اضغاث الماضي العراقي*/ رزاق عبود

دخل المغول الجدد، وسكان الكهوف الى عاصمة العراق، وأعيد بناء ابواب بغداد القديمة، وعزلونا عن العالم . "بلاد السواد السعيدة" صارت بلاد السواد الحزينة، سجون بغداد فتحت من جديد، وقصور نهاية لا تنتهي. عزلة، ووحشة "نقرة السلمان" صارت نزهة مقارنة بالسراديب الحديثة، والسجون الامريكية والاسلامية. رايات الحزن تطوف في شوارع بلادي، اطياف الموتى تزور الاحياء وتتخطاهم عددا. الاعدامات مثل الدعايات، لم يعد يكترث بها احد. كل الحنفيات تصب دما، وجهنم في كل ركن، وكل باب. الحمامات العامة تحولت الى مغاسل للموتى، والمستشفيات الى مستودعات للجثث. العاب الاطفال مسدسات، وبنادق، وكراة اللعب، رمانات، ومتفجرات. يسقون حدائقهم برشاشات الرصاص. حتى رسائل المحبين صارت تنتهي "اذا التقينا"! او "اذا كتب لنا البقاء"! سنتزوج على سنة الحرب، وشرع الاغتصاب. ارغفة الخبز مثل كارتونات المزابل ملوثة بكل انواع الغش. ملاك الموت يرفرف في سمائنا، بعد ان ترك كل الفضاءات. الغيوم الممطرة رحلت الى غير ديارنا، ولا تمطر سمائنا الا سما، وعفونة، وتلوثا. ابدلوا اسم الملاك الى هلاك. تتجول الطلقات الطائشة بلا خوف، تتحسس رائحة البخور المحروق اكراما للموتى. الدموع تغسل حزن الوجه، وتتغلغل عذابا في جسد الروح. اختفت حفاوة القادمين من الغربة، وصار استقبالهم سياطا من التهميش. الضمير ودعنا ورحل يبحث عن قبر يأويه.المجانين، والكلاب السائبة، والمتسولون، يملؤون الشوارع، والساحات. النوافذ، والعيون، والرئات تستقبل دخان الانفجارات. يدخل الشرطة الى كل مكان، ولا تجدهم في اي مكان حين تحتاجهم. يعرفون سر، قف، استدر، ارفع يديك، واطلاق الرصاص بغزارة الرمال القادمة من الصحراء في عاصفة الاجتياح. لقد بدلوا كلمة الحب الى حرب. اجيال الحرب تتوالد، ويوميا يولد جلاد يمنح البلاد اسمه، وترفع الغوغاء صورته، ويقف فوق السطوح معلنا علويته على الرعاع. نصب الحرية لملم رموزه، ورحل يبحث عن جواد سليم ليشاركه القبر. جاء مربو الحمام من المربعة، والثورة، والشاكرية ليصادروا حمامات النصب التي سبقهم الجنود الى شويها، وتناولها. وقف البدو يرقصون الچوبية في باب الشرجي، واصطف اهل الچبايش ليرقصوا الهچع عند وزارة الدفاع. رفض اهل اربيل الغناء لان كلمات احمد الخليل كانت عربية. وقف روزخون يوزع الادعية، ويستلم اثمانها قصورا، ومواقع، ومناصب . ان لم تدفع للمحتال فانت كافر، ملحد، ويحل قطع راسك، او قتلك، وحتى حرقك.
لم نعد نستقبل ضيوفنا في الديوانية (غرفة الخطار) تحولت الى مجلس عزاء دائم، ومجمع عشائري لدفع الفصل، وتقديم الفدية، وتسليم الفصليات. مهد الحضارات ، بلاد الثورات، ارض الشعراء، يحكمها اجلاف يرتدون العمائم، والصايات، يستلمون اوامرهم عبر المحيط، وعبر النهر. صدقت نبوءة حضيري ابو عزيز "دكتور جرح الاولي عوفة، جرح الجديد عيونك تشوفة"! ديمقراطية الملالي من عرب، وعجم، واكراد. اعادوا لنا ما اختفى من بلادنا، اعادوا التراخوما الى عيون اطفالنا، والسل الى صدورنا، وانواع السرطان، واصفرت الوجوه بسبب اليرقان، وعادت الكوليرا تمرح في الاحياء الشعبية، واوبئة اخرى لم نسمع بها من قبل.
