بدائل قنوات التواصل الثقافي: التحولات في مفهوم نتاج المثقف / سيف سهيل

اليوم، وضمن الرهانات الإجتماعية التي يعقدها المثقف (المثقف المسؤول عن دوره الإجتماعي أو، إن شئنا القول، المثقف العضويّ – تعميماً للمعنى الغرامشي ومغادرةً لما يتضمنه من معنىً آيديولوجي وحيد – ولا أدري أصلاً، إلى أيّ مدى يمكننا الحديث عن «مثقف» لا مسؤول!) على الفكر نفسه، تطرح مسألة الكيفيّة النقطة الأرأس، وربما الوحيدة منذ عقد من الزمان، في سياق محاولات إتصاله بالمجتمع ووسائل التوعية الإجتماعية، في العراق على وجه خاص ومجتمعات الظاهرة العربية على نحوٍ عام. بعبارة أخرى: كيف وبأية وسيلة يمكنُ أن يؤثّر مثقف ما في مجتمع اليوم؟ كيف يمكن أنْ أحدّث جمهوراً لا يفقه لغتي؟! أو أية إشارةٍ يمكن أن تسعف خرسي الفكريّ و تمكنه من النطق أمام الصمم التاريخي لمجتمعي؟!!
يمكنني القول بثقة، إنّ مقالات الصحف اليوميّة، السياسية منها والإجتماعية والفكرية، التي تحمل نقداً إيجابياً، لا تشكّل حضوراً مؤثراً عند القاعدة الواسعة التي يعقد عليها الكاتب-المثقف رهانه في التغيير. أمّا المجلات الثقافيّة فأسوأ حظّاً من ذلك، رغم إنّها أحسن حالاً من الكتاب المسكين!. وإجمالاً، لا يظهر المجموع الكتابيّ (مشتقةً من كتابة) في الشأن الثقافي أكثر من كونه بضاعة أنتجتها النخبة، وإشترتها النخبة – إنّها مجرّد تدوير للعرض والطلب داخلها.
من سيقرأ الأعمدة الجريئة، مثلاً، لمجموعة أقلام صحيفة المدى (كعلي حسين أو عدنان حسين) أو تلك التي تظهر على صفحات العالم الجديد (لصفاء خلف أو قاسم السنجريّ)؟ إنها، لربما تضيف شيئاً عن اللاخوف لعقل واعٍ من أساسه أو إنّها لربما مثلت لبعضنا نشوة التحدي أمام سطوة السياسيّ، ولكن، ولشديد الأسف، ما من شيء سيصل، تقريباً، إلى تلك الشريحة الواسعة التي من أجلها نحرق أرواحنا في الكتابة. وبعيداً عن الإحصائيات الرقمية، فإنّه ليس من الصعب ملاحظة إنّ صحفاً كثيرة «تجارية» المقصد هي أكثر مبيعاً من «طريق الشعب» أو «المدى» أو «العالم».
ذلك لا يعود إلى خلل في المثقف أو في أسلوب كتابته بقدر ما يعود ذلك إلى إنعدام القاريء وتراجع الوعي الشعبيّ، حتمياً بسبب ظروف الماضي القريب والحاضر اليائس. وليس أقلّ صدمة من هذا، عِلْمُنا بأنّ نسبةً كبيرة من الصحف المشتراة لا تُمثّل عند مُطالِعها أكثر من صفحة فنية أو رياضية أو خبر دعائي – غير صحيح أو دقيق في الغالب – وبعنوان بارز: «تحسين رواتب المتقاعدين»!! الصحافة، التي نقول إنّها مؤثرة وإيجابية، واقعة، في الحقيقة، بين سياسيّ وقح ولا مبالٍ؛ يدير ظهره لكل ما نكتب، وبين لا إكتراث وتسخيف السواد الأعظم من اللاقراء.
يجب أن لا يجد أحدٌ في ذلك، مطلقاً، دعوة للتخلي عن الكتابة. إنّها ليست أكثر من إنارة حقيقة واقع الكتابة الصادم في معطيات عراق اليوم – لا يجب أن نتوقع الكثير مما نكتب، للأسف! أعتقد، على المثقف أنْ يبحث عن قنوات إتصال وتواصل موازية للكتابة الصحفية.
