المنبرالحر

الثقة والضعف / نوري حمدان

كان يا ماكان في قديم الزمان (1)
يحكى ان رجلا كان يبحث وبشكل متواصل عن شخص يمنحه الثقة وليكون له صديقا، ان الرجل الذي نتحدث عنه وهو بطل حكايتنا اليوم كان بحسب ما يروى عنه ان يؤمن بان الصداقة تفوق درجة الاخوة بالتالي كان لا يستطيع ان يتقبل اي شخص يلتقيه ان يكون صديقا له، ذات يوم تعرف على شخص ومن خلال الحديث والتواصل احتل هذا الشخص ثقة بطلنا خصوصا بعد ان اكتشف الرجل ان هذا الشخص من المقربين لرفاقه.
بطل حكايتنا كان يعمل في مكان له فيه هيبة ومركز مهم ويبحث في نفس الوقت عن عمل افضل فهذا طموح وهو من الطموحين جدا ولا يتوقف طموحة الى حدود معينه، لكن ما يعيب بطلنا يتردد ويخجل عند الحديث عن حقه فهو معروف بين زملائه في العمل المطالب الصلب في تحقيق مطالبهم ومنحهم حقهم وعند الوصول الى حقه يوكل هذا الامر باغلب الاحيان لاحد المقربين منه في العمل وغالبا ما يفقد حقه لهذا السبب...
عرض الشخص على بطلنا عمل جديد ووصفه بالطموح جدا ولثقة بطلنا التي تمرد على نفسه في منحها لصديقه الجديد، وترك له التفاوض وتحديد اجور العمل ونوعه، كانت النتائج مخيبه لامال بطلنا ولم يتوقف عن موضوع الاجور بل شعر بانه فقد هيبته السابقة، وخرج يوما من عمله الجديد قاصدا منزله مشيا على الاقدام فاحتل تفكيره كيف كان وكيف اصبح الان فجلس على رصيف الطريق وكانت سيدة القصص التي يتذكرها من الروايات التي مرت عليه في مطالعاته، قصة من روائع: أنطون بافلوفتش تشيكوف والتي تقول:
"منذ أيام دعوت الى غرفة مكتبي مربية اولادي يوليا فاسيليفنا لكي أدفع لها حسابها
قلت لها: اجلسي يايوليا.. هيّا نتحاسب.. أنتِ في الغالب بحاجة إلى النقود، ولكنك خجولة إلى درجة انك لن تطلبينها بنفسك.. حسنا.. لقد اتفقنا على ان ادفع لك ثلاثين روبلا في الشهر
قالت: أربعين
قلت: كلا، ثلاثين.. هذا مسجل عندي.. كنت دائما ادفع للمربيات ثلاثين روبلا.. حسناً، لقد عملت لدينا شهرين
قالت: شهرين وخمسة أيام
قلت: شهرين بالضبط.. هكذا مسجل عندي.. اذن تستحقين ستين روبلا.. نخصم منها تسعة ايام آحاد.. فأنت لم تعلّمي كوليا في أيام الآحاد بل كنت تتنزهين معه فقط.. ثم ثلاثة أيام أعياد تضرج وجه يوليا فاسيليفنا، وعبثت اصابعها باهداب الفستان ولكن.. لم تنبس بكلمة
واصلت: نخصم ثلاثة أعياد، اذن المجموع اثنا عشر روبلا.. وكان كوليا مريضاً اربعة ايام ولم تكن دروس.. كنت تدرسين لفاريا فقط.. وثلاثة أيام كانت أسنانك تؤلمك فسمحتْ لك زوجتي بعدم التدريس بعد الغداء.. اذن اثنا عشر زائد سبعة.. تسعة عشر.. نخصم، الباقي ..هم.. واحد واربعون روبلا.. مضبوط؟
احمرت عين يوليا فاسيليفنا اليسرى وامتلئت بالدمع، وارتعش ذقنها.. وسعلت بعصبية وتمخطت، ولكن.. لم تنبس بكلمة
قلت: قبيل رأس السنة كسرتِ فنجانا وطبقا.. نخصم روبلين.. الفنجان أغلى من ذلك، فهو موروث، ولكن فليسامحك الله! علينا العوض.. وبسبب تقصيرك تسلق كوليا الشجرة ومزق سترته.. نخصم عشرة.. وبسبب تقصيرك ايضا سرقتْ الخادمة من فاريا حذاء.. ومن واجبك ان ترعي كل شئ، فأنت تتقاضين مرتبا.. وهكذا نخصم ايضا خمسة... وفي 10 يناير اخذت مني عشرة روبلات همست يوليا فاسيليفنا: لم آخذ
قلت: ولكن ذلك مسجل عندي
قالت: حسناً، ليكن
واصلت: من واحد واربعين نخصم سبعة وعشرين.. الباقي اربعة عشر امتلأت عيناها الاثنتان بالدموع.. وظهرت حبات العرق على انفها الطويل الجميل.. ياللفتاة المسكينة قالت بصوت متهدج: أخذتُ مرة واحدة.. أخذت من حرمكم ثلاثة روبلات.. لم آخذ غيرها
قلت: حقا؟ انظري، وانا لم اسجل ذلك! نخصم من الاربعة عشر ثلاثة، الباقي احد عشر.. ها هي نقودك يا عزيزتي! ثلاثة.. ثلاثة.. ثلاثة.. واحد، واحد.. تفضلي
ومددت لها احد عشر روبلا.. فتناولتها ووضعتها في جيبها بأصابع مرتعشة.. وهمست: شكراً
انتفضتُ واقفا واخذتُ أروح واجئ في الغرفة واستولى عليّ الغضب
سألتها: شكراً على ماذا؟
قالت: على النقود
قلت: ياللشيطان، ولكني نهبتك، سلبتك! لقد سرقت منك! فعلام تقولين شكراً؟
قالت: في أماكن أخرى لم يعطوني شيئا
قلت: لم يعطوكِ؟! ليس هذا غريبا! لقد مزحتُ معك، لقنتك درسا قاسيا.. سأعطيك نقودك، الثمانين روبلا كلها! هاهي في المظروف جهزتها لكِ! ولكن هل يمكن ان تكوني عاجزة الى هذه الدرجة؟ لماذا لا تحتجين؟ لماذا تسكتين؟ هل يمكن في هذه الدنيا ألاّ تكوني حادة الانياب؟ هل يمكن ان تكوني مغفلة الى هذه الدرجة؟
ابتسمتْ بعجز فقرأت على وجهها: يمكن
سالتها الصفح عن هذا الدرس القاسي وسلمتها، بدهشتها البالغة، الثمانين روبلا كلها.. فشكرتني بخجل وخرجت تطلعت في اثرها وفكّرتُ: ما أبشع أن تكون ضعيفاً في هذه الدنيا".
لم يكن هذا الدرس لبطلة وبطل رواية أنطون بافلوفتش تشيكوف حصرا بل كان لجميع العالم كذلك درس بطل حكايتنا درس تجاوز الحالة الفردية للشخص.. وخلاصة القول ان الحقوق لا يحصل عليه الانسان الضعيف ولا تعاد بالوكالة من خلال الثقة التي منحها الشعب العراقي لاعضاء مجلس النواب.. حقوقهم تتحقق من خلال الحضور في ساحات التظاهرات.