الملكية وثورة 14 تموز 1958م (1) / فارس كريم فارس

في 11 تموز/ يوليو 1921 اصدر مجلس الوزراء "العراقي" برئاسة عبد الرحمن النقيب، قرارا ينادي بفيصل ملكا على العراق (لم يكن هناك شخص عراقي يمكن ان يتفق العراقيون عليه نتيجة تبايناتهم لقيادة العراق، وهذا ما توصل له البريطانيون فرشحوا فيصل بالإضافة الى اسباب اخرى عديدة) بشرط ان تكون حكومته دستورية، نيابية، ديمقراطية، مقيدة بالقانون، وجاء نتيجة الاستفتاء بنسبة 97% مع تنصيب فيصل، ويلاحظ ان لواء كركوك صوت ضد فيصل، ولم يشترك لواء السليمانية بالتصويت، واشترط اللواءان اربيل والموصل ان تنص البيعة على ضمان حقوق الاقليات في تأسيس الادارات التي وعدوا بها من قبل الحلفاء في معاهدة سيفر، التي عقدها الحلفاء في باريس اب/اغسطس 1920 حيث اقرت ان من حق الاكراد الباقين تحت السيطرة التركية تشكيل حكومة تتمتع بالحكم الذاتي وقابلة للتحول الى حكومة تامة الاستقلال، وان من حق الاكراد في كردستان الجنوبية – العراق ان ينظموا اليها اذا رغبوا في ذلك. وهكذا غدا العراق دولة ملكية بقيادة فيصل بن الحسين تحت انتداب الاستعمار البريطاني وتابعة له، بمعنى اخر ( دولة ناقصة السيادة).
على الرغم من ان الملكية الهاشمية كانت من صنع الانكليز فقد كانت خلال العقدين الاولين من عمرها مفعمة ومتداخلة بين مصالحها ومصير حركة العروبة الجامعة فالتوجه العفوي الاساسي للفترة من 1921- 1939 كان باتجاه الذهاب الى المدى الممكن في ظروف تبعيتها للإنكليز – في عملية بناء الامة- الدولة في العراق. وفي اطار تحقيق ذلك ولمواجهة احتياجاتها الادارية كذلك، فقد اضافت الكثير من المرافق التعليمية حيث ازداد عدد تلاميذ المدارس الابتدائية الحكومية من 8001 الى 89482 وطلاب الثانوية من 110 الى 13959 للفترة اعلاه.
اضاف ذلك اعداد جديدة الى صفوف انتلجنسيا الطبقة المتوسطة الجديدة، الحاملة الطبيعية للمشاعر الوطنية (القومية)، وبثبات ملحوظ غذت الملكية خلال هذه السنوات مشاعر حب الوطن والتعاطف مع الافكار العروبية وكان التشديد الرئيسي للسياسة يتركز على اقامة روابط واهداف ومشاعر مشتركة بين عناصر العراق المختلفة رغم الصعوبة البالغة لذلك، كما سعى فيصل الاول الى استرضاء الشيعة بعد ان ابعدوا من قبل الانكليز من المواقع الهامة في السلطة نتيجة دورهم المتميز في ثورة العشرين من ناحية وفتاوي رجال الدين الشيعة، من عدم العمل في السلك الحكومي من ناحية اخرى، وحاول فيصل ايضا ان يحصل الاكراد على حصة ملائمة من التعينات.
كما شعر فيصل انه لن يكون هناك تقدم صلب باتجاه دولة اصيلة من دون تقوية الجيش فرفع عام 1933 قوة المؤسسة العسكرية الى 11500 رجل بعد ان كان 7500 عسكري، ومن خلال جهوده لإعادة تكوين العراق على اسس قومية تابع الملك فيصل الاول مسيرته بعناية، اذ انه كان يرسي اسس السلطة لعائلته، وان كان في ذلك يرسي اسس دولة متماسكة ايضا.
وفي العهد الملكي تضخم ايضا الجهاز الاداري وجهاز امن الدولة وبينما كان تعداد موظفي الحكومة في العام 1920، 3143 موظف فقط ارتفع العدد الى 20031 في العام 1958، كما ازداد عدد رجال الشرطة من 2470 في عام 1920 الى 23383 في 1958التي اصبحت اداة القمع الملكية الرئيسية.
ولحماية بغداد وجنوب العراق من الفيضانات المدمرة ولتوفير مياه الري بنيت السدود والخزانات المائية التي ساهمت بتدفق اموال كبيرة لا سابق لها لخزينة الدولة بالإضافة الى ان تقوية سيطرة الدولة على الانهار وتوسيع رقعة الاراضي الزراعية زاد من قدرة الحكومة على تنفيذ ارادتها، كما ازدادت واردات الدولة من النفط من 1،5مليون جنيه استرليني في العام 1941 الى79،8 مليونا في العام 1958 وبهذا اصبحت الدولة مستقلة اقتصاديا عن المجتمع الى حد كبير مما زاد قدرتها على ممارسة الحكم الاستبدادي المطلق والاعتماد من الناحية الاقتصادية على شركات النفط الاجنبية حيث شكلت ايرادات النفط اكثر من 60% من الوارد القومي عام 1958.
