أمريكا: من الانحياز الأعمى الى العداء السافر / نضال سعيد مضية

أسفرت الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة عن أن يتربع على عرش البيت الأبيض رئيس يصفه الأمريكيون قبل
غيرهم بأنه أرعن ومتهور وغبي وطائش، يتخذ قرارات هوجاء اليوم ويضطر للتراجع عنها في الغد.
انكشاف الموقف الرسمي العربي وانغماسه أكثر فأكثر في التبعية للإدارات الأمريكية المتلاحقة شجع المحافظين الجدد من اتباع وأنصار المسيحية المتصهينة على المضي قدماً في تبني الطروحات والتصورات التلموذية للأوساط اليمينية الدينية الصهيونية التي استشرى نفوذها داخل المجتمع الاسرائيلي، وفي الائتلاف الحكومي على حد سواء.
لم يلحظ النظام الرسمي العربي، او بتعبير أدق، لم يشأ ملاحظة هذا التحول في السياسة الأمريكية وواصل نهج التعويل على الادارة الأمريكية لأن تكون وسيطاً توهم الفريق المفاوض وخلفه الحكومات العربية أنه سيكون نزيهاً في التوصل الى تسوية عادلة للصراع العربي – الاسرائيلي.
تجاوز الخطوط الحمر
وقد أغرت المواقف الأخيرة لعدد من الأنظمة العربية، وخاصة السعودية، بما لها من ثقل سياسي ومالي واقتصادي في منظومة الدول العربية والاسلامية وتوجهها المعلن للتطبيع مع الكيان الصهيوني واستعدادها للتحالف معه في مواجهة تنامي النفوذ الايراني في المنطقة العربية، وتحوله في عرف النظام السعودي الى خطر داهم يفوق الخطر الاسرائيلي، الدوائر الأكثر محافظة ويمينية وتطرفاً في الإدارة الأمريكية الجديدة على تجاوز الخطوط الحمر في علاقات التحالف مع الأوساط اليمينية الحاكمة والمتنفذة في اسرائيل، وابداء الاستعداد أكثر من أي وقت مضى لتنفيذ قرار اتخذه الكونغرس منذ عام 1995 للاعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية على حد زعمه – للكيان الصهيوني العنصري.
لا حاجة للولايات المتحدة الى من يذكرها بأن قرارها بنقل سفارتها الى القدس يشكل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي ولقرارات الأمم المتحدة ولفتوى محكمة لاهاي الدولية – وهي أرفع هيئة قضائية دولية – بخصوص جدار الفصل العنصري. التي اعتبرت القدس – في شطرها الشرقي – مدينة محتلة كغيرها من الأراضي الفلسطينية الخاضعة للاحتلال الاسرائيلي منذ عام 1967 ويحظر على جميع دول العالم اتخاذ او مساندة أي اجراء من شأنه تكريس هذا الاحتلال.
ولذا فإن الادارة الأمريكية مهدت لخطوتها بكيل الاتهامات للمنظمة الدولية بأنها تجنح بشكل متزايد للعداء لاسرائيل، ولاتخاذ مواقف غير منصفة – هكذا بكل صفاقة – من هذا الكيان الذي لم يتوان بدوره عن ازدراء المنظمة الدولية، والاستهانة بقراراتها دون أن يتورع أو يخجل من اطلاق أحط العبارات وأقذر الأوصاف عليها.
ومع ذلك، فان هذا كله ليس جديداً أو وليد اللحظة الراهنة، وبالتالي فهو لا يفسر بدرجة كافية لجوء ترامب لاتخاذ قراره الطائش في هذا الوقت بالذات، الذي تتعرض فيه السياسة الأمريكية في المنطقة العربية الى انتكاسات وانكسارات واضحة وتميل فيه موازين القوى بوضوح لصالح معسكر يناهض هذه السياسات ويتصدى لها ويسهم بصورة فاعلة وفي احباط مراميها وأهدافها الخبيثة.
