عبد الرزاق عبد الواحد شاعر كبير أضاع مجده وظلم شعبه / فاضل ثامر *

أثار رحيل الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد الكثير من السجال والجدل والحوار، فهناك من يحتكم إلى عطائه الشعري ويرى اننا يجب ان نؤبنه ونستذكر انجازاته الشعرية، وهناك من يحتكم إلى مواقفه السياسية المتأخرة ويرفض اظهار ايّ شكل من أشكال التبرير للدور الذي نهض به في تلميع صورة دكتاتور عانى الشعب العراقي الويلات من ساديته وسياسته واستبداده، وايضا بسبب قصائده المتأخرة التي ظل يمجد فيها رموز النظام الدكتاتوري المقبور، ويحرض فيها على العنف والارهاب ضد الشعب العراقي الذي وصفه بـ «الهمج».
ومن الواضح ان هذه القضية تثير مسألة العلاقة بين الشاعر، ايّ شاعر، وموقفه الاجتماعي والسياسي، وفيما اذا كان يمكن الفصل بين هذين الجانبين. وأود هنا ان اورد ردود الافعال المختلفة تجاه واحد من اكبر شعراء الحداثة في الغرب هو (ازرا باوند) الذي وقف الى جانب الفاشية الايطالية خلال الحرب العالمية الثانية، فقد انقسم النقاد الى موقفين: هناك من يطالب بالاحتكام الى شعره فقط، وهناك من جانب آخر من أكد على ادانته لمواقفه المدافعة عن الفاشية، واستمر السجال طويلا، وعندما تذكر شاعريته، هناك دائما اشارة الى مواقفه السياسية ال?ي بررت أكبر مجزرة في تاريخ البشرية ارتكبتها الفاشية والنازية في عصرنا خلال الحرب العالمية الثانية.
ولا يمكن لأحد ان ينكر المكانة الكبيرة التي سجلها الشاعر الراحل عبد الرزاق عبد الواحد في سفر الحركة الشعرية العراقية العربية. فهو شاعر خمسيني مجيد، كتب القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة معا، ونبغ في هذين الاتجاهين، وان آثر ان ينصرف كليا لاعتبارات ذاتية وسياسية ومنبرية ـ الى كتابة القصيدة العمودية. لكني اعتقد ان الشاعر كان متميزا في كتابة قصيدة التفعيلة او قصيدة الشعر الحر واصبح بحق من شعراء الحداثة المبرزين في هذا المجال، لكن هذا الانعطاف النهائي نحو العمود الشعري، جعل مساهمته في حركة الحداثة الشعرية تنقطع وتضيع الى درجة كبيرة، ويبدو لي ان هناك عوامل كثيرة اغلبها ذاتية وراء خيار الشاعر هذا. أولها ان الشاعر كان نرجسيا الى حد كبير فوجد في القصيدة العمودية المرآة التي يتمرى فيها أمام الآخرين، وهناك المنبر الذي كان يتطلع الى ان يكون سيّده بما يمتلكه من قدرة متميزة على الالقاء والنشيد، خاصة وانه كان يضع الجواهري الكبير مثالا له، الجواهري الذي تنبأ ان يكون عبد الرزاق عبد الواحد خليفته، فضلا عن ذلك فقد اكتشف الشاعر أن القصيدة العمودية أكثر تأثيرا وحضورا وانتشارا، وانها الباب الذي يدخل منه لتحقيق الشهرة والحظوة والمجد، والمدخل الجديد للتكسّب في النصف الثاني من القرن العشرين، خاصة بعد ان بدأ نجم الدكتاتور صدام حسين يصعد في تاريخ العراق السياسي، ومثلما اختار المتنبي ان يكرس شعره لتمجيد حاكم محدد هو سيف الدولة الحمداني، كذلك قرر الشاعرعبد الرزاق عبد الواحد ان يكون صدام حسين هو «سيف دولته» فانحاز اليه، وظنّي الشخصي ان هذا الانحياز لم يكن نابعا عن قناعة عميقة، بل قضية مصلحة آنية تقف وراءها الرغبة في الحصول على منافع شخصية ومكاسب معلومة، وازعم انه ظل يوقر لنفسه في لون من الخداع الذاتي، ان اختياره ذاك كان ذاتيا ونابعا عن قنا?