زهير الجزائري يستذكر مدينته النجف في لندن / عبد جعفر

حين يستعيد مغترب مدينته عبر الذاكرة والتوثيق عليه أن يتحمل وجع التغيير وزوال تلك المناطق والشوارع الأليفة، وغياب الصور لأمكنة الطفولة، وملامح الأبنية الأثرية التي شوههها مقاولو محدثي النعمة. هكذا كان حال الكاتب زهير الجزائري وهو يستذكر مدينته النجف في الحديث عن (النجف الذاكرة والمدينة) في مؤسسة الحوار الأنساني في لندن يوم 29-4-2015.
فحين نذكر النجف، كما قال الاستاذ صادق الطائي في تقديمه، يتبادر الى الذهن المدينة المقدسة، والمدارس الدينية، ومقبرة السلام، غير أن للنجف وجه أخر لا يعرفه الأ من عاش وترعرع فيها وعرف خبايا، والكاتب زهير الجزائري إبن المدينة يكشف اليوم هذا الأمر.
فالمتخيل شيء، كما بدأ الجزائري، حديثه شيء والواقع شيء أخر، فمحلة العمارة التي ولدت بها قد أزيلت من الوجود، رغم أهمية هذه المحلة التي أنجبت الكثير من الشخصيات المهمة المؤثرة، وكنت أحاول ترميم الموقف عبر إطلالتي على المدينة من الفندق، وأعيد رسم الأشياء، كما كانت في الخمسينيات.
هنا مقبرة السلام التي تشكل أحد معالم المدنية، وبها أصبح الموت أليفا جدا، أزقة النجف تشبة أزقة بغداد في ضيقها، والناس يتواصلون بإشكال عجبية فيما بينهم من خلال النوافذ والسراديب و فتحات مجاري المياه.
ويجد النجفي الراحة في السراديب من قيظ الصيف، ومخبئا من مطاردة السلطات.
والسؤال لماذا أختار الامام علي النجف على أطراف الصحراء وبعيدة عن النهر، عاصمة للخلافة؟ مازال الأمر محيرا لحد الان.
ويغوص الجزائري في الذاكرة، كاشفا كيف تجري الدراسة في صحن مرقد الأمام علي، وينعطف بحديثه عن النساء، اذا كان من المعيب ذكر أسم الأم، ولكن هنالك ظاهرة (المليات) القارئات في التعزيات، والضاربات في الوقت نفسه على الدف في وقت الإفراح مثل ملا أمينة وملا فرحة.
المدينة شهدت في الاربعينيات والسنوات التي لحقتها تغيرات، خلقت فيها، سجالات كثيرة بين مؤيد ومعارض، منها دخول الراديو، وشق الشوارع وظهور مقاهي جديدة روادها من الأفندية الذي يتحدثون بالسياسة والحياة اليومية الأخرى. عقبها توسع في معمار المدينة في خلال بناء إحياء جديدة مثل حي سعد وإنشاء الفيلات المحاطة بالحدائق، ثم بدأت تتوالى التغييرات كدخول التلفزيون، ورفد المكتبات بالمجلات المصرية.
المدينة رغم إنقساماتها القبيلية والفكرية كانت متآلفة، وتتقبل الأخر اذ كان فيها نسيج اجتماعي متنوع من الأقوام.
وأشار الى دور مجلة (الكلمة) التي أصدرها مع مجايليه آنذاك، وهم جيل الخيبات السياسية، في التمرد على أرث النجف من (الشعر العمودي) المنبري والصدام مع المؤسسة الدينية الرعاية له. ولما تجاوزت الخطوط الحمراء المرسومة من قبل السلطات الحكومية ألتقى المقدس والسلطة في قمع هذا التمرد.
والجزائري في حديثه الشيق والممتع والجرئ في الطرح والملون بالطرائف، تناول أيضا دور عائلته وأسرته في الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية.
اليوم يقف الجزائري مثل غيره حزينا على إطلال مدينته التي أزيل الكثير من معالمها وفقدت إرثها ومعمارها وشوه نسيجها العمراني وطابعها الاجتماعي وروح التسامح الذي لامسته بداياته في الأربعينيات والخمسينيات.
المحاضرة أثارت اسئلة كثيرة وشجونا أكثر لما آلت اليه مدن العراق، من إهمال وغياب التخطيط المدروس، وعدم المعرفة في الكيفية للحفاظ على تراثها من قبل المسيطرين الجاهلين بأمرها.