من تجارب الشعوب .. مواقف تمتد من موسكو السوفييت إلى سوريا الستينات والى واقعنا اليوم / ناصر حسين

6في يوم 6 على 7 تشرين الثاني عام 1917 قاد البلاشفة الروس انتفاضة باسلة في العاصمة الروسية سانت بطرسبورج، التي أصبح اسمها بعد سقوط القيصرية في ثورة شباط 1917 بتروغراد وغُيِّر بعد ثورة اكتوبر إلى لينينغراد. اذ أسقطوا الحكومة المؤقتة في روسيا السوفياتية التي كان يرأسها - كرنسكي - بالتعاون مع المناشفة والاشتراكيين الثوريين، وشكلوا حكومة برئاسة فلاديمير أيلتش اوليانوف- لينين.
وكان من ابرز انجازات وقرارات حكومة ثورة أكتوبر، الأعلان الصريح عن الاعتراف بحق تقرير المصير لكافة مستعمرات روسيا القيصرية، بما في ذلك حقها في الانفصال واعلان دولها المستقلة.
وقد تمتعت كافة مستعمرات روسيا القيصرية بذلك الحق فعلاً وانفصلت جميعها سواء كانت المستعمرات الأسيوية كأوزبكستان وأرمينيا وطاجاكستان او المستعمرات الأوربية كفنلندا وبولندا وغيرها.
بعد سنوات معدودات على ذلك الانفصال أحست شعوب تلك الدول وحكوماتها بمدى الخسارة التي لحقت بها بسبب ذلك الانفصال، فأرسلوا الوفود إلى العاصمة السوفياتية التي أصبحت موسكو لمفاوضة لينين حول اعادة الوحدة. فلم يرفض لكنه اصر على وحدة الند للند وليس التابع والمتبوع. فشكلوا الاتحاد السوفياتي في كانون الثاني عام 1922 باستثناء بولندا وفنلندا اللتين فضلتا البقاء مستقلتين.
ومن بين تلك الدول التي تمتعت بحقها في تقرير المصير وإقامة دولتها المستقلة وفضلت الدخول في أسرة الاتحاد السوفيتي كدولة اتحادية حالها حال الآخرين كانت دولة مولدافيا.
في تموز عام 1918 وقع تمرد عسكري في العاصمة السوفياتية موسكو قاده تحالف المناشفة والاشتراكيين الثوريين واشتركت فيه كافة القوات الروسية، نعم القوات الروسية نسبة إلى الشعب الروسي.
لينين المتواجد في الكرملين أرسل رسالة مستعجلة إلى الرفيق سفرد لوف – رئيس مجلس سوفيات العاصمة -، وكان لديه اجتماع للمجلس في قاعة مسرح البولشوي في موسكو ليبلغه عن التمرد وكان عليه ان يتصرف بحكمه فنواب المناشفة والاشتراكيين الثوريين متواجدون في الجلسة وهم يعلمون مسبقاً بالتمرد وما سيقع في موسكو.
فالتمرد كان يستهدف انتزاع السلطة من يد البلاشفة. سفردلوف أوقف الجلسة ودعى نواب البلاشفة إلى لقاء تشاوري خارج القاعة.
وعندما اصبحوا خارج القاعة جميعاً أمر بإغلاق كافة أبوابها لاحتجاز نواب المناشفة والاشتراكيين الثوريين وغادر هو أيضاً ليبلغ نواب البلاشفة في موضوع التمرد وإنهم مدعوون للنهوض بواجباتهم اتجاه حماية سلطة البلاشفة وتوجه إلى الكرملين لمقابلة لينين.
لينين كان قبل وصول سفردلوف طلب حضور احد جنرالات الجيش وهو من الشعب المولدافي ويقود قوة مولدافية متواجدة خارج مدينة موسكو ولدى حضوره أبلغة بأمر التمرد الذي قامت به القوات الروسية وطلب منه تحريك القوى المولدافية لاقتحام موسكو وإحباط التمرد.أدى الضابط المولدافي التحية العسكرية وغادر.
إنا عام 1975 شاهدت في قاعة السينما في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو فلماً وثائقياً عن ذلك التمرد. وأتذكر ان لينين عندما غادر الضابط المولدافي القاعة ألتفت إلى سفردلوف يقول "إذا لم يقم المولداف باحباط التمرد، علينا ان نعيد النظر بكافة حساباتنا ".
لينين وسفردلوف وهما يواجهان قصف المدافع التابعة للقوات الروسية لجدران الكرملن، دخل عليهما الجنرال المولدافي وأدى التحية العسكرية ومن ثم ابلغهما بان القوات المولدافية دخلت موسكو وهي تسيطر عليها في تلك اللحظة وان التمرد قد قضي عليه.