كما تقدمت الحياة الحضرية في فترة الملكية عموما حيث زاد سكان بغداد الكبرى من 200000 الف في العام 1922 الى 793183 في العام 1957 وكذلك زاد سكان البصرة والموصل وكل ذلك نتيجة الهجرة من الريف الى المدن، وازدادت اطوال الطرق المعبدة والمسفلتة من 500 ميل عام 1944 الى1600 ميل في العام 1955، ومما زاد في الروابط بين العراقيين في تلك الفترة ايضا تطور الاتصالات كالهاتف والاذاعة والتلفزيون في العاصمة.
لقد انقلبت اسلحة الجيش الذي كونته الملكية الى ضدها من خلال سلسلة من الانقلابات العسكرية التي ارتدت عليها نتيجة لمحاولة استخدام الجيش لأغراض فئوية وكان اول انقلاب عسكري في العراق هو انقلاب الفريق بكر صدقي (ضابط كردي) عام 1936 وتلا ذلك انقلابي 1937 و1938 و1941 وهذا الاخير سمي بحركة مايس وقادوه ضباط عروبيين وكان موجه ضد الانكليز والنظام الملكي فتم اقالة ولي العرش عبدالاله الذي فضل الانضمام الى الانكليز والهرب الى قاعدتهم في الحبانية ثم الى اقطاعية عمه في شرق الاردن، واستمرت المواجهة ثلاثين يوم واستخدم الانكليز كافة الاسلحة وخصوصا الطيران واستعان بالجيش العربي شرق الاردن ضد العراقيين، واعادة تنصيب عبد الاله وليا على العرش بقوة السلاح واحتلال بريطانيا للعراق للمرة الثانية، وهذا لم يمح من ذاكرة العراقيين ابدا وقوف البيت الهاشمي ساعة الشدة الى جانب اعدائهم، في الوقت الذي توحد فيه العراقيون واختلطت واندمجت مشاعر الشيعة والسنة والعرب والاكراد في بغداد والمدن الاخرى وسادت روحية ثورة العشرين خلال تلك الحركة، ومنذ تلك اللحظة فقدت الملكية ملامحها القومية.
كان الفشل في استعادة ولاء الضباط بعد 1941 وعزلة الملكية عن الشعب، يزيد من ربط مصائر الملكية بالإنكليز ومشايخ العشائر مما ولد مصلحة حيوية في المحافظة على النظام العشائري، ووجد التحالف مع الانكليز تعبيره الاخير في حلف بغداد عام 1955 وهو التزام جاء بالضد من المشاعر العامة في البلاد وفي بلدان عربية اخرى، سبقته اجراءات قاسية جدا ضد حركة المعارضة او حرية الكلمة مما اضاف الى درجة غير قليلة اصلا، من الطابع اللا شعبي واللا قومي للملكية، ومن الجانب الاخر فان الملكية بتحالفها مع المشايخ، توقفت في الواقع عن لعب الدور الساعي الى التوحد الاجتماعي وحكمت على اكثرية السكان العيش بأوضاع هابطة وشكلت مانع لتقدم الاقتصاد وغدت عامل تخلف اجتماعي. مما دعى كل ذلك الى حصول سلسلة من الانتفاضات الشعبية المدنية الضاربة، الوثبة عام 1948 وانتفاضتا العامين 52 و56 وما تبع ذلك من اتجاه اجزاء كبيرة من الطبقة الوسطى والعمال والفلاحين نحو اليسار وخاصة الحزب الشيوعي العراقي.
اصبح العراق دولة ملكية دستورية وفق دستور عام 1925 تضمن اعتماد مبدأين، الانتخاب والفصل بين السلطات. الا ان ما حدث هو منح الملك سلطة شخصية بموجب الدستور للانفراد باختيار واقالة الوزارة وحق التصديق من عدمه على قراراتها، وحصر الملك هذا الاختيار بفئة محدودة من النخبة السياسية التي تشكل حاشيته وممن كان معه من الضباط الشريفيين في الشام قبل عزله عن الحكم هناك، وعموما تحولت السلطة التنفيذية الى اداة تنفيذية لإرادة الملك وهيمن الملك على السلطات الثلاث بسبب الانحرافات الدستورية التي مكنته من ذلك، ولم تكن الانتخابات سواء المباشرة او غير المباشرة الا عملية شكلية، فان مجلس النواب لم ينجُ من قبضة الملك ووزرائه التي لجات الى اختيار اعضائه من خلال مساهمتها في مرحلة الترشيح للانتخابات "قائمة مرشحي الحكومة" ومارست مختلف اشكال التدخل لصالح مرشحيها، كما كان يحق للحكومة حل مجلس النواب، فقد تعرض خمسة عشر مجلس نيابي للحل من مجموع ستة عشر منذ انتخاب اول مجلس نيابي عام 1925 الى نهاية حكم الملكية، كما تألفت 59 وزارة بواقع 233 يوم متوسط عمر الوزارة الواحدة وخضعت البلاد في اغلب الفترة المذكورة الى الاحكام العرفية.
ورغم نص الدستور على استقلال القضاء وحياده الا انه لم يتمكن من ذلك امام السلطة التنفيذية الطاغية، فقد عانى القضاة من التهديد الوظيفي نتيجة اندماج الدور الوظيفي للسلطة القضائية مع السلطة التنفيذية.
يتبع >>>>>>>>