العراق ما قبل الدولة الحديثة (2) / فارس كريم فارس

بعد ان اصبح العراق مقرا للخلافة ألعباسية, احتفظ بخصائص مميزة لخصوبة ارضه وغناها, وهو مركز حضارات قديمة, وله باهل الجزيرة العربية صلات بشرية وحضارية مستمرة, واستوطن فيه على اثر الفتوح الكثير من المقاتلة العرب, كما ان الازدهار الحضاري الذي شهده العراق خلال العصور العباسية الاولى ادّى الى خلق مناخات ملائمة لنشأة أنواع عديدة من العلوم الانسانية, ونشأت المدارس المتخصصة بمفهومها المنهجي وانتشرت شرقا وغربا. وظهرت المدرسة العراقية ذات السمة الخاصة المعروفة في الفقه, وكذلك النحو العراقي بمدرستيه البصرية والكوفية.........وكان للعراق دوره البارز في ازدهار الحضارة العربية الاسلامية التي انتقلت الى بلدان العالم داخل حدود الدولة الاسلامية وخارجها.
ولما اراد المنصور بناء بغداد (762-766م), "أمر منجم البلاط بأخذ الطالع ففعل واخبره بما تدل عليه النجوم من طول بقائها وكثرة عمارتها" ! وبانتقال الملك الى بغداد, بلغت مدينة السلام ابهى عهودها واصبحت مركز الحضارة, بل حاضرة الدنيا و"باصرة الاسلام" في عهد الرشيد (786-809). ولم يكن مجدها الا متناسباً مع درجة تقدم الامبراطورية التي كانت بغداد عاصمتها. حتى قيل لم يكن لبغداد في الدنيا نظير في جلالة قدرها وفخامة امرها وكثرة علمائها واعلامها وتميز خواصها وعوامها وعظم اقطارها وكثرة دورها ومنازعها ودروبها وشعوبها ومحلاتها واسواقها وسككها وازقتها ومساجدها وحماماتها وطرزها وخاناتها وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وافيائها واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها. واذا اخذنا في الاعتبار خلفية العراق بتراثه الواسع, والانفتاح الفكري للناطقين بلغة الضاد على ما كان لدى للشعوب الاخرى في سياق الاختلاط وانتشار اللغة العربية, لغة ثقافة مشتركة للتفاهم والفكر, والتي اجتمعت جميعها في بغداد خلال هذا العصر, عندئذ يمكن الاستنتاج ان هذه المدينة انتجت حضارة عالمية رائدة في عصرها.
ولكن رغم ما كانت تمتاز به هذه الحضارة من مفاخر, كانت هناك نقاط ضعف اساسية رافقتها واضعفتها وساهمت في سقوطها. فالخرَاج (المال العام) القادم من البلدان التابعة لدولة الخلافة لتستقر في احضان الخليفة, شكل نهراً لا ينقطع من الذهب, وشجع على البذخ والاسراف في غياب المساءلة. وكان الكثير من هذا المورد يذهب الى الخدم والحشم والى الموظفين الذين يتقاضون مرتبات عالية. ثمَّ اخذت قيم الترفيه وفق الاسلوب الشرقي, تستنزف الحياة الاقتصادية والمعنوية للطبقات الحاكمة. وانتشرت الخمور والمسكرات, وازداد الاسراف في الانفاق, فاتسعت حياة التبذير, وأُنُهكت قوى الرجال في احضان الجواري, فساعد كُلّ هذا على الاسراع في تدهور السلطة السياسية. يضاف الى ذلك ان السلطة المطلقة والحياة المرفهة التي كان يتمتع بها الخليفة, جعلت منصبه باعثاً للمطامع والمكائد والانقسامات السياسية الحادة.
