رفاق الطريق / حسن مظلوم

كنت في الثامنة من العمر وكنا نسكن في ذلك البيت المنحني الظهر والمهدد بالسقوط كلما عصفت الريح وتساقط المطر. يقع بيتنا في قضاء الكاظمية منطقة الشوصة ساحة الزهراء بالتحديد. كذلك اذكر كف ابي ذات العروق الزرقاء وهو يقودني الى اسواق الكاظمية لغرض التبضع حينا او للترويح عن النفس وحرق الوقت حينا آخر. كنا نمر من امام تلك البناية الشامخة التي تشغل احد الاركان الاربعة المؤدية الى الصحن الكاظمي وكانت تسمى عمارة شاكر العكيلي يشغل الطابق الارضي لتلك العمارة معرض موبيليات الكاظمية بادارة الاخوين حميد وسعيد الاوسي. وكان اهالي المنطقة يسمون ذلك المعرض " محل الشيوعيين " وكنت كما اترابي لا افهم معنى الشيوعية.
وفي ذات صباح من ايام تموز عام 1963 والشمس تفرش اشعتها الارجوانية على شبابيك تلك البناية، رأيت ولأول مرة في حياتي دبابة عسكرية تقف على الرصيف المقابل للبناية يحيطها بعض الجنود المدججين بالأسلحة فيما اقتحم البعض الآخر من الجنود بوابة البناية. كان المنظر مخيفاً لنا نحن اطفال المنطقة الذين تجمعنا على رصيف الشارع وقت ذهابنا الى المدرسة وكنت عهد ذاك في الصف الثاني الابتدائي، ولم اكن اعي ما يدور وما سر تواجد الدبابة وعن ماذا يبحث الجنود. عصر ذلك اليوم عاد ابي من العمل فسألته مستفهماً عن الموضوع فاجابني ببساطته المألوفة ان الجيش يبحث عن الشيوعيين. والله هذوله دوخو الشرطة والجيش. بعد ذلك اغلق المحل واختفى الاخوان حميد وسعيد ولا احد يعرف مكان اختبائهما.
بعد تلك الحادثة شعرت بعواطف مبهمة تختلط في صدري وتفيض تساؤلات عدة ادركت مع الزمن التفسير لكل اسئلتي، وادركت معنى تموز وشباط وسعيد متروك الذي كان اسمه مدوياً في منطقة الكاظمية وطريقة اعدامه على سياج ثانوية الشعب ثم سحله في شارع المحيط. ادركت ايضا معنى حسن سريع وسر هروب الشقيقين واعتقال بعض رجال ونسوة المنطقة.
وهكذا وجدت نفسي على خطى الرفاق الذين اقتحموا ابواب المقابر والذين ما زالوا على قيد الحياة، منهم من غيبتهم الهجرة ومنهم من انكفأ في داره اسير سرير المرض ومنهم من لا يزال على الطريق يتوكأ على عكازة الخريف، وكنت لا زلت كرفاقي ألصق اذني بالارض فاسمع صراخ الجياع في كل مكان فاصرخ معهم واجرع سياط صراخي.
بعد مرور اكثر من نصف قرن على تلك الحوادث التقيت في احدى المناسبات الحزبية بأحد الشقيقين، فأي لقاء وأي صدفة جمعتني بهذا الاثر التاريخي الذي ما زال يجول في ذاكرتي رغم اختلاف الازمان والاماكن، عرفته منذ الوهلة الاولى مثل المعلم الذي يظل في ذاكرة التلاميذ مهما طال او قصر وما ان تاحت الفرصة حتى سألته: ألست سعيد النجار؟ حدجني بنظرة المستغرب واجاب نعم. سردت له الحكاية ورحب بي بحرارة المنقب عن عنفوان الشباب بكل اندفاعاته وانفعالاته. ثم تداولنا الحديث عن منطقة الكاظمية وناسها واحداث عام 1963 وهروبه مع شقيقه حميد الى محافظة كركوك واشتراكهما في حركة سليم الفخري عام 1964 وحكم عليهما بالسجن الغيابي لمدة ثلاث سنوات، واضاف ان النظام السابق اعدم ثلاثة من اشقائه مطلع الثمانينات وهم ابراهيم وخليل وياسين، وقد اصيبت زوجته بجلطة دماغية اثر اقتحام الدار وفارقت الحياة بعد اربعة ايام من المداهمة. لله درك يا سعيد لم تثنك عن الطريق ولم تطأطئ رأسك كل هذه المصائب.