حروفنا الاولى التي نتبجح "اننا" قدمناها للعالم تختفي من عالمنا، وتصبح الاجيال امية غبية مسلوبة الارادة. جاؤونا على دبابات الاجنبي، وطائرات اليانكي. كل جاء مع سيده، واوامره، ومؤامراته، وخططه اللعينة، وخريطة التخريب التي يجب ان ينفذها في جيبه. النفط تتنعم به شعوب الدنيا، ماعدانا. حتى البدو صار لهم عمارات، واسواق، وسيارات، وطائرات، ومعارض دولية، وسباقات عالمية، ومهرجانات دورية، ونحن يحرقنا النفط بعوادمه في شوارعنا المحفرة، المعفرة، المدمرة. مبذول نفطنا في اسواق الدنيا، ونحن منتجيه نتمناه، وننتظره، كما ننتظر الماء. سلعتان اشتهرت بها البلاد لكنها اختفت من الاسواق. نستورد ماءنا، ومنتجات نفطنا، والغاز، وخضرتنا، وحتى تمرنا من شعوب، وبلدان لم يسمع بها احد قبل الاحتلال. اهل الكهف جاؤوا لينفوا علماءنا، ادباءنا، اطباءنا، خبراءنا، مبدعينا الى المنافي، او المشافي، او السراديب، او المقابر. فتحت السراديب، والاقبية، والدهاليز على مصاريعها لخزن منتجات الديمقراطية الامريكية الاسلامية. حولونا الى رعاع، الى حفاة، الى امعات، الى رعايا لا ترى، ولا تبصر .تمشي الاف الكيلومترات، ويقطعون البراري للزيارة، او الحج، او اللطم، ولا تخرج للاحتجاج على الفساد، والسرقات، واستباحة الوطن. يلطمون، ويبكون، ويدقون الصدور، ويمزقون الملابس، ويشجون الرؤوس، ويمرغون وجوه اطفالهم بالدم. يشتمون اخوتهم في الدين، ويقتلون اشقاءهم في الوطن، ولا يتحركون ضد من يستبيح بلدهم، ويلوث ارضهم، وينتهك عرضهم، ويستبيح بيوتهم، ويسرق اموالهم، ويعبث بتاريخهم، ويهرب اثارهم . سكان البلد الاصليين، واحفاد بناة حضارته، وتاريخه، ومجده صاروا "اقليات"، و"جاليات" مشردة، ومجموعات مبعثرة، وعوائل ممزقة، ونساء مسبية، وحرمات منتهكة. يذبحون كالنعاج، ويباعون كالمواشي. يموتون من العطش، والجوع، والتعب، والانهاك، والغدر، والخيانة. يشارك الجميع دون استثناء بجريمة ابادتهم، وتصفيتهم، وتشريدهم، او تدجينهم. اسواقنا القديمة الاثرية الزاهية، المزدحمة، النشطة، المكتظة، سيطر عليها الوجوم، والخوف، والقلق، والتوجس. شوارعنا تقاسمتها الانفجارات، ومزقتها الحواجز، وحاصرتها النفايات. في اسواق الكتب تباع المسدسات، والبنادق، والالغام، وصنف الكتاب حسب الطائفة. الشعراء الذين كتبوا للعراق، تغنوا بالعراق، ماتوا، وتشردوا، وتغربوا، وسجنوا، وعذبوا من اجل العراق منعت كتبهم، واحرقت دواوينهم، واحتلت دورهم، واسقطت تماثيلهم، وبدلت الشوارع التي تحمل اسماهم. حتى المدارس اغلقت لانها تحمل اسما لايروق للحاكمين. بغداد دار السلام يحكمها قتلة. بغداد مدينة العلم يغزوها الجهلة، بغداد مدينة الجمال يستبيحها اللصوص، بغداد مدينة المياه يموت اطفالها عطشا. بغداد الخضرة، والبساتين تتحول الى مزبلة. بغداد عاصمة العراق مرهونة ارادتها بيد العملاء. بغداد المظاهرات، والانتفاضات، والوثبات، والثورات