مع القنوات الفضائية الدينية و تلك الغنائية الرخيصة (وما بينهما من قدورٌ ومطابخ!)، لا تبقى من فرصة لفعل التوعية، هذا عداك عن الكم الهائل من الــ»سموم» السياسية والطائفية التي باتت تجتذب الفرد العراقي أكثر من أي حديث عقلاني ومتوازن. الإعلام أصبح وبالاً على الفكر والذائقة، لذا، فإننا لسنا لا نعوّل على الإعلام وحسب، بل وبدأنا نحاول أن نمثل الكفّة، الأخرى، المتوازنة لإعلام هدّام.
لا يقلّ التبعثر والتشتت في موقع التواصل الإجتماعي (Facebook) عن هذا. الموقع ناجح في تحشيد الأفراد لتظاهرة أو إحتفالية أو حدَث أدبي، لا أكثر. حين نصل إلى سؤال حساس ومحك من مثل: «كيف نسعى إلى تغيير وعي الأفراد؟» (وهو تغيير غير منفصل عن تغييرات سياسية وإقتصادية أيضاً) فعلينا أن لا ندع مواقع الـ»عوالم الإفتراضية» أن تجعل تفكيرنا إفتراضياً. الكثير مما هو جاد ومهم في هذا الموقع أو ذاك يمرّ دون قراءة! أو يمرّ دونَ تمحيص: عالم السرعة، الذي وُلِد منه «عالم الإفتراض»، يسود الأخير ويفرض عليه تسارعه.
بالنسبة لي، أجد في الإتصال المباشر واليوميّ مع الأشخاص، عاملاً مؤثّراً أكبر، ولا خيار آخر أكثر فعّالية يمكن عدّه بديلاً ومعوّضاً عنه، ضمن شروط المرحلة الراهنة. التوعية التي تأتي من المدرسة، من الشارع، من الدائرة الحكومية (وعلى ما تحمل من مجازفة أحياناً!)، هي الرهان الأخير للثقافة الساعية إلى التعجيل بآفاق التغيير. التنطّع إلى هذه المهمّة الشاقة، سيضع نتاجنا الثقافي في قالب هو أقرب إلى مفهوم شفويّ وسفسطائي؛ أقرب إلى أنْ يكون محاورة هائمة بين متحاوريّ «فيلابوس» أو «فيدروس» أفلاطون!
ضجّة السلطات الدينية، تعتم على أيّ منتج كتابيّ: لا أحد من أولئك القائمين على شؤون التقديس، سيكترث –عداوةً – بصدور كتاب على غرار «اللاهوت والسياسة» لسبينوزا، كي نطمح أن نحرّك راكداً، ولو قدر خيط دخان شفيف في سماء صافية. كائنات السياسة التي لا تقرأ ولا تسمع، تجعل من الصحافة مجرد ورق ملون يضيع في سواد الشارع. هذا ما يجعل وضعنا في التاريخ والحاضر مختلفاً؛ هذا ما يحتّم علينا أن نُخيّب حلم بورخيس و نزعزع «عقيدة الكتب» لديه! ولاسيّما إنّ مرحلة حرجة مثل الإنتخابات النيابية على الأبواب، قادمة وجالبةً معها مصيراً غا?ضاً للبلاد.
كلّ ما فعلتْ هذه المقالة (المكتوبة!)، التي أعرف أنها لن تمرّ بعيون من نوظّف أعمارنا لأجلهم – الناس، أنّها حاولت لفت الإنتباه لحقيقة الحلقة المفقودة بين المثقف المسؤول والجمهور. هذه المقالة التي تحلمُ أن يُقرأ يومٌ ما كلّ ما سوف يُكتب في البعيد، بالطريقة التي يحظى بها إهتمام الحلقات المئة لمسلسل تركيّ، فيما تعرفُ، هي، أنّها ستكونُ تحت صحون مأدبة عراقية في الأيام القليلة المقبلة!