الاحتلال والارهاب والبحوث العلمية الميدانية / أ.د. عبد الحسين حسن كاظم

نجحت مراكز بحوث التاريخ الطبيعي والفرق البحثية البايولوجية والزراعية والبيئية، والفرق البحثية الخاصة والصحية وغيرها، في توفير قواعد معلومات ونماذج وخرائط توزيع جغرافي اصبحت مصدراً موثوقاً به لكل الباحثين داخل وخارج العراق ووفرت المسوحات الميدانية فرصة مهمة للتعاون بين الباحثين العراقيين من جهة، وبينهم وبين الباحثين العرب والاجانب من جهة أخرى. ويستطيع المتتبع ان يتحقق من هذا القول بالرجوع الى العدد الكبير من الدراسات والبحوث، التي نشرت من قِبل الباحثين العراقيين والاجانب.
ولكي نضمن الدقة والتخصصية المطلوبة فسوف نحصر طرحنا فقط على ما كان عليه الوضع في مجال البحوث المسحية في مجال علوم الحياة باعتبارنا عاملين فيه ومن الذين عملوا على تأسيس وحدة للبحوث المسحية الميدانية، استطاعت ان تنجح في توفير اعداد كبيرة من النماذج المحنطة الملحوظة والعظام والجماجم، والجلود المدبوغة للعديد من الاحياء الفقيرة في مقدمتها الاسماك والزواحف والالبان، فضلا عن خرائط التوزيع الجغرافي لهذه الاحياء في العراق تكملة لما قام به اساتذتنا الكبار امثال كامل خلف واياد نادر ومحمد سليم صالح ومراد بابا مراد وغيرهم من العلماء الافاضل، الذين رفعوا اسم العراق والمستوى العلمي والبحثي فيه. كما ذكر في مقدمة هذه المقالة، ان الفرق البحثية في مراكز بحوث التاريخ الطبيعي، في كل من بغداد والبصرة والموصل وفي المراكز البحثية التابعة لمجلس البحث العلمي ومنظمة الطاقة الذرية ومراكز البحوث التابعة لوزارة الزراعة، كانت تعمل وفق خطة مبرمجة للقيام بالسفرات العلمية البحثية الدورية التي تستغرق اياماً وحتى اسابيع، وكان الهدف من هذه السفرات العلمية، فضلا عن المعلومات وزيادة عدد النماذج وتبادلها مع المتاحف خارج العراق. وبكل فخر وتفاخر، فقد وصلنا في موضوع تصنيف النماذج من الفقريات واللا فقريات الى درجة مكنتنا من التصنيف بدون طلب المساعدة من متحف التاريخ الطبيعي البريطاني او المتاحف المتخصصة في برلين او موسكو او كراكوف او غيرها، ولنضع اساساً قوياً للمقارنة، نود ان نشير الى بعض الفعاليات العلمية المهمة التي اثبتت فيها الفرق البحثية العراقية امكانياتها ورصانة قاعدتها العلمية. الفعالية الاولى هي انتشار الاصابة بالـلثمانيا الجلدية (حبة بغداد) في صفوف قواتنا المسلحة في بدايات الحرب العراقية- الايرانية، إذ تشكل فريق بحثي واسع عام 1982 لتحديد الطفيلي والحيوان الخازن ( Reservoir ) وطرق المكافحة، وانتهى الفريق من اعداد خطة متكاملة ادت الى تقليل الاصابات. اما الفعالية الثانية فكانت في اواسط الثمانينيات عندما قرر العراق بناء محطة كهربائية نووية لزيادة انتاج الكهرباء، وكانت الرقعة المقترحة لاختبار الموقع تمتد من بيجي الى جنوب سامراء شاملة رقعاً كبيرة من محافظتي الانبار وبغداد. استطاع الفريق البحثي المشكل من باحثي مجلس البحث العلمي، ومنظمة الطاقة الذرية ان يقوم باجراء المسوحات الميدانية والبايولوجية والجيولوجية والهايدرولوجية بتلك الدقة التي جعلت الباحثين العراقيين يزاحموا الخبراء الامريكان والروس وهم المشهود لهم باجراء مثل هذه المسوحات لكثرة المحطات الكهرو- نووية المنشأة في بلدانهم، وفي بداية التسعينيات حدث انفجار- سكاني كبير (Outbreak) في اعداد القوارض وخصوصاً في محافظات وسط العراق، حيث تسبب هذا الانفجار السكاني في اضرار اقتصادية وصلت الى 80 بالمئة من المحاصيل المختلفة في مواقع عديدة في محافظات بغداد وكركوك وديالى وواسط, كذلك فقد كانت هناك خطوة لاصابة الابقار بالدودة اللولبية في اواسط التسعينيات تسبب في موت اعداد ليست بالقليلة للماشية وفي مقدمتها الابقار. إنبرى الباحثون العراقيون لهذين الحدثين المهمين واعدت الدراسات المتكاملة للتخلص من القوارض وتحصين الحقول، كما وتم تشخيص نوع الدودة المتطفلة على الابقار من قبل الباحثين في مركز بحوث التاريخ الطبيعي في بغداد. وددنا ان نطرح الفعاليات المذكورة لتتضح اهمية البحوث المسحية الميدانية التي كانت تجرى في الصباح والى ساعات متأخرة من الليل وحتى الفجر، وذلك لتوفر الوضع الامني المستقر ووسائط النقل والتخصيصات المالية لكل سفرة علمية لجمع المعلومات والنماذج واجراء التغييرات في خرائط التوزيع الجغرافي، يتضح مما اشير إليه ان البحوث العلمية الميدانية كانت في اوج نشاطها في الستينيات والسبعينيات- مع قلة اعداد مراكز البحوث والجامعات- واستمرت هذه البحوث حتى خلال الحرب العراقية- الايرانية، وخلال فترة الحصار الاقتصادي الظالم على وطننا وكل شعبنا خلال التسعينيات، وحتى 9/4/2003 مع انخفاض واضح للتخصيصات المالية للفعاليات البحثية وقلة الايفادات نتيجة الحروب.