صارت معتقلا كبيرا، وساحة كبيرة للاعدامات، والاغنتيالات، واصطياد المعارضين، واطلاق النار على المحتجين، وتغييب المتظاهرين. حتى اكلاتنا الشعبية مسخت. الباميا صارت خراطيشا للرشاشات، والنومي بصرة صارت رمانات للقتل، الرقي حتى قشره صار احمر من دماء القتلى، والقيمر الابيض اصطبغ بلون الرماد. حتى الطيور المهاجرة لم تعد للعراق، فاكثر الاهوار مجففة، والاجواء مسممة، والمياه ملوثة، والغابات اقتلعت من جذورها. اعواد البردي صارت حرابا، وسهاما للصوص، والمتنازعين، بعد ان كانت اقلاما للسومريين. النخيل صارت تلطم على نفسها من الاهمال، والتجاوز فمشعت سعفها، وبادت مخيفة للطيور، ومحرومة من الثمر. هؤلاء الذين يتحدثون باسم الجنة حولوا بغداد، وكل العراق الى جهنم. اللبلبي لم يعد له طعم، والباقلاء منخورة بالديدان، والشلغم معفر بالبارود، واللوبية مغسولة بالدماء. المزة صارت سلعة مهربة، ممنوعة، محرمة، والبارات اقفلت بالشمع الاسود، واصحابها يسجنون، يهانون، يسلبون، يهجرون، ويقتلون. اين ساتذوق طعم الباچة التي عشقتها ايام الدراسة؟ واين اجد باقلاء بالدهن يفوح منها عطر البطنج، وليس الكافور، واين ساسمع الچالغي، وفرقة الانشاد، ومائدة نزهت، والمقامات، واغانی الریف؟ اين ساطرب للخشابة، والتصفيق البصري، واتمتع برقص الهيوة، والفرقة القومية، وبنات الريف. مقتل، ومقاتل، وعويل، ومآتم، ومواكب حزن في كل مكان. اهل التطبير منعوا الاطفال من الذهاب الى المدارس، ارعبوهم مثل شقاوات ايام زمان. يبكون على عشرات السبايا لالف عام مضت، وقد تحول الملايين الى سبایا، ومسبيين، بلد كله مسبي، ولا تسمع للحكام، والطبالة، وقراء التعازي، ولو انين تعاطف. السياسة كانت نضالا ضد الاجنبي، ضد المحتل، ضد الاقطاع، ضد الاستغلال، ضد الصهيونية، ضد الاستعمار، ضد حرب فيتنام، ضد حرب السويس، ضد النكبة، ضد هزيمة حزيران، ضد المعاهدات الجائرة، ضد شركات النفط، والاضطهاد. من اجل حقوق المرأة، والطلاب، والعمال، والفلاحين، من اجل الحرية، والديمقراطية، والتعليم، والخبز، والعمل، والتعايش. وصار سياسيو الصدفة "اشراف روما" الجدد. راية واحدة كانت توحد الجميع، وان اختلفوا سياسيا، او عرقيا، او دينيا، او مذهبيا. الآن الاف الرايات، الاف الاذاعات، الاف الفضائيات، الاف الجرائد والمجلات، وكلها طائفية بغيضة، وعصبية مريضة، وانتهازية ممقوته. من الانقلابات العسكرية الى الصراعات الطائفية. بغداد كان يفصلها النهر، وتوحدها الجسور. النهر كان شريانا يسقي الجميع، والجسور لم تكن تعنى غير التوحد، والمظاهرات، والوثبات حتى اسمائها تدل على بغداديتها، وعراقيتها والان صارت ثكنات، ونقاط تفتيش، وحواجز بين الاهل والاحبة. الزعيم كان عربيا، وكرديا، وتركمانيا، واثوريا، وكلدانيا، وسريانيا، وارمنيا، سنيا، وشيعيا، مسلما، ومسيحيا، ويهوديا، وصابئيا، ويزيديا، وشبكيا، لكنه