فطلب منه ان يعمل على اسكات تلك المدافع التي تقصف الكرملين وكان ذلك مؤشراً على عمق الرابطة بين المولداف وباقي الشعوب السوفياتية التي حققها تمتع تلك الشعوب بحقها في تقرير مصيرها فهل كانت تلك القوات ستتدخل لو كان التمرد قد جرى ضد السلطة القيصرية التي استعمرت تلك الشعوب وحرمتها من حقها في اقامة دولها المستقلة وتمتعها بحق تقرير مصيرها ؟
بالطبع كلا. وأذكر هنا بموقف الشعب السوري عام 1961 لدى وقوع الأنفصال السوري عن تلك الوحدة التي فرضت عليه فرضاً عام 1958 من قبل أكرم الحوراني وعفلق وصلاح الدين البيطار وصبري العسلي وشكري القوتلي.
لقد فرحوا بسقوط سلطة العقيد عبد الحميد السراج والمشير عبد الحكيم عامر البوليسية. ولا أنسى أبداً الموقف العقلاني الذي وقفه الرئيس عبد الناصر الذي كان قد امر صباح ذلك اليوم قوات الأسطول المصري المتواجدة في البحر المتوسط للتوجه إلى ميناء اللاذقية والنزول إلى البر السوري والقضاء على الانفصال. إذ انه أمر تلك القوات بعد ساعات قليلة بمغادرة الشواطئ السورية والعودة إلى الموانئ المصرية. واحترام حق سوريا بتقرير مصيرها بنفسها وحقن دماء السوريين والمصريين التي كانت ستسيل لو ركب رأسه العناد وحاول القضاء على الانفصال مثلما فكر صباح ذلك اليوم وأعود إلى بلدي العراق حيث العديد من التساؤلات والأفكار تدور في ذهني الأن فشعبنا يقاتل الداعشيين في الوقت الحاضر بكل مكوناته العرقية والدينية عرباً وكرداً وتركماناً كلداناً وأشوريين وشبك، مسلمين، مسيحيين، مندائيين، وأيزديين.
وستنتهي داعش عسكرياً، فهي الآن مدحورة مهزومة، تعاني من الانكسار تحت الضربات الموجعة التي توجهها لها قواتنا المسلحة بكافة صنوفها والمدعومة من قبل قوات التحالف الدولي.
وسنكافح من أجل التغلب على مخلفاتها الأخرى وهي ليست سهله، سواء كان الاقتصادية منها او الاجتماعية او السياسية او الثقافية، وستصبح داعش ذات يوم هي ومخلفاتها في خبر كان، مجرد ذكرى ، كذكرى المغول والبويهيين والسلاجقة وغيرهم.
ما أفكر فيه الآن ليس هذا، والسؤال الذي يشغل بالي هو على ما بعد داعش فلو فرضنا أن داعشياً جديداً ظهر على الساحة العراقية ولكن في المنطقة الجنوبية من العراق وانقسمنا نحن اهل القسم الجنوبي إلى قسمين قسم موال و قسم مناهض وتحول الانقسام إلى مجابهة قتالية فهل سيتدخل أبناء الكرد والأيزيديين والمسيحيين وأبناء الانبار وصلاح الدين لنصرتنا نحن المناهضين للداعشي الجديد كما تدخل الفيلق المولدافي لاخماد تمرد القوات الروسية في موسكو عام 1918 ؟ أم سيقولوا ما لنا وما لهم، " نارهم تاكل حطبهم" وهذا الاحتمال وارد. فالدياكليتك يفرض علي ان لا اكون وحيد الجانب في نظرتي للامور بل ان ادرس كافة الاحتمالات الايجابية والسلبية.
فهل نحن في تصاف ومودة مع هذه الأطراف ؟ وهل عملنا بجد وهمة عالية لتحقيق المصالحة الوطنية التي ينادي بها الجميع في تصريحاتهم ؟ وهل استفدنا من تجربة جنوب افريقيا بعد اطلاق سراح نلسون مانديلا وانهيار سياسة الابارتهيد التي كان الحكام البيض يتبعونها ؟ ان ما استمع أليه من تصريحات متناقضة يجعلني إميل إلى ذلك التصريح لأحد المناضلين الفلسطينيين عندما قال يوم سئل عما اذا كان متفائل بانه " متشائل " لا هو بالمتفائل ولا هو بالمتشائم.
هنالك ما يدفعني إلى التفاؤل وهنالك ما يحملني على التشاؤم.
ومن أجل السير في الطريق الصحيح فإن الدولة مدعوة إلى أن تسد كل الثغرات التي يستغلها الداعشي الجديد لينفذ منها وقبل كل شيء العمل الجاد والمسؤول لتجاوز سياسة المحاصصة الطائفية والعرقية خلاقة المشاكل وتشييد صرح الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المؤسسات لا دولة الأفراد، الدولة التي تتعامل مع المواطن من خلال مواطنته لا من خلال قوميته او دينه او طائفته او عشيرته، الدولة التي يتمتع فيها المواطن بحقه المكفول دستورياً بالتعبير عن وجهة نظره في مختلف اشكال التعبير، دولة توحيد الصفوف لا تمزيق صفوف الشعب وبث الكراهية بين ابناء الشعب الواحد، دولة تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وتوفير الأمن والعيش الكريم، لكل مكونات الشعب العراقي، العرقية والدينية، دونما أدنى تمييز.