ة شخصية، وهكذا تلبس الشاعر شخصيته الجديدة واستمرأها وهو يمارس الكذب على نفسه، ولديّ حدس ان بعض افراد اسرته والمقربين من اصدقائه سيكشفون مستقبلا عن جوانب هذه الازدواجية وهذا الخداع الذاتي للنفس، واذكر هنا موقفا محددا في بداية التسعينات خلال انعقاد احدى دورات مهرجان جرش في العاصمة الاردنية عمان، وكنت مدعوا للمشاركة في الحلقة النقدية الخاصة بالمهرجان بوصفي ناقدا، ولم يكن الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد مدعوا في تلك الدورة وان كان قد دعي في دورات سابقة، ولكنه فجأة وصل الى عمان ونزل في فندق القدس الدولي الذي يقيم ?يه عادة ضيوف المهرجان، ووجدته على غير عادته منكسرا وحزينا ويائسا، وكان يأمل ان يضاف اسمه الى قائمة المدعوين، لكنه لم يجد تجاوبا، فازداد وضعه الشخصي حراجة، خاصة وان السيدة زوجته «أم خالد» كانت برفقته، وقد اعترف لي آنذاك بأنه في ورطة ولا يمتلك نفقات الفندق أو الطعام، وعلمت منه ان «شهر العسل» الذي أمضاه مع سيّده قد انتهى، لكنه لم يفعل مثلما فعل المتنبي عندما قال معاتبا سيف الدولة: «يا اعدل الناس إلا في معاملتي»، ولم يكن يمتلك شجاعة الجواهري والبياتي ومصطفى جمال الدين لنفض يده من مدح هذا الطاغية، والخروج عن طالته من خلال اللجوء إلى بلد آخر، وأمضى الشاعر ساعات وأياما صعبة لم تنته إلا بتدخل مدير الديوان الملكي آنذاك (أظنه كان خالد محادين) الذي طلب من الفندق تسجيل ضيافته على نفقة الديوان الملكي، وانا واثق ان السيدة (أم خالد) تتذكر هذه الحادثة بكل ملابساتها، وربما يأتي الوقت المناسب للحديث عنها وعن حقيقة مشاعر الراحل تجاه صدام حسين.
هناك اليوم من يعتب على الادباء والكتاب والشعراء العراقيين ويتهمهم بعدم إنصاف الشاعر الراحل، وأقولها مرة أخرى اننا لا يمكن ان نختلف على شاعريته وانجازاته ومكانته، ولكننا ايضا لا يمكن ان نعزل ذلك عن مواقفه السياسية وقصائده التي كانت عاملا خطرا في إذكاء نار الحروب التي شنها الدكتاتور صدام حسين آنذاك والتي تسببت في قتل مئات الآلاف من ابناء شعبنا فضلا عن تبريره لجرائم الابادة التي ارتكبها الدكتاتور ضد الشعب الكردي والمحافظات التي انتفضت ضده عام 1991 بعد فشل احتلاله المخزي لبلد عربي شقيق مسالم هو الكويت، وكان باإمكان ان نضع هذا التاريخ جانبا، اذا ما عمد الشاعر الى الصمت او التراجع او الاعتذار بعد سقوط الطاغية، لكنه تمادى في مواقفه، بعد ان وجد الدعم المادي والمعنوي له للسير في هذا الطريق، فراح يناصب الشعب العراقي العداء منطلقا من مسلمات أيتام النظام الدكتاتوري من الصداميين وفتاوى التكفيريين والإرهابيين باتهام كل عراقي لم يدافع عن حكم الطاغية بالخيانة، من خلال مغالطة مكشوفة تتمثل في الحديث عن الاحتلال الامريكي للعراق والصمت ازاء جرائم النظام السابق، مما يعني ان ادانة الاحتلال لم تكن لتدنيسه ترابنا الوطني وهو أمر أدانته كل القوى الوطنية وكل شرائح المثقفين بل لأنه كان العامل الخارجي الذي ادى إلى إسقاط نظام الطاغية، وهو أمر كنا نود ان لا يتحقق بهذه الطريقة من خلال تمكين قوى الاحتلال لتدمير مؤسساتنا بل من خلال انتفاضة شعبية قادرة على الإطاحة بالنظام الدكتاتوري، وهي إمكانية برزت فعليا من خلال الانتفاضة الشعبية عام 1991 والتي تآمرت عليها القوى الرجعية والطائفية العربية بمباركة الولايات المتحدة التي وافقت على إعادة الحياة إلى النظام المهزوم وتمكينه من سحق الانتفاضة الشعبية، والعودة إلى الحياة تحت مظلة الحصار والاحتواء.