قبل كل شئ كان عراقيا. احب العراق، واحبه شرفاء العراق. واليوم يتبجحون، ويتعصبون بالانتماءات المناطقية، والعشائرية، والدينية، والقومية، والطائفية. كان الصفصاف شجرا للزينة فقط تلتحف به الحدائق المنزلية، والعامة ويمنح الظلال لارصف الشوارع، والمتجولين، والعشاق، وطلاب المدارس، وباعة الدوندرمة. والان صارت كل اشجارنا صفصافا لكنها منزوعة الاغصان، والاوراق، عارية الا من عقمها مثل كل السياسيين، والسياسيات الجهلة في بلدنا المسكين. شعب، وبلد كان يباغتهما الفيضان احيانا. حتى الفيضان في تلك الايام كان يحمل معه الخير، والطين، والخصب، والاسماك، وطيور الماء، ويحيي الارض اليابسة، ويعيد المياه الى السواقي، والانهر، والجداول الجافة. فيضانات اليوم تحمل الامراض، والاوساخ، والعفونة، والمزابل، والنجاسات، وتختطف الاطفال، والمواشي. لم يعد دجلة يفيض، ولا الفرات، ولا حتى شط العرب ذو المدين. تفيض علينا المجاري محملة بالعفونة، والنجاسات تذكرنا باوساخ السياسيين الفاسدين، وقذارة افكارهم، وعفونة جرائمهم، وظلامية تاريخهم.
لم يعد هناك شيائا نقيا في بلد النقاوة، والطيبة، والصفاء، والتسامح. كل شئ صار مغشوشا، الطحين، والخبز، والرز، والشاي، والدواء، والماء، والنفط، والبانزين، وحتى الدين. رغم زيارة الملايين المغفلة، المعطلة عقولها الى باب الحوايج، والمعصومين، والقديسين، والاولياء، ولا يسلم زوارهم، ضيوفهم، مريديهم من القتل، ولا السرقة، او الاحتيال، او الاختطاف، او الاغتصاب، والسلب، والنهب، او الاختفاء، او الموت. حتى "العلگ" الاخضر لم يعد يمثل بني هاشم، صار لون النفاق، والتخلف، والتنازع، والغش، والابتزاز، والاحتيال، والاستغلال. كيف يمكن ان يعوض علگ، او لطخة حنة، او عوذة، او دعاء، او حرز، او بصاق "ملّه" مسلول، او لمسة معتوه الادوية، والعقارات، والتطعيم؟ كنا نضحك، ونسخر، ونستغرب، ونحن نرى ذلك في الافلام الهندية في خمسينات، وستينات القرن الماضي، وما تنقله الاخبار من غابات الشعوب البدائية. اليوم صار العالم كله يضحك على هذه الملايين المغيبة، المخدوعة، المغشوشة، المسيرة بالريمونت، وهي تطلب شفاءها، وثراءها، وصحتها، ونجاحها، ونسلها من حجر اصم، او التبرك بمراقد لا احد يدري من دفن فيها. جموع تستحضر الماضي، وتحتقر المستقبل، تمارس الثأر البدوي، والقتل البريري في عهد الحداثة. نحارب جارنا، اخونا، صديقنا، زميلنا، اهلنا، اقاربنا. نحارب العالم، ونهدده بالفناء، ونحن لا نملك ابسط مستلزمات الحياة. نجتر خطب الخلفاء، واقوال السلف، ونحيي الموتى من نصوص عفا عليها الدهر، ولم نستطع اعادة زراعة نخلة واحدة اقتلعتها حروب عبثية.
*يبدو انني كتبت هذا الموضوع قبل فترة، وانزوى بين خبايا الحاسوب، متأثرا وقتها،ربما، بمشاهد، او اقوال، او صرخات ما. ويبدو انه لم يتغير شيئا في بلدنا، الذي تتكرر فيه المهزلة كل يوم على شكل مأساة!