توقيت القرار
ودون الوقوع في خطأ التبرير أو اختلاق الذرائع للرئيس الأمريكي وإدارته المغالية في دعمها للكيان الصهيوني في الاقدام على ما لم يتجرأ على الاقدام عليه أي رئيس امريكي سابق رغم ان قرار نقل السفارة الأمريكية الى القدس ـ كان موضوعاً على مكتبه طيلة فترة إقامته في البيت الأبيض ـ، تجدر ملاحظة أن هناك امراً ما قد استجد دفع ترامب، هذه الشخصية التي تعوزها الحصافة وحسن تقدير العواقب والاتزان، لان يذعن لجماعات الضغط الممالئة لاسرائيل، التي تضم فيما تضم، اليمين المسيحي المتصهين، صاحب النفوذ الأقوى على الإدارة ورئيسها.
وهذا الأمر المستجد يكمن، على ما يبدو، في إقرار مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق في البيت الأبيض الجنرال مايكل فلين بتقديم تصريحات كاذبة في التحقيقات بشأن اتصالاته بالمسؤولين الروس، معرباً عن استعداه للتعاون مع مكتب المحقق الخاص روبرت مولر، وللشهادة بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وجهه للاتصال بالروس في حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
إن التحقيق مع فلين يعني أن دائرة التحقيقات تقترب أكثر فأكثر من الرئيس دونالد ترامب وهو ما يشكل بالنسبة اليه مصدر قلق جدي من امكانية توجيه اتهام صريح له بالاتصال مع روسيا أثناء حملته الانتخابية والشروع في المسار الطويل الذي قد يؤدي في النهاية الى اقالته من منصبه.
ولتجنب هذا المصير فانه منذ الآن يسعى لتأمين طوق نجاة وضمان وقوف المحافظين الجدد واللوبي الاسرائيلي الى جانبه. وليس هناك من خدمة سياسية يمكن أن يسديها لهم مقابل دفاعهم عنه أفضل من التجاوب مع مسعاهم القديم في انتزاع موافقة الإدارة الأمريكية على اعتبار القدس عاصمة أبدية لدولة الاحتلال والاستيطان والتهويد، ونقل السفارة اليها.
لقد تضافر هذا العامل مع جملة الظروف المواتية المتولدة عن السياسات والمواقف الرسمية السرية والعلنية للأنظمة العربية في حدوث هذا التحول الخطير في السياسة الأمريكية من مسألة القدس.
إن تجرؤ الإدارة الأمريكية على احداث هذا التحول دونما مراعاة لمشاعر، ليس فقط الشعب الفلسطيني، وشعوب البلدان العربية والاسلامية، بل ولمشاعر ملايين البشر حول العالم التي لا يمكن أن تكون لا مبالية تجاه مصير القدس لاعتبارات وطنية أو قومية أو إنسانية أودينية، يؤشر أنها – أي الادارة الأمريكية – مستعدة لان تقدم على ما هو أبعد وأخطر من ذلك، فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وبالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني بما فيه حقه في تقرير المصير واقامة دولته الوطنية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس.
ردود الفعل الشعبية
بمجرد أن أنهى ترامب كلمته التي أعلن فيه اعتراف إدارته بالقدس "عاصمة للدولة اليهودية" والشروع في نقل سفارة بلاده اليها، شهدت العديد من المدن الفلسطينية، والأردنية والعربية والعالمية مسيرات حاشدة لجماهير غاضبة. وفي كل هذه المسيرات ارتفعت شعارات تندد بالقرار الأمريكي وتشير لافتقاره لأي سند قانوني ومخالفته الصريحة والواضحة لميثاق الأمم المتحدة ولقراراتها المتلاحقة.