ولذا فنحن نقول بصراحة إننا لسنا ضد الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد لكننا ضد السياسي عبد الرزاق عبد الواحد الذي وظف شعره للإساءة للشعب العراقي بكل شرائحه ومكوناته ولتبرير كل الأفعال والجرائم التي كان يرتكبها الإرهابيون التكفيريون والأيتام الصداميون ضد الشعب العراقي.
ويبدو لي أن الشاعر وللأسف أصيب بلون من العمى السياسي في قراءة المشهد السياسي العراقي خاصة بعد خروج قوات الاحتلال عام 2010 واستعادة العراق لكامل سيادته الوطنية، فراح يصدر الأحكام والإدانات «الشعرية» ضد شعبنا الذي تعرض إلى حملات الإبادة والتقتيل والتشريد من قبل القوى الإرهابية والتكفيرية وفي مقدمتها عصابات داعش والقاعدة وجيش الطريقة النقشبندية وبقايا الصداميين.
وسأورد الآن بعض الأمثلة عن سلوك السياسي - وليس الشاعر - عبد الرزاق عبد الواحد في هذا المجال وهي غيض من فيض كما يقال، وقد يعرف القراء والأدباء العشرات من الأمثلة الأخرى.
ففي لقاء صحفي أجرته معه صحيفة «الزمن» العُمانية في 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 أثناء زيارته لسلطنة عمان، قامت به الكاتبة (بدرية الوهيبية)، تحدث فيه عن مسائل عديدة منها عن الشعراء العراقيين الذين خرجوا من العراق فقال حرفيا:
«هل ظل الإنسان في العراق كبشر إلا الذي يقاومون، وهم الثوار أما البقية الذين لم يغادروا فليسوا من البشرية في شيء، البشر غادروها وبقي الهمج».
وهكذا يحكم السياسي عبد الرزاق عبد الواحد على الشعب العراقي بوصفه همجاً ويستثني من ذلك ما يسميهم الثوار، وهم في الحقيقة عصابات من شذاذ الآفاق من إرهابيين وداعشيين وصداميين ومرتزقة أجانب لا علاقة لهم بالشعب العراقي.
قد يأتي من يقول ان عبد الرزاق عبد الواحد لا يعلم هذه الحقائق فنؤكد له إنه يعلم ذلك وإنه كان يكرر دائماً إنه سيعود إلى العراق لكي يقرأ قصيدة النصر (أيّ نصر يا ترى؟)، والدليل على ذلك إنه كتب نشيداً لما يسمى بجيش النقشبندية، وهو أحد أجنحة داعش حالياً ويرتبط بتنظيم حزب البعث المقبور ويتحمل وزر كل الجرائم التي ارتكبها الإرهابيون بحق العراق. يقول الشاعر في مطلع هذا النشيد الذي يمكن الاطلاع عليه في موقع «اليوتيوب»: «زنداً لزند.. قف للعراق يا نقشبندي» كيف يكون التحريض على العنف والإرهاب اذن بعد هذا؟
ليس هذا فحسب بل انه كتب قصيدة هاجم فيها الشعب العراقي برمته، وشتم فيه رموزه السياسية والدينية والثقافية على السواء جاء فيها:
وعندكم (مراجعٌ)، داموا لكم
أبغض ما لديهمو الجهاد
وعندكم معممون كالحصى
نعدّهم، وما لهم تعداد
هم أولياء أمرنا، تفٌ على
أمورنا، وليّها أوغاد
وعندكم (مواقعٌ)، نفتحها
يخنقنا ضراطها المعاد
والأسوأ من كل هذا وذاك ان اسمع كلمة نثرية على (اليوتيوب) بشكل وصية من عبد الرزاق عبد الواحد إلى المجرم والجلاد المدعو (أبو بكر البغدادي) تحت عنوان: (وصية عبد الرزاق عبد الواحد لزعيم داعش أبو بكر البغدادي)، جاء فيها:
«هذه الوصية ذمّة احملها لك. سأبقى في الأردن. إذا أراد الله وتحرر العراق وأنا حيّ، سأطلع من هنا إلى الموصل، لأكون إلى جانبك، أما إذا متّ قبل ان يتحرر العراق، اطلب ان ادفن هنا في الأردن، وأنت موصّى بأن تنقل جثماني من الأردن إلى العراق، هذه وصية اتركها للتاريخ».
