تخطيطات من دفتر نصير : الـلـوز يـزهر أولا !/ يوسف أبو الفوز

تحت أشعة الشمس الربيعية، ومن بعيد تبدو شجرة اللوز المنفردة، مثل غيمة صغيرة، ظلت الطريق فهبطت الى الأرض، وحين تقترب منها لا تمتلك إلا أن تمتلئ بالفرح والاعجاب والدهشة ، مختلطا بمشاعر غريبة أخرى يغلفها الاكتشاف ، فشجيرة اللوز ..." طماعة" جدا ــ ليس هذا سرا ــ وهي عجولة وطموحة جدا، وبهذا اشعر بأنها تشبهني، وربما تشبه كل نصير في طموحها، فما ان يبدأ الشتاء يجرجر نفسه بعيدا، وتنزع الأرض رداءه القاسي، وتبدأ بأرتشاف أول أمطار اذار، وما ان يبدأ العشب بالنمو، حتى تنتفض أشجار اللوزــ اني اقول تنتفض! ــ اذ انها تسبق كل الأشجار المثمرة، ومن دون ان تنتظر نمو أوراقها، تزهر، اللوز يزهر أولا على الدوام.
حين تقترب من شجرة لوز يبهرك منظرها المدهش، فلحاؤها ما زال جافا على جذعها، وحتى أغصانها تبدو وكأنها ميتة بفعل عوادي الخريف والشتاء، فهي لا تزال جافة مسودة كقرن"كيوي" ــ ماعز بري ــ ، لكنها ويا للدهشة والجمال، مكللة بالزهور !. زهور بيض، رباعية التويج، مضلعة الشكل، تميل الى اللون الوردي قليلا، ثم مع زحف أيام الربيع تكتسي بحمرة خفيفة كخد صبية كوردية خجولة. وشجرة اللوز رقيقة، فما ان تهب نسمة هواء، وتحرك الأغصان حتى تمطر شجرة اللوز تويجات أزهارها، مخلفة في النفوس مشاعر جمة، تلك المشاعر التي نقول عنها أحيانا : لا ندري من أين تاتي ؟
الجبل
على طول الطريق الوعر المتعرج الصاعد الى قمة "مه تين" الذي يبدو وكأنه يختبر قدراتنا في ارتفاعه، كانت الصخور، وسط الظلام ، والنابتة كتماثيل سومرية تحدق إلينا محذرة من كمين معاد محتمل ، وتهمس : الى أين ؟!
ــ"احنا وذياب الغابات ربينا...!"
وكنا نتقدم ! نتكئ على التوجس ونتقدم، ونفتح عيوننا حتى تدمع ونندفع الى الامام، وبنادقنا تتصالب مع قاماتنا المحنية، المغالبة، نقاوم التوتر والتعب !
ـــ "بالليل الداجي العتمات مشينا"
نتقدم ، نتحدى التعب والجبل الذي بدأ يلين وبدت قمته تقترب منا طواعية . اتذكر ، ذلك الشيخ الجليل، من قرية "ده ركه لي" الذي ضيّفنا ذات ليلة تساقط فيها الثلج، وحدثني كيف ان جبل مه تين في الطوفان احنى ظهره حتى لا ترسو سفينة نوح عليه، ما اغضب نوحاً كثيرا، فطلب من الرب ان يحجب بركاته عن مهتين!
هاهو مه تين يا شيخنا الطيب، يحني ظهره، مرغما، في هذه المرة، هاهو يحنيه امام مردة، تحت أقدام الأنصارالذين يتقدمون باصرار نحو صباحات لابد قادمة، مهما طال وتعرج المسير، يتقدمون مانحين الجبل بهاء شبابهم، وومضات فوهات بنادقهم، ونضارة احلامهم، وهذا كله اعظم البركات !
بيت النصير
يوما ما، إبان السبعينيات، على صفحات جريدة "طريق الشعب" العلنية، ظهر تخطيط جميل ومعبر، لا اذكر ان كان للفنانة المبدعة عفيفة لعيبي، أو للفنان الساحر فيصل لعيبي ، لكنه هكذا سيكون بينهما، لان "لعيبي" ظلت عالقة " تلعب" بذاكرتي لسبب ما !
التخطيط كان لإمرأة عراقية الملامح، تحمل بيتا عراقيا، بجدرانه ونوافذه وأبوابه، و ... على رأسها ! كان الرسم معبرا عن هم المرأة العراقية، التي " تحمل" كل هموم البيت العراقي على اكتافها ، وتتحمل وتصبر و ... !
هذا التخطيط ، دوما يخطر في بالي وأنا أرى الأنصار يحملون بيوتهم على ... ظهورهم !
بيت النصير هو ليس ارض الله الواسعة، ارض كوردستان المعطاء، بجبالها الشماء، ووديانها الخصبة، وكهوفها الرطبة، وصخورها المتراكبة، وقسوة المناخ فيها، و ... انها ليس هذا فقط ، انها شئ يسمى بالكوردية " كوله بشت" ، والأنصار يسموه "العليجة" وبالعربي الفصيح تكون : حقيبة الظهر !
وتكون "العليجة" عادة منسوجة يدويا بأيدي الفلاحات الكورديات، من شعر الماعز، أو من خيوط الصوف الملون. وتتفنن النساء الكورديات في عرض زخارف جميلة، تعبر في كثير من الاحيان عن حس عال باللون، وبالعلاقة بين اللون والمادة المستخدمة في نسج "العليجة" !
ومن يرى "عليجة الأنصار" لاول مرة، ربما لا يقربها، ولا يفكر في امتلاكها، للأتربة التي تراكمت عليها، وبقع الزيت، والتي سببت تغيير الألوان وذهابها، وربما للروائح الخاصة التي صارت تصدر منها. لكنها لكل نصير تكون اقرب رفيق، ولا تفارقه أبدا، وبدونها يشعر بأن شيئا ما ينقصه، اذ انها والبندقية ومخازن الرصاص صارت جزءاً من جسد النصير، فبدون هذه الاشياء لا يمكن له الحركة بعيدا!
فكل نصير له عليجته، التي هي بيته الصغير، ينتقل معه اينما حل في رحلة الايام الوعرة، ينام معه، فهي خير وسادة، وخيرمعين عند الحاجة. في "العليجة" يحفظ الأنصار اوراقهم، رسائلهم، صورالأهل ــ إذا توافرت ــ ، افكارهم المكتوبة ، سجائرهم، خبز الساعات الحرجة، وطلقات احتياطية للمواجهات المفاجئة، وربما زهور مجففة لدسها في رسائل ترسل الى البعيدين، وبعض الادوية واشياء خاصة. كم من رسالة وصلت من أحبة بعيدين، وكم من رسائل أنصار رحلوا عنا، وكم من خواطر و"خربشات" بأمال واحلام، وكم من نصير سجل وصيته وحفظها هناك ليجدوها بعد استشهاده، كلماته الاخيرة وقطعة الخبز الاخيرة وطلقاته الاخيرة تتجاور الى بعضها البعض هناك؟
أكتب هذا لأنه دار حوار طريف بين مجموعة من الأنصار، وكان السؤال الذي يدور: لو قدر لنا ان نعيش، أمن المعقول بعد هذه السنين ان تكون لنا حقائب؟ حقائب كبيرة وتكون لنا فيها ملابس عصرية، واشياء اخرى؟
سيكون يا أحبتي ، ستكون لنا حقائب وحقائب ، كل شيء ممكن في هذه الدنيا !