لقد أثبتت هذه الجماهير أنها مفعمة بالحياة والحيوية، وبأنها لم تخنع لكل المحاولات الدؤوبة الرامية لاشاعة الاحباط واليأس في صفوفها ولم تفلح معها شتى الضغوط الأمنية ومحاولات الترهيب والترغيب الرامية لثنيها عن المواجهة والتصدي والرفض – بالحد الأدنى – لما تحيكه الدوائر الامبريالية والصهيونية بتواطؤ من الرجعيات المحلية، من دسائس ومؤامرات تستهدف إحكام قبضتها على المنطقة العربية ومواصلة نهب ثرواتها، واطلاق يد الكيان الصهيوني العنصري، لتصفية القضية الفلسطينية وطمس حقوق الشعب الفلسطيني وازالة جميع المعوقات التي تعيق هيمنته وتمدد نفوذه السياسي والاقتصادي، وتشيع التصدعات والشروخ الأثنية والطائفية والمذهبية بين شعوب المنطقة العربية، بما يهدد وحدتها وتلاحمها وتماسكها في الكفاح من أجل التغيير الديمقراطي والتحرر الوطني والاجتماعي.
إن الاعداد الغفيرة من المواطنين التي احتشدت ولا زالت تحتشد في الساحات العامة على امتداد الوطن العربي – باستثناء الدول الخليجية عدا الكويت الشقيق – والعالم تنديداً بالقرار الأمريكي الجائر، تؤكد أن القضية الفلسطينية لا زالت حاضرة بقوة في الوجدان الشعبي، وأن العدالة المغيبة في فلسطين لا زالت قضية تستقطب أوسع التفاف شعبي عالمي.
الأردن ينتفض
أثبتت جماهير شعبنا الأردني أن ما تتعرض له القدس والقضية الفلسطينية برمتها يجد صدى سريعاً له في عمان وسائر المدن والقرى والمخيمات. وهذه حقيقة تسطع بوهج شديد في المنعطفات التي تعترض مسار النضال الوطني الفلسطيني رغم أن الأجندة الشعبية الوطنية مثقلة بالهموم المعيشية ومزدحمة بالمهام الداخلية.
إن الحشود الغفيرة التي شاركت في مسيرة الجمعة 8/12/2017 وسط عمان والمدن الأردنية الأخرى تؤكد أن الأصوات التي تنعق بالاقليمية البغيضة هي أصوات معزولة ولا سند شعبي لها، وأن أصحابها لا يتجرأون على الظهور ويغيبون تماماً عن مشهد التظاهرات الشعبية الحاشدة.
كما تؤكد الشعارات التي ترددها الجماهير الشعبية في هذه المظاهرات الرفض القاطع للسياسات الرسمية التي لا زالت تتمسك بمعاهدة وادي عربة ولا تستجيب للدعوات بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الكيان العنصري، ووقف التطبيع متعدد الوجوه والأشكال معه.
ثمة فرصة سانحة أمام الحكومة والحكم لأن يرتقي الموقف الرسمي الى مستوى المطالب الشعبية وأن يُقدم على خطوات تردم ولو جزئياً الهوة القائمة بين المواقف الرسمية والطموحات الشعبية.
هبة شعبية …. إنتفاضة!!
لا جدال في أن الموقف الشعبي الفلسطيني يشكل القاطرة للحراك الشعبي العربي والعالمي، وعليه يتوقف تصاعد أو هبوط حركة التضامن الواسعة مع عدالة قضيته والتنديد بكل ما يحاك من مؤامرات لتصفيتها وطمس جوهرها كقضية تحرر وطني من الاحتلال وكل ما يتفرع منه من سياسات الاستيطان والتهويد والأسرلة والفصل والتمييز العنصريين.
المواجهات بين الشبان الفلسطينيين وجنود الاحتلال لا زالت على أشدها، وهي تتواصل وتتصاعد منددة بالاحتلال العنصري وبالتحالف الذي يعمق بين الكيان الصهيوني العنصري والدوائر اليمينية المتطرفة والمحافظة في الإدارة الأمريكية والكونغرس، والذي كانت آخر تجلياته الخطرة للغاية الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الاسرائيلي والشروع في نقل السفارة الأمريكية إليها.
