العراق ينوء بنفسه.. فهل التقسيم قدرا؟ / حسين درويش العادلي

عند كل أزمة عراقية عربية كردية، شيعية سنية.. أستحضر رواية توماس فريدمان الشهيرة حول تقسيم العراق والمنطقة بأسرها،.. وفي خضم كل تصعيد سياسي وعسكري ومجتمعي أسأل نفسي: ترى هل يمكن للعراقيين تفادي كارثة التقسيم؟
رواية فريدمان عن كميل شمعون

يقول الصحفي الشهير توماس فريدمان ما نصه: (كميل شمعون ثاني رئيس لبناني، والرجل الذي خبر كثيراً من أوضاع المنطقة، كانت له توقعات ورؤى، كثيراً ما كانت تثير جدلا، وتخلق متفقين أقل ومختلفين معها أكثر، في منطقة وضعت على جيدها -وقتئذ- أيقونة الناصرية زهواً واعتناقاً وطموحاً في كرامة قومية. فضلاً عن أن "شمعون" كان السياسي الذي لم ينته دوره بخروجه من سدة الرئاسة اللبنانية، بل أنه كثيراً ما كان يحرك احداثاً في بلاده، وأحيانا في المنطقة. وعندما اجتاح الجيش الاسرائيلي لبنان، طلبت قيادات لبنانية- من قادة الميليشيا المسيحية التي كانت في نزاع عسكري مع المنظمات الفلسطينية، وقت ان كانت هذه المنظمات تتمترس في لبنان من اجل انشاء جبهة مع اسرائيل- من كميل شمعون إبداء رأيه في فكرة تقسيم لبنان، وذلك لإنشاء دولة مسيحية، فلم ترق لشمعون هذه الفكرة، وقال لمحدثيه: "اسمعوا.. لبنان لا يتقسم إلاّ اذا تقسّم العراق، فإذا شاهدتم العراق يتقسم، فهذا يعني بداية مرحلة الدويلات الطائفية والعرقية في المنطقة، وليس في لبنان فقط".
هذا الرأي الذي أبداه شمعون قبل نحو ربع قرن، والوارد في كتب سياسية، ومقالات كتاب ومحللين سياسيين، يحول البصر الآن تلقائيا صوب العراق، باعتبار أنَّ أحواله مقياساً -وفقاً لتقديرات شمعون- ووحدته الوطنية معيار لثبات وبقاء الجغرافية السياسية الراهنة في المنطقة على أوضاعها، وفي المقابل، تكون بوادر رياح التقسيم في بلاد الرافدين نذر شؤم، وبداية لرسم خرائط سياسية جديدة في المنطقة، والتي تشهد الآن متغيرات عاصفة، لم تحدث قط -مجتمعة- في تاريخها الأوسط والحديث)، إنتهى.
صحيفة العرب اليوم في 23/12/2011، التلويح بوباء التقسيم في المنطقة وأخطاره، توماس فريدمان.

تساؤلات؟

هل هي نبوءة تلك التي أباح بها السياسي المخضرم كميل شمعون قبل أكثر من عقدين؟ أم هي اطلاع على ما خفي من مخططات تشتغل عليها القوى الصانعة للتاريخ؟ أم هي قراءة سياسية لعوامل بنيوية لجوهر الدولة العراقية وللعوامل الجيوسياسية العاملة فيه ولتأثيرات هذا البلد على مجمل الخارطة الشرق أوسطية؟.. قد تكون هذا وذاك.. وأكثر.. ربما.

لماذا العراق تحديداً؟

لكن، لماذا العراق تحديداً إذا ما تقسّم فستكون بداية مرحلة الدويلات الطائفية والعرقية في المنطقة وليس في لبنان فقط؟ لماذا لا تكون اليمن مثلاً أو الجزائر أو السعودية أو حتى سوريا ذات التأثير المباشر على الجغرافيا السياسية في منطقة الشرق الأوسط؟ لماذا العراق تحديداً؟

الموقع الجيوسياسي

أتصور أن الموقع الجيوسياسي هو العلة، فالعراق دولة استثنائية في موقعها الجيوسياسي، هو موقع تلاقي ثلاث كتل بشرية سياسية وحضارية غير منسجمة ومتصارعة ومتبادلة التأثير سلباً وايجابا، إنها الكتلة العربية والكتلة الإيرانية والكتلة التركية، من هنا فأي تقسيم للعراق يعني تأثيراً مباشراً على العرب والإيرانيين والأتراك،.. على سبيل المثال: تقسيم العراق سينتج دويلات عرقية طائفية بالضرورة، تتمحور حول العرق (كما الدولة الكردية) أو الطائفة (كما الدولة الشيعية أو السنية).. فهل يمكن تصور قيام دولة كردية في العراق دون تأثير  التناغم مع أكراد إيران وتركيا وسوريا؟ وهل يمكن تصور قيام دولة شيعية ولا يؤثر ذلك على وضع الشيعة في السعودية وعموم منطقة الخليج، وهل يمكن تصور قيام دولة سنية دون التأثير والتناغم مع سوريا أو الأردن؟ بالطبع لا،.. هنا يكون تقسيم العراق بداية مرحلة الدويلات العرقية الطائفية التي قال بها كميل شمعون،.. مثل هذا التأثير لا تتمتع به أي دولة في المنطقة سوى العراق،.. والإخلال بوحدة الدولة سيقود الى اختلال بنية دول المنطقة بأسرها، فإعادة القص واللصق للجغرافيا السياسية ستشتغل على أساس من الإنتماءات العرقية الطائفية في عموم دول منطقة الشرق الأوسط، فإعادة تركيب العراق يعني إعادة تركيب معظم دول المنطقة.

