الموصل مدينة الرجال / زهير كاظم عبود

هذه المدينة لا يعرف أهلها جيدا الا من يعاشرهم ويسكنها فتستقر في روحه ، وهذه المدينة تضم من الرجال ما يكفي للعراق ان يفتخر بهم ، وهذه المدينة العريقة والغارقة في القدم تفتح قلبها لمن يحبها ، وتتمسك بمن يحترمها ويحب أهلها ، متميزة في لهجة أهلها المحببة ، متميزة بهويتها الدينية المتنوعة ، وبرفدها العراق عقول سياسية متنوعة ، فتقرا تاريخ العراق في بيوتها وشوارعها ، ولم تزل عشتار وآشور وسنحاريب تهيم أرواحهم فوق بيوتها ، ولم تزل الموصل بربيعها المتكرر تفتح ذراعيها لكل العراقيين ، لا تسأل عن قومياتهم او دياناتهم او طوائفهم ولاعن انتماء سياسي ، وعرفت الموصل بعمرانها وبيوتها الجميلة وشوارعها الأنيقة وكنائسها وجوامعها القديمة ، وساحاتها وأسواقها ، ودخول دجلة يتلوى وسطها فيزيدها جمالا وزهوا ، عرفت الموصل المتحضرة قبل غيرها .
لم تكن المرة الأولى التي يغزوها الجراد ، فقد هوجمت المدينة في العام 627 قبل الميلاد ، وأمعنت القوات المهاجمة في قتل أهلها والتنكيل بهم وحرق بيوتهم ، فهجرها أهلها لولا تمسك الآشوريين بالأرض وزراعتها لتعود الناس تدريجيا اليها ،
ثم اختلها الاسكندر المقدوني عام 331 قبل الميلاد ، وخلفه السلوقيون ، وكان شابور الساساني قد استهدف المسيحيين في المدينة فقتل أعداد كبيرة منهم وعلى رأسهم أسقفها سمعان صباعي ، الا ان المسيحيين تحملوا كل هذا العذاب والمذابح متمسكين بعقيدتهم الراسخة في ضمائرهم فانتشرت الاديرة وكثر الرهبان وزاد تمسك الناس بديانتهم المسالمة ، وبقيت اللغة الآرامية هي اللغة التي يتعامل بها أهل الموصل ، ثم واجه أهل الموصل الفتح الإسلامي الذي عاملهم بقسوة وقتل منهم أعداد كبيرة حتى استجابوا للإسلام .
حاصرها المغول ودمرها السلاجقة حتى حكمها العثمانيون بأسم الدين ، وبعد الحرب العالمية الاولى صارت الموصل ضمن حدود الدولة العراقية بعد ان كادت الاتفاقيات السرية بين الدول الكبرى ان تضمها الى سوريا ، ولعبت الخلافات السياسية بين الأحزاب العراقية في الموصل دورا أساسيا في هجرة العديد من اهلها الى مدن أخرى أو الى خارج العراق ، غير انها بقيت تتباهى بهويتها ، وحين احتلتها القوات الامريكية واجهت مواجهة رافضة وعنيفة من شبابها ، وقدمت التضحيات الجسام في سبيل ذلك .
