قسوة الموت وخلود النضال تحية مجدٍ لذكرى المناضل الراحل جبار خضير الحيدر

حامد خيري الحيدر
منذ الأزل ومع بدايات الأدراك العقلي للإنسان، كان الموت لغزاً غامضاً عصياً على الفهم، باعتباره حقيقة مطلقة لا خلاص منها، خضع لسلطانها جميع البشر في شرق هذا العالم وغربه، مقتنعين بحتمية ملاقاتها يوماً ما وأن طال الزمن، عاجزين أمام قسوتها وجبروتها. ليظل الأنسان خلال مسيرته الطويلة من حياته المليئة بالصراعات والتناقضات عاجزاً على أدراك أبعادها.. هل الموت انتقال الى المجهول ورحيل الى عوالم أخر لا تدركها البصيرة والأبصار؟ أم هو فراق سرمدي بين الحقيقة الملموسة المسافرة بين أنغام الزمن، والخيال المُبهم السابح بين أبعاد الخديعة؟ لتغدو كل محاولة جازف بها الأنسان طيلة حياته الممتدة ردحاً بعد ردح، والمتخمة بصراعته العبثية مع غياهب الحياة تارة، أو مع أقرانه من بني البشر تارة أخرى في التمرد على مقدراتها، أو حتى فقط التفكير بنسيانها من أجل التشبث بمغريات وجمال الحياة ونشوة شبابها، مجرد أوهام لا طائل منها سرعان ما تتبخر مع قسوة تلك الحقيقة التي لا تعرف مَحبة أو حنين، حين يَمثل ذلك المخلوق الضعيف المتناقض الذي يدعى الأنسان مسلوب الارادة أمام جبروت الموت المخيف وهو يشهر سلاح الفناء البغيض.
تجعلني تلكم الكلمات أطرح تساؤلاً ظل يشغل عقول غالبية الناس، ومخيلة جميع من فكّر في الموت وأحجيته المُحيّرة... هل أن جميع البشر يغدون سواسية عند الموت، كما ذهبت في ذلك فلسفة أسلافنا من أبناء سومر؟ ليؤول حال من أرتدى ثياب العفّة وسقى الناس الماء الصافي الزلال طيلة حياته، وذاك الذي أذاقهم مرّ العذاب، أو من قضّى مسيرة حياته يتراقص بين حبال الكذب والخديعة، الى نفس التربة الرطبة العفنة، التي لا تفرق ديدانها بين القوي والضعيف، الجسور والجبان، النزيه والمُرابي، الأبي والمنافق، المناضل والخائن، المستقيم والمتلون... يبقى ذلك تساؤلاً أزلياً ينتظر إجابة غامضة، في الغالب سوف لن تأتي، وحتى وأن أتت فهي لا تشفي غليل من اكتوت أحشائه بجمر فراق من أختطفه ذلك القاتل الذي لا يميز أبداً بين هذا وذاك والذي يدعى الموت.
نردد هذا السؤال ونكرره مرات ومرات وبصوت عال، علّ جدران الكون تعيد صداه فتجيبنا النجوم عن ذلك اللغز المُبهم، لتزيل بعضاً من حيرتنا، ونحن نرى واقعنا المُزري الراهن، بعد أن حَجبت بريق الدنيا أجنحة خفافيش الظلام، سواءً داخل عراقنا الصابر الجريح أو بين أصقاع غربتنا الرتيبة الكريهة، والتي غرقت بين تلاطم أمواجها وأعاصير نفاقها، جماليات المُثل العليا والمبادئ السامية الي جُبلنا عليها، بل وأبسط قواعد القيم الانسانية والأخلاقية التي كنا نتغنى بها ونتباهى، ونفتخر باعتناقنا إياها.