هذا بالتأكيد غيض من فيض، ذلك ان سلوك الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد قد أسهم إلى حدّ كبير في الإساءة الى سمعة العراق والثقافة العراقية من خلال تقديم صورة خاطئة ومضللة عن واقع التحولات التي يشهدها العراق، على الرغم من كل الصعوبات والمعوقات والتدخلات في شأنه الداخلي وفي ترسيخ نظامه الديمقراطي الجديد.
من المؤسف ان يقف عبد الرزاق عبد الواحد مع كل أعداء العراق، مادحاً وداعماً ومغازلاً ومشجعاً على العنف والإرهاب وإراقة المزيد من دماء العراقيين، ولذا وجدنا كل هؤلاء ينبرون لنعيه وتمجيده والدفاع عنه، فقد اصدر حزب البعث (المحظور) بياناً مؤرخاً في الثامن من الشهر الجاري (تشرين الثاني 2015) بوصفه شاعر القادسية الذي «أتحف أبناء شعبه بقصائده الكثيرة التي تغنت بحبّ العراق والأمة وانتصارات العراق في معركة قادسية العرب الثانية»، كما ان كل القنوات والصحف المشبوهة راحت تمجده أيضاً، فضلاً عن عددٍ غير قليل من الأدباء الب?ثيين الذين وجدوا صورتهم في شعره، وهو أمر طبيعي ومفهوم إلى حدٍ كبير لكني أتساءل عن سرّ دفاع بعض الشعراء والأدباء عنه ناسين كل هذه المواقف السياسية المخجلة المعادية للشعب العراقي والداعمة للإرهاب. كما اعبّر عن دهشتي عن سبب قبول بعض كبار السياسيين الذين نعوه بذلك وهم يعلمون جيداً انه يعدّ من الناحية القانونية من المروجين للإرهاب والعنف ضد الشعب العراقي والمحرضين على إسقاط التجربة السياسية العراقية بكاملها وتمكين القوى التكفيرية والإرهابية من الهيمنة على مقدرات الشعب العراقي.
مرة أخرى نقول إننا لسنا ضد شاعرية عبد الرزاق عبد الواحد لكننا ضد مواقفه السياسية الداعمة للعنف والإرهاب راهناً وقصائده التي دنست براءة الشعر الحقيقي فحوّلته إلى مديحٍ رخيص لحاكم مستبد ولنظامه الدكتاتوري وحرضت على الحرب والعدوان.
وعلى الرغم من كل ذلك نؤكد بوصفنا ممثلين لإتحاد الأدباء والكتاب في العراق ان الشاعر لم يكن مطلوباً للعدالة ولم يرقن قيده أو قيد أيّ أديب آخر من سجلات الاتحاد، كما لم يصدر أي حكم قضائي ضد أي كاتب عراقي، وكنا على ثقة بأنه لو أتيحت له الفرصة للعودة الى العراق لشعر بالندم وهو يقابل أصدقاءه ومحبيه وأهله المندائيين ولبكى وكفّر عن ذنوبه وخطاياه بحق شعره وبلده وتاريخه الشخصي.
الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد شاعر مهم وكبير لكنه ظلم نفسه وتاريخه بالانزلاق سياسياً الى مواقف الدفاع عن الإرهاب والتكفير والعنف فضلاً عن تحويل شعره الى أداة للدفاع عن الدكتاتورية والاستبداد تحقيقاً لنزوات شخصية ونرجسية قادته في النهاية الى هذا الموقف الإشكالي المعقد لأنه وضع نفسه في مواجه شاملة مع أبناء شعبه المسالمين الذين ابتلوا بأسوأ ما واجهته شعوب الأرض من محن وجرائم واحتلال وبيروقراطية ودكتاتورية وفساد وغياب للقيم وللعدالة، لكنهم ظلوا واقفين بوجه كل هذه العواصف، واثقين من قدرتهم على تجاوز كل هذه التحد?ات والوصول الى شاطئ الأمان من اجل غدٍ أفضل للأجيال القادمة بعيداً عن العنف والإرهاب والاستبداد، وبعيداً عن الاحتلال والتدخلات الدولية والإقليمية، ومن اجل بناء عالم العدالة والمساواة والحرية والثقافة في ظل دولة المؤسسات الديمقراطية.
نشعر بالأسى والرثاء لشاعر أضاع نفسه وظلم شعبه وارتضى أن يكون أداة للعنف والإرهاب وسلطة الطغاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* رئيس الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق