من حكايا ايام زمان / ناصر حسين

(1)
منذ الشهر الخامس سنة 1961 وحتى اواخره كنت نزيل سجن الكوت. كلفت بان استمع من خلال جهاز راديو صغير ساعدنا الصديق الشرطي السجان- والرفيق الشيوعي لاحقا عيدان ) على ادخاله الى السجن ، استمع الى ما يذاع من الاذاعات واتولى اعداد نشرة اخبار يومية وقراءتها في الساعة الخامسة والربع مساء في القاعة رقم 3 التي ضمت بين جدرانها في العام 1948 كلاً من الشهداء مؤسس الحزب يوسف سلمان يوسف "فهد" وعضوي المكتب السياسي حسين محمد الشبيبي وزكي محمد بسيم . في احدى الامسيات قرأت للرفاق، اضافة الى ما اعددت من نشرة اخبار، رسالة اخبارية وردت الينا من الحزب وكان فيها معلومة، من أن اجهزة أمن عبد المجيد جليل أخذت تعتقل شيوعيين بدون أي اتهام والمهم عندها اعتقالهم وابقاؤهم رهن المعتقل لبضعة ايام ومن ثم اطلاق سراحهم. ولتوفير الغطاء القانوني لعملية الاعتقال كانوا يستندون الى المادة 24 اصول أي التشرد حيث لا عمل, ولاهوية ثبوتية, ولامكان سكن, ولاشاهد تعريف. يأتون بالرفيق من الشارع يدخلونه الموقف وبعد حوال الاسبوعين يطلقون سراحه. وهذا وبالاضافة الى امور اخرى استفزت الرفيق نصيف الحجاج رئيس تحرير صحيفة لجنة المنطقة الجنوبية للحزب فكتب في الصحيفة مقالته الشهيرة التي حملت العنوان " ديمقراطية للكشر". وانا اقرأ المعلومة الواردة في رسالة الحزب قاطعني الرفيق السجين محمد حبيب احمد. وهو من سكنة مدينة الفاو- وكان قبل ان يسجن مختاراً للفاو وحكى لنا انه اعتقل من قبل امن مدينة الفاو ولمدة اربعين يوماً بموجب هذه المادة فعلا . وقد واجهت الشرطة المحلية اشكالاً بسبب ذلك الاعتقال للرفيق مختار الفاو. فهو كمختار مطلوب منه ان يضع الختم وتوقيعه على معاملات المواطنين الذين يراجعون الدوائر الحكومية لكي يثبت ان اصحاب المعاملات هم من سكنة مدينة الفاو.
انتظار تمشية المعاملات إلى حين اطلاق سراحه من المعتقل امر يجر الى مشاكل طويلة عريضة ، والامن يريدون الابقاء عليه موقوفاً. فتفتق ذهنهم عن تدبير قرروه بأنفسهم وهو تزويده بالختم وتبليغ اصحاب المعاملات لمراجعته في الموقف في مركز الشرطة لختم معاملاتهم.
اتشوف شلون يخوي يبو گاطع :
- محمد حبيب احمد- مختار الفاو, معتقل في مركز شرطة الفاو بتهمة التشرد وفقا للمادة 24 أصول.
- محمد حبيب احمد , يضع ختم المختارية على معاملات المواطنين وهو في الموقف ليثبت لهم انهم من سكنة مدينة الفاو.
فأية مهازل كانت تجري في عراقنا الحبيب؟! وسيلعن التاريخ كل من سار ويسير وسيسير في المستقبل على خطى هؤلاء.
(2)
السنة الدراسية 1953-1954 كنت طالبا في الصف الثالث المتوسط، اسكن بغداد وادرس في متوسطة الجعفرية المسائية. أواخر اذار واوائل نيسان في العام 1954 واجه العراق فيضاناً طاغياً في نهري دجلة والفرات.
ارتفعت مناسيب المياه بسرعة في نهر دجلة واخذت تهدد بغداد بالغرق. ولم يكن امام الحكومة آنذاك من اجراء لحماية المدينة من الغرق سوى القيام بكسرتين في ضفة النهر احداهما شمال بغداد حيث تدفقت المياه شرق السدّة الترابية التي شيدت ايام السيطرة العثمانية على العراق والاخرى جنوبا باتجاه منطقة هور رجب. وبذلك اصبحت المدينة مؤمنة من حيث مناسيب المياه في دجلة لكنها وخصوصاً جانب الرصافة كانت مهددة تهديدا حقيقيا من جهة السدة واقتضى الامر اجراء استنفار للجيش في معسكر الرشيد للانتشار فوق السدة واجراء التعليات عليها لمنع المياه التي شكلت بحيرة على مدى البصر شرق السدة من ايجاد ثغرة فيها والتدفق الى داخل المدينة. مليارات من الامتار المكعبة من المياه تبحث عن منفد لها للتدفق منه. واقتضت حمية الطلبة و الاساتذة التوجه الى السدة لمساعدة الجيش على حماية العاصمة من الغرق .
كنا نترك كتبنا ودفاترنا في الرحلات المدرسية ونتوجه سيرا على الاقدام الى السدّة .المياه على مدى البصر لا توجد يابسة امامنا . من بعيد من اطراف بغداد الجديدة كنت اشاهد بضعة اشجار من اليوكالبتوس تصارع المياه ولم يبق منها فوق السطح غير اطرافها فقط. والجنود يكدسون الاكياس التي ملئت وتملأ بالتراب الذي تنقله سيارات الجيش الى السدّة. الواحد فوق الاخر كمصد للمياه التى ان حركتها الريح تضرب وجوهنا ونحن نساعد الجنود في اداء تلك المهمة.
في تلك الايام ونحن نواجه تلك المخاطر، وقد كانت مخاطر حقيقية فلم تبق على قيد الحياة اشجار المشمش التي كانت تملأ بساتين اليوسفية بسبب المياه التي تدفقت اليها من كسرة هور رجب وان أي تدفق للمياه باتجاه العاصمة يعني غرق جانب الرصافة منها بالكامل، في تلك الايام كان النظام السعيدي يفكر بطريقة اخرى بحيث ينطبق عليهم المثل الشعبي ((عرب وين طمبوره وين)).
لم يكن يشغل بال حكام بغداد غير مكافحة الشيوعية. كان هذا همهم الاول، ففاجأوا اهل العاصمة بإشاعة تقول بان الشيوعيين يريدون فتح ثغرة في السدّة كي تغرق بغداد وما كان من الحزب آنذاك غير ان يرد على اشاعاتهم تلك ببيان يخاطبهم فيه ان بغداد هي بغدادنا نحن وليست بغدادكم انتم، بغداد ملك للعراقيين وليست لمفسدي نظام الحكم. وان حماتها هم العراقيون.
اجل كانت بغداد عاصمة للعراقيين وان حماتها هم العراقيون، هم الشعب العراقي وليس من وضع نفسه في خدمة الامبريالية العالمية ومخططاتها الاستعمارية.
ولم تغرق بغداد، حماها ابناؤها من الغرق من جنود وضباط وطلبة واساتذة جامعيين رجالا ونساء. وماهي الا اربع سنوات فقط حتى رحل اولئك الدجالون عن سدة الحكم بتلك الضربة السريعة التي وجهها لهم الجيش وتضامن الشعب معه صبيحة الرابع عشر من تموز/1958. ذهب هؤلاء الذين فبركوا الاشاعات الكاذبة ضد الشيوعية، وبقي الحزب شامخاً.