قد يعتبر البعض كل ذلك شيء من هذرٍ ثقيل يخدش المسامع، لا معنى له في عصرنا المتمدن هذا المُسّير على لوحة مفاتيح الكومبيوتر، ولا فائدة ترتجى من أعادة اجتراره. نقول ذلك وشريط ذكرياتنا القريبة والبعيدة يُعيد لبقايا ذاكرتنا المنهكة بفعل زيف الحداثة المشوه، أيام وسيرة رجل أنتهى برحيلهِ ذلك الجيل الماسي المتألق، الذي كانت أقدامه يوماً ما تخطوا على الارض وهامته تلامس بريق النجوم كبرياءً ومجداً.. أنه المناضل الجسور جبار خضير الحيدر (أبا ظافر).. ذلك الرمز والمَثل الأعلى الذي ضللنا نفخر ببطولته وإبائه وعنفوان شجاعته، حيث واجه ببطولة قلّ نظيرها مِحناً ومُلمّات يصعب وصف قسوتها، لكنها كانت كرياح السموم تتكسر دوماً على صخرة أرادته، فلم يكن أمامها ليحني هامته، أو يستجدي الرأفة والرحمة من حاكم ظالم أو متآمر صعلوك، مقابل الخنوع أو بيع الضمير وتغيير الفكر أو نكران المبدأ، ليظل شامخاً كنخيل الرافدين رغم قسوة الدنيا، وغدرها الأزلي بالمناضلين الشرفاء وحملة الأفكار النيّرة، لتبقى عيونه الحالمة حتى رمقها الاخير، يُكحلها الأمل وهي ترنو الى وطن حر جميل يحيا بين ربوعه شعب بهيج سعيد.
ها هي دروب الشقاء المعفرة بعبق النضال تطلق اليوم صرختها المدوية وهي ترنو لعاشقها المُتيّم وهو يفارقها بعيداً...... الى أين تفارقنا يا أبا ظافر... الى أين تذهب يا رفيق السماء؟ الى أين أنت مسافر أيها المناضل الباسم؟ الى أي أرض وأي فردوس قد رحلت اليها، بعد أن ضاق بك واقع لا يستحق خطى أقدامك، وحياة لا تستحق ترديد أنفاسك، ليغدو رحيلك فراق لسانه الدمع، وحديثه الصمت، وعنوانه الصبر، وصورته جرح غائر في القلب محال أن يندمل.
أبا ظافر... أيها الجَسور.. أيها الحالم.. أيها المناضل.. أيها الأنسان الذي عمّدت حلكة السجون قلبه الكبير الطاهر، بتلك المبادئ السامية التي تغنت بحب العراق وشعبه العظيم.. ستظل حياً يا أبا ظافر في قلوب جميع من أحب الوطن وأذاب عمره بين سواقيه، نعم ستظل حياً يا من نذرت أيامك ودماك وأفراحك وزهرة شبابك، لأيامٍ قادمة أحلى، تراها تتلون في عيون الأطفال وتتورد في خدودهم، ومستقبل مزهر وضّاء تتعانق فيه المطارق والمناجل.. ستبقى في قلوبنا كما عهدناك حين نتلمس طيبة راحتيك الحنونتين، محباً للحياة عاشقاً لبسمات الشعب.. هادئ الطبع كحمائم السلام .. متواضع كسنابل العطاء.. بسيط كطعام الكادحين.. أبياً، غيوراً، مفعماً بكبرياء الرجولة والبطولة الخالدة... عظيم الهِمّة، نظيف اليد واللسان، نقي القلب والسريرة كملائكة الجنان.
هنيئاً لك يا أبا ظافر ذلك الرحيل الذي لا يليق سوى بأمثالك، الذين زهدوا بجمال الدنيا ولم يبتغوا أو يتمنوا طيلة سنوات أعمارهم سوى سمو العراق وخلوده..... هنيئاً لك رحيلك وأنت تتألق زهواً وشموخاً بين عوالم المجد والنقاء، حيث يهنأ صحبة الأمس، ورفقة أيام النضال والماضي الجميل.
طوبى لك وقد جعلت من الحب زنابق بيضاء تفوح خيراً ومحبة... طوبى لك وقد جعلت من أيام نضالك قطرات غيث بللت الوجوه المتعبة البائسة.... طوبى لك يا أبا ظافر وأنت ترحل شامخاً حيث سِفر الخلود.