كان القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) يشكل مفترق طرق الحضارة العربية الاسلامية بأحداثها الجديدة والمتميزة, فمن ناحية بلغت الفتوحات نهايتها, وبدأت مرحلة تفكك دولة الخلافة الى دويلات منفصلة فعلياً عن بغداد, ومن ناحية ثانية وصلت الحركة الفكرية الحضارية اوجها, ومن ناحية ثالثة عاصرت هذه الفترة السيطرة البويهية على الخلافة وشكلت بداية سيطرتهم فاصلا بين مرحلتين. ومنذ هذه اللحظة, وبالرغم من محاولات بعض الخلفاء اصلاح الامر, استمرت هذه الحضارة باتجاهها نحو الانحدار وحتى السقوط. ما جعل دولة الخلافة تابعة لأمارة اجنبية هي الامارة البويهية, ودرج بنو بويه طول فترة حكمهم على مبايعة الخلفاء واسقاطهم متى ما شاءوا وكيفما شاءوا, وانتقلت سلطات وزير الخليفة الى الامير البويهي ووزرائه وكتابه, وشارك الامراء في امتيازات الخلافة وشاراتها وفي ضرب العملة.
شجع البويهيون وهم من الشيعة الفرس الانقسامات المذهبية, وحدثت فتن طائفية عديدة في بغداد خلال السنوات 338-340هـ, 346هـ/957م, 348هـ/959م, واختل الامن وازداد القلق, وتفككت وحدة المدينة, وتقلصت الاحوال العمرانية فهجر الكثير من الناس بغداد وخربت العديد من مناطقها العامرة. وكانت الاحوال الاقتصادية في بغداد عند مجيء البويهيين سيئة, ثم ازدادت سوءا بعد مجيئهم. وهكذا خلت المنازل ببغداد من اهلها.
مرَّ المجتمع العراقي منذ سقوط الخلافة العباسية بسقوط بغداد على اثر الغزو المغولي ودخول هولاكو بغداد وحرقها, سنة 1258م, بفترة انحطاط دامت حوالي ستة قرون استمرت لغاية منتصف القرن التاسع عشر, عندما شهدت البلاد بصيصا من الفكر الحضاري الجديد, وشيئا من وسائل الحضارة الحديثة القادمة من الغرب ببطء شديد. اقترنت هذه الفترة باندثار الحضارة السابقة والانحطاط الاجتماعي وسيطرة قيم بعيدة عن التحضر وركود المجتمع العراقي وتراجعه الحضاري, ومن دون ان يشهد أية خطوات اصلاحية تستحق الذكر, كما واجهت البلاد منذ سقوط بغداد ومن ثم وقوعها تحت السيطرة العثمانية (1534م) مختلف اشكال الغزوات الخارجية علاوة على الحروب الطائفية الفارسية – التركية الطويلة المتقطعة من اجل السيطرة على العراق, مع ما صاحبها من تعميق الانقسام والتناحر الطائفي بين اغلبيته المسلمة. ان الفتح العثماني لبغداد سنة 1534م بقيادة سليمان القانوني, جاء عقب فترة من الفتوح المغولية والتترية والفارسية, وهي فترة لم تتوفر فيها حكومات حضرية. ويعتبر المؤرخون تلك الفترة اشد فترات التاريخ العراقي ظلاماً وأوطأها حضارة.
ان الحكومات التي تتابعت على العراق منذ سقوط الدولة العباسية, او ربما قبل ذلك, كان همها الاكبر ينحصر في الفتح والجباية بدلا من العمران او سيادة الامن والنظام في المجتمع, فاضطر اهل المدن من جراء ذلك الى الالتجاء الى العصبية القبلية والقيم البدوية من اجل المحافظة على ارواحهم واموالهم, كما اضطرت العشائر الصغيرة الى التكتل او الانضمام الى اتحادات قبلية كبيرة لكي تكون اقدر على تنازع البقاء, وقد اشتد هذا الوضع ضراوة في العهد العثماني, فكثيرا ما كان الولاة فيه يضربون العشائر بعضها ببعض لكي يشغلوها او يضعفوها على طريقة فرق تسد.
فبالإضافة الى تغلغل القبائل البدوية في العراق حيث اخذت تسيطر بقيمها الاجتماعية عليه في ظل التفسخ الحكومي والانحطاط الحضاري الذي كانت تعاني منه الامبراطورية العثمانية, فقد كانت الدولة العثمانية مشغولة ايضا بنزاعها المتصل مع ايران ذلك النزاع الذي استمر ثلاثة قرون تقريبا ولم يهدا نسبيا الا منذ القرن التاسع عشر.
