولار هو مجموع العوائد لمدة إثنتي عشرة سنة، أي بمعدل 83,5 مليار سنويا منذعام 2003. وإذا كان ما يُخصص للإستثمار هو 30بالمائة من هذا العائد السنوي، نجد أن ما يزيد على 25 مليار دولار يخصص سنويا للإستثمار! ولكن لو رجعنا الى المصادر المناسبة لوزارة التخطيط، لوجدنا أن التخصيصات نظريا لا تقل عن 25 مليار سنويا، أي أن ما تم إستثماره خلال إثني عشر عاما بلغ 250 مليار دولار. ولكن مصادر وزارة التخطيط ذاتها تبين أن نسبة تنفيذ الأستثمار، كمعدل لم تتجاوز 20بالمائة في أقصى الحالات؟ أن هناك ما يقرب من أو يزيد على عشرين مليار دولار تُدوّر ولا تُصرف، فهل زادت نسب التنفيذ لإنفاق التخصيصات الإستثمارية في الأعوام اللاحقة؟ كلا! إذن الى أين ذهبت هذه التخصيصات الهائلة التي لم تُنفق وتبلغ، كمتوسط, 20 مليار سنويا وتساوي 200 مليار خلال السنوات العشر الأخيرة؟ أين ذهبت؟ زادت نسبة الإستهلاك؟ بكم؟ زادت رواتب ومخصصات النواب والوزراء ومجلس الرئاسة وغيرهم، لنقل نعم، لكننا نفتش عن 20 مليار دولار تختفي سنويا، فمن المسؤول وكيف؟ طيب، ليكن هذا نقاشا إفتراضيا، دعونا ننظر الى حال الشعب العراقي ومستوى عيشه منذ عام 2003 حتى الآن.
يبلغ عدد السكان في العراق قرابة 34 مليون نسمة في الوقت الحاضر، ولكن ثلث السكان، أي بنسبة 30بالمائة يعيش بمستوى الفاقة والفقر، ولنراجع لهذا الغرض مصادر وزارة التخطيط عن أحوال المعيشة للأسر العراقية. وأن 18بالمائة من قوة العمل عاطلة عن العمل، أي أن ربع القادرين على العمل تقريبا هم في حالة بطالة دائمة. ثم، اين هي البنى الإرتكازية التي أُنجزت؟ أين هي خدمات الكهرباء التي صُرف عليها 36 مليار دولار منذ عام 2006، والناس تتلوى في جهنم هذا الصيف اللافح بدرجات تفوق 50 درجة مئوية، في الوقت ذاته تُزاد عليهم أسعار وسائل التبريد. وأن إنتاج الكهرباء الحقيقي هو دون الأثني عشر ألف كيلو واط التي يقال أنها متيسرة، ولكن عدد ساعات توصيل الكهرباء لا يتجاوز خمس ساعات في أحسن الأحوال.
إثنا عشر عاما من البؤس المتصاعد ومن تدني في مستويات الحياة، ناهيك عن غياب الأمن والإستقرار. إثنا عشر عاما كان خلالها دخل الشعب العراقي تريليون دولار، كعوائد لتصدير نفطه، فماذا تلقى مقابل ذلك حتى الآن؟ اليست هذه أسئلة وجيهة ومنطقية نوجهها. تعالوا نتحاسب، ولنتحر عن كل شيء خلال هذه السنوات التعسة، لنقف على بعد المأساة، وعمق المعاناة. هل لدينا مجلس نواب، هل لدينا قضاء، هل لدينا سلطة تنفيذية، هل لدينا مراكز بحوث وجامعات، تعالوا إذن لتدارس الأمور، اين العيب؟؟ سنجده بعد جهد أنه يكمن في الفساد بمعناه الواسع، بنسبة تفوق نسبة عدم الكفاءة والعوامل الأخرى، وليرحمكم ألله.
ثالثا؛ خلاصة وإستنتاجات
ركزت الدراسة على إبانة العلاقة ما بين التنمية والفساد في العراق. فتم تعريف التنمية وأهم مضامينها، كما تم التعريف بالفساد بمعناه الواسع، وتم إستقراء بعض جوانبه بمؤشرات كلية ومنطقية وتم تأشير علاقة لا ريب فيها ما بين الفساد والتنمية، حيث يتجلى هدم وتخريب التنمية بأخطبوط من الفساد الذي يطول أجهزة الدولة من دون إستثناء، إلا فيما ندر. فما هي أهم إستنتاجات هذه الدراسة؟
1. ندعو، في ضوء طروحات هذه الورقة الى إستنفار كل الكتاب والمتخصصين العراقيين الى الإنكباب على دراسة ظاهرة الفساد في البلاد، ومحاولة إماطة اللثام عن أسباب إنفاق مليارات الدولارات، بموازنات مالية سنوية تفوق في حجمها مرات عدة الموازنات السنوية لعدد من الدول العربية، كالأردن ولبنان ومصر وحتى بعض دول الخليج! فالى أين ذهبت الأموال؟ قيل الفساد والسرقة وعدم الإستقرار والحروب. نعم، ولكن لنتقص حجم كل منها.
2. سنجد أن الفساد هو الذي يلعب دور المعول الفاعل لهدم التنمية. وبهذا نحن ندعو الكتاب والمختصين الوطنيين الى دراسة أوراق التحقيقات في المحاكم عن قضايا الفساد المرفوعة وهي بالألاف. كما يقتضي الأمر دراسة وتوصيف آليات إحالة المقاولات لتشخيص الثغرات المفضية الى الفساد. بل نحثهم على دراسة القوانين الرادعة للفساد لتطويرها ولجعلها تسد كل ثغرات الفساد.
3. ندعو المختصين الى دراسة وتحليل الحسابات الختامية لكل الشركات والمؤسسات العامة لكشف ثغرات الفساد. كما ينبغي تسليط الضوء على القوانين التي تمنح مرتبات فلكية للنواب والرؤساء والوزراء والمسؤولين في الحكومة، حيث هي الأعلى في العالم، وحتى أعلى مما يدفع لنظرائهم في الولايات المتحدة.
4. يدرك الإقتصاديون العارفون بحالة ريعية الإقتصاد العراقي بأن ثمة سباقا مع الزمن لتحويل عوائد تصدير النفط قبل نضوبه أو ظهور منافس له أو بديل عنه الى إستثمارات ثابتة وخصوصا في النشاطات الإنتاجية غير النفطية، كالزراعة والصناعة والتشييد والبناء، وعليه، أرجو أن تتضافر الجهود لإعتبار هذا الأمر أولوية لضمان تحقيق تنمية مستدامة في العراق، ما يتطلب توجيه الجهود لمقارعة كل العوامل الهادمة للتنمية في البلاد، وفي مقدمتها الفساد بالمعنى الواسع للكلمة، ويشرفنا أن نشاطركم هذا الجهاد العلمي الإنساني والوطني.
وختاما، ارجو أن تسمع الحكومة ليس فقط آراء الخبراء والمتخصصين، ولكن الأهم أن تسمع اصوات المتظاهرين المطالبين بالكهرباء لإطفاء لهيب صيفهم القائظ!