مغذيات التقسيم

المغذي الأساس لتفشي نزعات التقسيم يتمثل بفشل مشروع الدولة الوطنية،.. نعم لا يمكن استبعاد فرضيات المؤامرة، فمنطقة الشرق الأوسط منجم طاقة وخط ترانزيت دولي يتحكم بالعالم، واهتمام القوى الكبرى لم ولن ينقطع عن محاولات رسم الجغرافيا السياسية بما يخدم مصالحها، ومن البساطة التصور أنَّ عهد (سايكس بيكو) و(يالطا) قد انتهى. هذا صحيح، ولكن الصحيح أيضاً أنَّ فشل مشروع الدولة الوطنية شرق أوسطياً هو الذي يوفر البيئة المناسبة لإعادة إنتاج الدول، هو الحاضن الأساس والمغذي لتفكيك بنية هذه الدولة أو تلك وإعادة إنتاجها،.. وما ن هده اليوم من تسونامي الثورات دليل على ذلك، إنه عصر جديد هذا الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط، عصر يحمل من المتغيرات الجوهرية ما سيطال كافة بنى المجتمعات الشرقية في جوانبها السياسية والمجتمعية والإقتصادية والثقافية،.. وسيغير من بنية الدولة التقليدية التي قامت منذ بواكير القرن التاسع عشر الميلادي،.. وأتصور أن للعراق الدور الحاسم في إعادة تركيب معظمم دول منطقة الشرق الأوسط سواء بقي موحداً أم انساق نحو التقسيم، نتيجة لموقع العراق الجيوسياسي ولتنوعه المجتمعي العرقطائفي الذي ألبس لبوساً سيادياً هذه المرة بسبب طبيعة النظام العرقطائفي التوافقي الذي تم اعتماده على انقاض نظام الإستبداد الصدامي.
أعود فأقول: إنَّ فشل مشروع الدولة الوطنية عراقياً وشرق أوسطياً هو المغذي الرئيس لإنتشار حمى التقسيم، لقد تسيد نمط الدولة القومية المذهبية فنهارت أمة الدولة الوطنية. إنَّ أمة الدولة هي مظهر الإرادة والهوية العامة الناجمة عن الوحدة السياسية التي تخلقها الدولة، ودولنا في الأعم الأغلب دول استبداد واستعباد واستبعاد، دول سرقتها السلطة وركبها المغامرون وتسيدت فيها أنظمة التمييز ونزعة الإحتكار لصالح قومية أو طائفية أو إثنية محددة.. فانهارت وحدتها السياسية بفعل الفشل في احتواء التنوع المجتمعي لمواطني الدولة، والفشل في خلق سلطات ديمقراطية عادلة. إنَّ إحياء الهويات والمصالح والولاءات الفرعية العرقية الطائفية الإثنية على حساب الهوية والمصالح الوطنية العليا تتحمل نتائجه المدارس القومية الطائفية التي خطفت مشروع الدولة الوطنية فأفشلت وحدتها السياسية وتهدد تماسكها الجغرافي.

النموذج العراقي

تسيدت الدولة العرقطائفية عراقياً فأوجدت بنية مجتمعية سياسية هشة ومتصدعة، وما إن انهارت في 2003م حتى تكشفت التناقضات الهائلة في بنية مجتمع الدولة، تناقضات مردها تضخم الهويات والمصالح الفرعية العرقية الطائفية الإثنية التي غذتها عقود الظلم والتمييز والإقصاء.
بعد 2003م وبدل أن تتم إعادة إنتاج وحدة الدولة على وفق مقومات المواطنة والمواطنية والديمقراطية التعددية والتعايش الضامن لإحترام الخصوصيات والهويات الفرعية.. بدل ذلك تم اعتماد النظام التوافقي العرقطائفي المنتج للدولة ذي البنية الطائفية السياسية، وهي أمثل بنية تقود الى التشرذم وتقسيم الدولة، كونها تحول دون خلق أمة سياسية (أمة الدولة) عندما تعطي الإعتراف وتؤسس المصلحة على وفق فكرة المكونات العرقطائفية. لقد أبقت الطائفية السياسية الشيعي شيعياً والسني سنياً والكردي كردياً والتركماني تركمانياً..الخ.. وحالت دون توحدهم السياسي كأمة وطنية مع احتفاظهم بخصوصياتهم وهوياتهم ومصالحهم،.. وهذه هي فكرة الدولة، فالدولة ليست لاغية للخصوصيات ومصادرة لهويات مجتمعياتها ومواطنيها، بل هي مشروعهم المشترك ومظهر إرادتهم العامة. إنها خطيئة النظام التوافقي الذي يهدد الآن الدولة بالتقسيم والأمة الوطنية بالتشرذم،.. ونبوءة كميل شمعون تلوح الآن في الأفق لتحققها بنية الدولة العراقية الهشة القائمة على مسميات الشراكة والتوازن والمحاصصة العرقطائفية،.. فبنية كهذه لن تنجح، وفشلها يعني التقسيم، وهو ما سيدخل العراق والمنطقة في تداعيات جيوسياسية خطيرة.

مآل العراق

مصير العراق والمنطقة على المحك، وعلى قوى ونخب الدولة العراقية قراءة الواقع بدقة لصناعة التاريخ بحكمة، تاريخ العراق والمنطقة،.. فأما الإستسلام للتقسيم وأما الإنبعاث لإعادة إنتاج الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية الموحدة،.. شيوع تسونامي الدويلات العرقية الإثنية والإسلاموية الطائفية سيجر منطقتنا الى حرب هويات وصراع مذاهب وتنازع مصالح لا يعرف حدا.