فن الانصات ! / عماد جاسم

من ابجديات الذوق العام ثقافة الإنصات، وحسن الاستماع، ومنح فرصة المتحدث لإنهاء فكرته، وتجسيد السلوك الحضاري بعدم المقاطعة أو الشرود الذهني، ويؤكد المفكرون ان الانسان يحتاج إلى عامين من عمره فقط ليتعلم الكلام لكنه يبقى لسنوات طويلة يطمح إلى تعليم نفسه آليات الاستماع المثمرة, و اختيار مفردات الاختلاف مع توجهات المتحدثين بروح من التفهم.
ويبدو ان معيار معرفة تحضر الشعوب يستند إلى حوارهم المتبادل اثناء تجمعاتهم او في ملتقياتهم الفكرية والتربوية, ومن واقع النقد الذاتي لمجتمعنا العربي عموما والعراقي على وجه الخصوص, نقتنص تلك الصفة السلبية المتمثلة في الحديث الجماعي دون السماح لفرصة اكمال الفكرة حتى يبدو ان الافواه مفتوحة كلها بلا توقف او اعطاء فرصة الانصات, وهذه السلبية السلوكية لا تقتصر على لقاءات الاصدقاء و تجمعات العوائل والمعارف او أصحاب المهن وإنما تتعدى ذلك لتكون اكثر حضورا في المنتديات الادبية والثقافية والمحاضرات والندوات المتنوعة، بل انتقلت العدوى الى برامج الحوارات السياسية والثقافية التي تحولت الى حلبة حوارات واتهامات متبادلة غير مفهومة المعنى وتفتقر الى الجدوى من اقامتها، فالكثير من المساهمين فيها يحاول مسك الخيط ليعلن عن نفسه ومجتهدا في طرح متبنياته الفكرية متناسيا انه لا يتحدث في صلب الموضوع، ومحاولا بسط نفوذه الحواري في عدم منح اي فرصة للآخرين لتلقي المعلومات باليات انصات مناسبة, وغالبا ما تنتهي معظم تلك الندوات واللقاءات دون فائدة عملية حقيقية لانها اعتمدت على نقاش غير فاعل، ذات وتيرة متسرعة يختفي فيه حسن الاستماع الذي لابد ان يكون الركيزة الاساس في الارتقاء بمستوى المتحاورين وبالتالي بمستوى النقاش الهادف، بعض الباحثين في مجالي علم النفس والاجتماع يعزون الاسباب الى وجود توتر داخلي في النفس العراقية وحب استعراض للمعلومات ينتج عنها صعوبة تلقي تضع المتحاورين في حلبة صراع تتعالى فيها الاصوات،,لا المعاني الهادفة،, وتتقافز فيها الكلمات دون التمهيد الصائب لمحتواها وطريقة عرضها, مما يجعلنا في نهاية اغلب الملتقيات فارغي الوفاض ومستهلكين ومتعبين ايضا من غياب التواصل الحضاري في الايصال والتلقي،
وما دمنا نتحدث عن ضرورة ترسيخ ثقافة الذوق العام والبحث عن معالجات بعض السلبيات المجتمعية المتفشية، لابد من الاشارة الى ضرورة القيام بمراجعة ذواتنا وتدريب انفسنا على حسن التلقي بل وتهذيب سلوكنا لإنجاح عملية الحوار المنتج، ولتكن البداية في منح فرص حقيقية لأنفسنا تكمن في اعطاء دور اكبر لـ ( الاذن) والتقليل نسبيا من سطوة (اللسان) الذي يبدو انه المتعجل دوما لان يكون متسيدا وطامحا في كسب الوقت وفرض هيمنته وبالأخص في المجتمعات الشرقية التي يتراجع فيها دور وأهمية فن الانصات، وتشير الدراسات الحديثة ان الفرد (المنصت )والذي درب نفسه على التلقي الايجابي ، يتمتع بروح هادئة ومتوازنة تمكنه من تجاوز الاخطاء، حتى ان بعض المدارس الغربية بدأت تضع مدونات وكراريس وتدريبات ضمن فنون (الاتكيت ) تتعلق باليات الفهم السليم لأبجديات الانصات وتجاوز مشاكل قطع الاحاديث او التسرع في ابداء الآراء بأصوات عالية تقلل من جمالية الحوار, ونعتقد ان مجتمعنا العراقي هو الاحوج اليوم الى زيادة مساحة التدريبات في هذا الاطار وقد نحتاج الى مناهج تربوية تدرس لطلبة الجامعات والى الصحفيين والمحللين السياسيين والمسؤولين الحكوميين و السياسيين ايضا !