هكذا يصمد الابطال / عريان السيد خلف

ادخلوه معصوب العينين الى القاعة التي رمونا فيها كما ترمى الوسائد من دون ترتيب وتناثرت دماؤنا في كل بقعة من ارض تلك القاعة في محكمة الشعب السابقة والتي سميت بـ (المكتب الخاص) حيث يشرف المجرم ناظم كزار والقتلة عمار علوش وفاضل جلعوط وثلة من الجلادين المحترفين امثال رافع الكبيسي ومنذر الونداوي وآخرين.
كانوا يتعاونون بتفانٍ في تعذيب من يُرمى في هذه القاعة، وكان الزمن الشهر التاسع من سنة 1963 وخالد طبرة سيد الاوامر والارشادات لزبانيته. كنت مرمياً تحت احدى المناضد وانا اضغط باسناني على لساني الذي حاولوا قطعه وكان الدم ينزل بغزارة. ابعدتهم عن الاستمرار في ضربي خوفاً على ملابسهم من التلوث بصبغة الدم. كان عمري حينها سبعة عشر عاماً وكنت ممتلئاً بالحماس والاندفاع وعازماً على الصبر امام المصير الذي ينتظرني. حينما ادخلوا فتى يقاربني بالعمر ونزعوا العصابة عن عينيه، كان ينظر لهم باحتقار واضح. وبعد ان تلفت يمنة ويسرة وهو يسمع آهات المعذبين جلس في زاوية قرب الباب. لكنهم لم يمهلوه طويلاً فقد دخل فاضل جلعوط ومعه شخص آخر لا أعرف اسمه وانهالوا عليه بالكيبلات الغليظة دون اي مقدمة او سؤال. كان يدفع بيديه العاريتين ضرباتهم الموجعة وكانوا يصرخون بهستيريا: اعترف يا ابن الكلب. ولكنه ظل صامتاً. ثم ان المجرم فاضل فاجأه بضربة على رقبته، فقد عندها وعيه وتمدد على الارض بلا حراك. بعد دقائق جلبوا شخصاً جس نبضه ثم همس لهم انه قضى وفارق الحياة.
كانت هذه الحادثة الثانية التي رأيتها خلال تلك الساعات، حين جلبوا اثنين من عمال معامل الطابوق بدشاديش العمل المتسخة بالتراب والدخان ويبدو انهما اخوة. عرفت اسم صاحب (العرقجين) الذي سأله المحقق فقال اسمي داخل. وكان اسم شقيقه كامل. وقد بدأوا بضرب وتعذيب (داخل) الذي بعد فترة من الضرب على بطنه وصدره اخذ يتقيأ دماً. وقبل ان يموت التفت الى اخوه كامل وصاح به بصوته المتعب: كامل خاف اموت لا تعترف وتفشلنه ويه الحزب.
ثم اغمض جفنيه الى الأبد.
في اليوم الثاني جلبوا مجموعة كبيرة من الشيوعيين وعلى إثرها نقلونا الى الغرف التي كانت ممتلئة بالموقوفين، ومنهم عسكريون ومعلمون وطلبة، وكانوا يأتون صباحاً لرفع جثث من يموتون ليلاً ولا أعرف اين يذهبون بها؟
ضاقت الغرف والقاعات بالمعتقلين وقرروا على ما بدا نقلنا الى اماكن اكثر اتساعاً. وهكذا صار نصيبي ان ينقلونا انا وبعض الرفاق الى السجن المركزي/ القاعة الخامسة، وبعد فترة قصيرة الى الموقف العام المجاور للسجن. وهناك وجدت الرفيق المرحوم الشاعر مجيد جاسم الخيون واسماعيل الزهاوي ومحمد الخزعلي ومكي المهندس وآخرين. وشعرت ببعض الامان. كنا تحت حراسة الشرطة وليس (الحرس القومي) مما جعلنا اكثر اماناً. بعد شهرين تقريباً تعرفت على الشاعر الكبير ألفريد سمعان وعلى الدكتور رافد والدكتور رسمي الركابي والطيار خالد شفيق والطيار عبد الملك واولاد عباس الترف فياض وكلف وروسي ورشيد ويوسف، ووالدهم الكريم وكذلك حامد قاسم وآخرين لا اتذكرهم كلهم.
سمحوا لنا بمواجهة عوائلنا وصرنا نعرف ماذا يدور خارج السجن وكانت تصلنا ادبيات الحزب بأساليب مختلفة. وفي احدى المواجهات جاءت امرأة كبيرة وراحت تدور على الموقوفين وهي تحمل صورة تسأل عن صاحبها ومصيره. استوقفتها ونظرت الى الصورة وكانت صورة الشهيد الشاب علي عامر. عندها سألتني هل صادفت هذا الشاب فهو بكصتك يمه؟ بكيت وقلت لها نعم يا خاله لقد صادفته. سألتني بلهفة اين ومتى؟ أردت ان اخبرها لكن رفاقي منعوني خوفاً عليها. ولكنها اصرت وعند ذاك قلت يا خاله هل اسمه علي عامر؟ قالت نعم. قلت لها لقد قتلوه.. السفلة.
جحظت عيناها ثم استعادت تماسكها وقالت وكيف كان موته؟ هل كان موت رجل شجاع؟ قلت يا خاله كان بطلاً ويجب ان نفتخر به جميعاً. عندها اطلقت ام عامر (هلهوله) هزت جدران الموقف وشعرت واشعرتنا بالزهو والفخر والشجاعة.
ممات الذل عمر وسنين واجيال
وممات العز تره إشما طال لحظات