ورغم انه قد تجاوز السبعين من العمر الا انه لا يزال وسيما وانيقا ويمتلك القوة التي تتحدى الشيخوخة التي بدأت تدب على وجهه وما يزال يواصل عمله السياسي ضمن تنظيمات الكرخ الثانية ويجد فيه ديمومة الحياة وسعادتها. ثم سألته عن شقيقه حميد تنهد ثم اجاب اصيب بجلطة دماغية اقعدته البيت. اخبرته ان في القلب غصة اللقاء به وسرعان ما استجاب الرجل لرجائي ودعاني الى زيارة حميد في داره الواقعة في منطقة حي العامل ثم تبادلنا ارقام الهواتف وافترقنا على امل اللقاء.
لم تمض الا ايام قلائل حتى اتصل بي سعيد وحددنا موعد اللقاء اتصلت بدوري برفيقي وصديقي الاعز الى القلب السيد حسن علي ابو مصطفى الساكن في المنطقة نفسها ودعوته الى حضور اللقاء، ما ان طرقنا الباب حتى استقبلنا سعيد بوجهه البشوش والابتسامة تملأ ثغره. دخلنا الصالة المتواضعة كان حميد جالسا على احد اطراف السرير مددت يدي مصافحا مد يده اليسرى بعد ان شلت يده اليمنى، كنت حريصا على اختصار الحديث والاسئلة كي لا تنعكس سلبا على صحته وهو الواقف على اعتاب الثمانين من العمر ويتلكأ في الكلمات احيانا. قال انا كبير اخوتي وقد كسبتهم جميعا الى الحزب وبعد حركة حسن سريع هربت وسعيد الى كركوك وبعد حركة سليم الفخري عام 1964 القي القبض علي ثم اودعت في سجن الفضيلية خلف السدة ثم نقلت الى نقرة السلمان وامضيت في السجن اكثر من اربع سنوات واطلق سراحي في العفو العام بعد انقلاب تموز عام 1968. كنت من المعارضين لميثاق الجبهة الوطنية لأني ادرك تماما ان حزب البعث خنجرا في الظهر. ثم واصلت حياتي وانصرفت الى عملي في النجارة وقد عانيت المضايقات والمداهمات المتعددة لدارنا لا سيما بعد هروب سعيد واعدام اشقائي الثلاثة. وفي التسعينات اصبت بالجلطة الدماغية التي اقعدتني البيت.
ويمضي ليقول بعد الاحتلال عام 2003، شاركت في بعض المسيرات والتظاهرات التي نظمها الحزب وما زلت اشارك بين الحين والحين في الاحتجاجات من اجل الاصلاح يساعدني في ذلك شقيقي سعيد فانا مقعد وتكون حركتي على الكرسي الطبي. وقد استقبلني ذات مرة الرفيق سكرتير الحزب حميد مجيد موسى وكتب عنا الاستاذ جاسم الحلوائي.
من خلال حديثي معه شعرت انه لا يزال رغم معاناته متوقد الفكر وتقدمي الموقف عزيز النفس رغم احساسه بالفقر، والفقر لدى الكثيرين عورة يجب ان تستر عن عيون الآخرين رغم ان للأقدار حساباتها وتكلفتها الضخمة امام عيادات الاطباء وابواب الصيدليات.
لكما المحبة يا حميد ويا سعيد ويا كل رفاق الطريق ومهما كتبنا عنكم لا نفي بعض تاريخكم المخضب بالنضال والتضحية والشهامة ونكران الذات، ولكننا نحاول قدر المستطاع ان نرد الجميل جميلا.