بعد التغيير في العام 2003 واجهت الموصل صفحة جديدة تعيد الى الأذهان فترة الاغتيالات السياسية بعد العام 1959 ، فزاد الأمر تعقيدا ان الموصل لمست ذلك النفس الطائفي الذي يجاهر به بعض الساسة والحكام ، ممن غاب عنهم التنوع العراقي والتآخي والشراكة ، وتعمقت الشروخ بفعل الطائفية والفساد الذي بدا ينخر جسد الدولة العراقية وغياب القوانين وانتهاك الدستور ، وانشغال القوات العسكرية بملاحقة الناس ومضايقتهم مما زاد من نفورهم وسخطهم ، واستغلت التنظيمات الإرهابية كل تلك العوامل لتدخل المدينة بشكل غير معلن وغير رسمي لتتحكم في أرزاق وحياة الناس ، والسلطة تغمض عيونها وتشيح بوجهها عن تلك الحقيقة ، الإرهابيون حكموا واستحكموا بالموصل منذ العام 2005 ، ولم يكن عام 2014 الا اعلان رسمي قامت به المجموعات الإرهابية بتعاضد وتعاون من الولايات المتحدة الأمريكية وقطر وتركيا والسعودية لإنشاء بؤرة يتجمع فيها الإرهابيون والمتطرفون من كل أنحاء الدنيا ، ولهم ان يتحكموا برقاب الناس وحياتهم ودياناتهم ، وان يكتنزوا الأموال ويتم تهريبها ، وأن ينشأوا كيان وهمي باٍسم دولة إسلامية في العراق والشام !! ( داعش ) ، وان تتوفر لهم معسكرات التدريب والإمكانيات اللوجستية والمعدات والإمكانيات والانتقال عبر الدول تحت أنظار التحالف الدولي ، وتدمير الحضارة الموصلية والتراث الموصلي ، والموصل مطبق على رقبتها كل تلك السكاكين والمخارز تذبحها يوميا ، فتقدم من شبابها أعداد كبيرة قاومت هذه المجموعات الهمجية والبهائم الغريبة عن عقول أهل الموصل .
مما زاد من محنة أهل الموصل ان أهلها صاروا رهائن وأسرى لدى التنظيم الإرهابي ، وكبرت المحنة فتوافد أهل القرى البعيدة للتحكم في حياة أهلها ، واتسعت هذه المعاناة بترك الناس بيوتها واستقرارها وتأجيل مستقبلها ، فرحلت وهاجرت الآلاف من العوائل في مدن بعيدة وفي مخيمات لاتفي بأدنى حاجات الإنسان ، وبقيت إعداد من الفقراء والمقطوعين تحت رحمة داعش ، بعد ان تهدمت مدينتهم الجميلة ، وخربت معالمها وشوارعها ، ودمرت أسواقها ، وزاد الأمر سوءا وجود بعض الحثالات من أهلها بين صفوف التنظيم الإرهابي ، ما جعلهم مطلوبين للناس ، وفي مشاعر الانفعال جعل أهلهم يتم التعامل معهم بشكل غير منطقي .
الموصل اليوم لا تعاني من التخريب الهائل الذي دمر مدينتهم ، وليس فقط في انعدام الخدمات الأساسية والحيوية في المدينة ، ولافي هدم بيوت المدينة القديمة التي يقطنها الفقراء ، ولا تتحسر على من خالف وجدانه وباع ضميره ليشارك الأغراب في قتل أخوته وأهله ويهدم ما بنته الحضارة الموصلية من رموز ، الموصل تعاني اليوم من الاتهامات والتخوين الذي يطلقه بعض الإخوة ظلما وجزافا ، علينا ان نحتكم لضمائرنا فلم تزل الموصل مدينة المدن ، وقد تحملت مالا يتحمله الجبل من مآسي ومحن وأحزان ، اعينوها على دفن أولادها ونبش جثثهم من تحت الأنقاض ، أعينوها على الصبر والتحمل ، وان يكون العقل حاضرا في التعامل بين الناس ، أعينوها ليعود أهلها من مخيماتهم ومهاجرهم لترميم حالهم ، لا تستحق الموصل غير المحبة وشد الأزر ، وان نحث أهلها ان يستعيدوا أيامهم وشهامتهم ونخوتهم ، الموصل تلك العوائل التي حفظت بناتنا الايزيديات وإعادتهن الى أهلهن ، والموصل تلك العوائل الكريمة التي لم تزل تحتفظ بمحبة العراقيين وتقديرهم ، والموصل كل تلك الأعداد التي أبت ضمائرها ان تقف مع داعش ولا انخدعت له ، الموصل تلك الضمائر التي لم تركع لداعش ولا هادنت الأجنبي ، وتحملت ضيما فوق ضيمها ، وخراب فوق خراب بعض نفوسها ، وحتى لا نخالف وجداننا فان أهل الموصل نبض قلب العراق ، دعوهم يعيدون ما هدمه الأغراب والأشرار والبهائم ، دعوهم يرممون النفوس التي تبعثرت ، فلا تزيدوا جراحا فوق جراحها .