تغيرت الصورة الجميلة الى صورة كالحة مأساوية وبعد الاحتلال الامريكي للعراق في 9/4/2003 وتميزت الحالة بما يلي:
1- تدمير مراكز البحوث وإتلاف محتوياتها العلمية ونماذجها النادرة وآلياتها نتيجة سماح قوات الاحتلال لعصابات النهب والسلب (الحواسم) بالعبث بهذه المراكز وحتى حرقها،
2- تسببت حركة الآليات العسكرية للمحتلين بتدمير الوضع البيئي في العراق، سواء بتدمير الغطاء النباتي والتسبب في موت العديد من انواع الحيوانات وخصوصاً الزواحف واللـبائن او يجعل هذه الحيوانات تهرب الى اماكن وبيئات غير مناسبة. هنا لا بد من الاشارة الى التغييرات في منطقة الاهوار والمناطق الصحراوية وشبه الصحراوية.
3- خلف انتشار القوات المحتلة وضعاً لا يمكن لاي عاقل ان يفكر فيه باجراء بحث او القيام بزيارة ميدانية او جمع نماذج للبحوث حتى لبحوث الدراسات العليا في بغداد والبصرة والموصل اذ كان الدارسون يتعرضون الى الحجزوالسؤال مع إن عملهم البحثي واضح.
4- ادى استخدام القوات المحتلة للانواع المختلفة- وحتى الممنوعة دولياً الى الاخلال بالتوازن البيئي اذ تحول الوضع الى سالب تماماً للمجاميع الاحيائية بعد ان كان موجباً او متوازناً قبل الاحتلال الامريكي. لا بد من الاشارة هنا الى ما يظهر من حالات خلقية غير طبيعية بين الحيوانات والبشر وخصوصاً في مناطق البصرة وميسان والانبار والفلوجة، ناهيك عن زيادة الاصابة بالاشكال المختلفة من الامراض السرطانية.
لم يكتف المحتلون بما ذكر في اعلاه بل انهم فتحوا الحدود العراقية لكل من هب ودب من عصابات الارهاب- وبكل تأكيد فان زيادة انتشار التنظيمات الارهابية وسيطرتها في هذه المنطقة او تلك في العراق قد قضى نهائياً على أية امكانية- ومهما كانت محدودة- لاجراء أي بحث او دراسة ميدانية، والله وحده يعلم الى متى سيدوم هذا الوضع ومتى يستطيع النشاط البحثي الميداني استعادة عافيته. لا بد ان نشير هنا الى ان النشاط البحثي الميداني والى ما قبل الاحتلال كان قد حقق نجاحات كبيرة في تسجيل انواع لاول مرة في العراق وحتى تسجيل انواع جديدة للعلم وخصوصاً في مجال الحشرات وغيرها من اللا فقريات، انا وعدد من زملائي في مجلس البحث العلمي المنحل كنا قد وضعنا الكثير في مجال التسجيلات الجديدة لانواع الحيوانات او تسجيل انواع معروفة ولكنها تسجل لاول مرة في العراق، بالاضافة الى التوسع في اعداد خرائط التوزيع الجغرافي. ومع اننا غير متفائلين بالمستقبل نتيجة الظروف الصعبة التي يمر بها العراق، خصوصاً في المتعلق بالوضع الامني ومكافحة الارهاب ولكن لا بأس اثبت بعض المقترحات عسى الله أي يكتب لها التحقق ولو بعد حين وهي:
1- تضع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة العلوم والتكنولوجيا ووزارة البيئة خطة مستقبلية خمسية في الاقل- لاجراء البحوث الميدانية بهدف اعادة تأسيس القاعدة البيانية للاحياء العراقية وجمع ما يمكن جمعه وحفظه وتحنيطه من الانواع التي اصبحت نماذجها المحفوظة اقل من القليلة، ومع ضمان الجانب الامني، للفرق البحثية واحتياجاتها المادية.
2- تشجيع بحوث الدراسات العليا في مجال التوزيع الجغرافي والجوانب الحياتية للاحياء العراقية لان هذا سيجعلنا نوفر فرصة للدراسة وفرصة لجمع النماذج وتوزيع الانواع.
3- توقيع الاتفاقيات مع مراكز البحوث العالمية والجامعات لاجراء البحوث المشتركة لان هذا سيوفر لنا الفرصة لزيادة الخبرة بالنسبة للباحثين العراقيين وسيزيدون إمكانية تدريب الكادر الوسطي الشاب من حملة شهادات البكالوريوس.
4- زيادة حجم المكافأة للبحوث الميدانية المسحية في جميع انحاء العراق.