تمكن في عام 1663م الشاه عباس الصفوي من فتح بغداد – بعد حصار دام ثلاثة اشهر اكل الناس فيه القطط وبلغت قيمة الحمار الكثير من الاموال. والظاهر ان الشاه عباس فعل ببغداد عند فتحها مثلما فعله الشاه اسماعيل قبله, وربما زاد عليه, فقد هدم مرقدي ابي حنيفة والشيخ عبد القادر ثم وزع دفاتر لتسجيل اسماء اهل السنة من سكان بغداد بقصد القضاء عليهم جميعاً, ولو لم يتدخل السيد دراج كليدار الحسين لنفذ الشاه ما اراد. لقد كان هذا السيد ذا جاه لدى الشاه واستطاع ان يشفع للكثيرين من اهل السنة وسجل اسماءهم في دفتره باعتبارهم من الشيعة فانقذهم من القتل.
لم يكد السلطان مراد يتسلم زمام الحكم حتى بدا يعد العدة لاسترجاع بغداد من ايدي الصفويين, ثم وجه اليها قوات كبيرة مرتين اولاهما في عام 1624م والاخرى في عام 1630م , وقد حوصرت بغداد في كلتا المرتين وضيق عليها الخناق ولكن الجيش العثماني اضطر في كل مرة ان يرفع الحصار وان يعود من حيث اتى.......في عام 1637م فرغ صبر السلطان مراد فاخرج الطوخ الهمايوني, وهو العلم الخاص الذي لا يخرج الا في الضرورة القصوى, واصدر الفرمان بالتأهب لفتح بغداد على ان يكون هو على راس جيوشه.......فرض الحصار على بغداد واستمر اربعين يوما ابدى فيه الفريقان من الاستماتة في القتال امرا عجيبا. وفي 22 كانون الاول 1638م احدثت المدافع العثمانية ثغرة في سور بغداد.....وبعد يومين من القتال الضاري استطاع الجنود العثمانيون وهم يهتفون الله ...الله ان يدخلوا السور وانكشفت المدينة امامهم .
لقد اعلن قائد الحامية الايراني استسلامه هو وحاميته.......الا انه حدثت فجأة مذبحة لا تقل في بشاعتها عن افظع مذابح التاريخ.....اختلف المؤرخون في تعيين سببها...فالأتراك منهم يعزونه الى اخلال الحامية الايرانية بشروط الاستسلام, والايرانيون يعزونه الى روح الانتقام العنيف الذي سيطر على الجنود العثمانيون عند دخولهم بغداد. ومهما كان السبب فقد انثال العثمانيون على افراد الحامية الايرانية فامعنوا فيها ذبحاً وتقتيلاً بحيث لم يسلم منها سوى ثلاثمائة جندي مع العلم انها كانت تبلغ عند الاستسلام زهاء عشرين الفاً.
بعد ايام قليلة وقعت مذبحة اخرى, كان سببها انفجار مخزن للبارود في بغداد حيث قتل فيه ثمانمائة من الانكشاريين, وعند ذاك امر السلطان بالذبح العام انتقاماً وشمل الذبح السكان -الشيعة منهم- ونقل عن المؤرخين الاتراك ان عدد القتلى في هذه المرة بلغ ثلاثين الفاً.
عاد الفرس في عهد نادر شاه عام 1733م وفرض حصار على بغداد من جميع الجهات بحيث استفحلت المجاعة وصار الناس يأكلون القطط والكلاب ويمتصون دماءها ويمضغون جلودها ...الى حين مجيء النجدة من الباب العالي وفك الحصار بعد ان دام سبعة اشهر....واعاد نادر شاه الكرة في نهاية نفس السنة وحاصر بغداد الا ان الحصار لم يدم طويلا في هذه المرة, اذ سرعان ما وصلت انباء من ايران تشير الى نشوب ثورة....فبادر نادر شاه يطلب الصلح فوافق عليه احمد باشا وبعد ان زار نادر شاه العتبات المقدسة عاد الى ايران . يتبع