ويدرك الشعب الفلسطيني مدى أهمية حركة التضامن العربية والعالمية مع نضاله الوطني، وهو لا ينتقص من قدر العزلة التي فرضها أعضاء مجلس الأمن، ومنهم حلفاء لواشنطن – على الموقف الأمريكي من القدس. كما أنه يقيّم عالياً التظاهرات الحاشدة المنددة بالسياسة الأمريكية وبمواقفها من القضية الفلسطينية وله مصلحة أكيدة في استمرارها واتساعها وتصاعدها.
إن اتساع نطاق المواجهات مع جنود الاحتلال ومستوطنيه وتنامي المشاركة الشعبية فيها وتحولها الى انتفاضة شعبية، أمر يقرره الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية في ضوء عوامل ذاتية وموضوعية عديدة، تخرج عن إطار الرغبات والأماني والدوافع النبيلة لهذا الطرف أو ذاك.
كما أن الشعب الفلسطيني هو الذي يبت في أشكال وأساليب النضال المجربة، بما يفوت على سلطات الاحتلال الفرصة التي تتحينها دائماً لاستخدام قدراتها العسكرية المتفوقة لقمع الهبات الشعبية واغراقها في بحر من الدماء.
الشعب الفلسطيني أصبح متمرساً في النضال وابتدع على الدوام أساليب كفاحية بهرت العالم واستقطبت تعاطفه وتأييده وغلّت أيادي المحتلين الصهاينة عن ارتكاب أبشع المجازر الدموية، تماماً كما حصل في الإنتفاضة الشعبية عام 1987، وفي هبة الأقصى الأخيرة وغيرهما من محطات الكفاح الشعبي الفلسطيني.
ثمة مواقف لقوى وشخصيات عربية عديدة لا يشكك سوى ضال أو مضلّل في وفائها لفلسطين والقدس وفي وطنيتها الصادقة ومقاومتها الجريئة للكيان الصهيوني واحتلاله للأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة واضطلاعها بدور بارز وربما حاسم في مجابهة عملائه من مرتزقة الجماعات الارهابية التكفيرية، أعربت بكل وضوح عن دعم الشعب الفسلطيني ومساندة نضاله الوطني ودعواته المتتالية الى ممارسة شتى أشكال المقاومة الشعبية ضد الاحتلال، والارتقاء بهذه الاشكال الى مستوى العصيان المدني، ومواصلة الضغط على السلطة وادارتها لاحداث نقلة نوعية في خطابها السياسي بحيث يرتقي الى مستوى المطالب الشعبية الفلسطينية ويستجيب للمطلب المحق بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، وقطع الاتصالات مع ممثلي ومبعوثي الإدارة الأمريكية، ما لم تتراجع عن موقفها المتهور والطائش من القضية الفلسطينية والقدس.
إن ممارسة أشكال المقاومة الشعبية لا يحمل في طياته أي إدانة أو رفض لمبدأ المقاومة المسلحة، فهو حق للشعب الرازح تحت الاحتلال، غير خاضع للنقاش. ولا يجوز مطالبة هذا الشعب بالتخلي عن استخدامه أو التلويح باستخدامه لردع العدوان، وصده، وللتحرير إذا ما كانت الظروف والمعطيات القائمة على الأرض تسمح بذلك.
لقد أحدث قرار ترامب زلزالاً ستبقى إرتداداته تتردد لفترة غير قصيرة، ومن دون التقليل من تداعياته الجد خطيرة على حاضر ومستقبل القضية الوطنية الفلسطينية، الا أنه أحدث هزة عنيفة في الضمير والوجدان الشعبي العربي والعالمي، ستترك بصماتها على المواجهة المتواصلة منذ سبعين عاماً بين حركة التحرر الوطني والتقدم الإجتماعي الفلسطينية والعربية والعالمية من جهة، والامبريالية والصهيونية والرجعية من جهة اخرى.
سكرتير تحرير جريدة "الجماهير" الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الأردني