لقاء مع الرفيق المناضل كاظم شنوار حسن، هكذا شاركت في حركة حسن سريع / حسن مظلوم

صباح يوم الثلاثاء 12/ 11/ 2013 قصدت مقر الجريدة. وكان صباحاً جميلاً دافئاً بعد يومين متتاليين من تجمع الغيوم وتساقط زخات المطر.
"هل تعرفين أي حزن يبعث المطر"؟ وكيف تغرق شوارع بغداد والمحافظات وتسقط بعض البيوت وتكثر العطل الرسمية اذا إنهمر؟
ولست هنا بصدد الكتابة عن الكوارث التي سببتها زخات المطر. فالكتابة في مثل هذه المواضيع اصبحت غير ذات بال وتضحك الجميع إبتداءً من صخرة عبعوب وانتهاء بالخصوم السياسيين الذين سدوا مجاري الصرف الصحي وأطفاؤا محطات توليد الطاقة الكهربائية. المهم صعدت سلم المقر ووصلت إلى الشرفة المطلة على دجلة الخير والمقابلة لمكتب الأستعلامات. وقعت عيناي على رجل تجاوز السبعين من العمر. يجلس على كرسي بلاستك ويحدق بعينين لامعتين شاطىء دجلة. ربما يتأمل أمراً ما، أو ربما تدور في ذهنه فكرة معينة هي جزء من كيانه الأجتماعي. يرتدي دشداشة?زرقاء اللون وجاكيتاً بذات اللون وغطى رأسه باليشماغ الكوفي يتوسطه العقال العربي ويتأبط عباءة رجالية سوداء. ألقيت عليه التحية فنهض من مكانه بأدب رفيع ورد بأحسن منها. مددت يدي وصافحته دون أن اعرفه سابقاً وقلت له " اشلونك شلون الصحة" وكأن هناك معرفة متينة تربطني بهذا الرجل ولم لا؟ فرفاق الطريق متشابهون ومتحابون فيما بينهم حتى وأن اختلفوا أو تخاصموا في هذا الموضوع أو ذاك ولا ضير في ذلك انما الضير هو الانحراف عن الطريق الذي وجدنا فيه ضالتنا وشيدنا في تاريخه النضالي ذواتنا المقبولة من الجميع. قال ولا زالت يدانا ?تشابكتين " عمي أقدم لك نفسي كاظم شنوار المكنى ابو جواد" وما إن سمعت بهذا الإسم حتى اندهشت متسائلا:ً ألست احد ثوار حركة الشهيد حسن سريع وقد قرأت هذا الأسم مرات عدة في الذكرى السنوية للحركة؟ اجاب نعم وأضاف جئت من محافظة واسط لغرض الحصول على نسخة جديدة من الجريدة التي نشرت وقائع الحركة ويوم المحاكمة بعد ان تلفت النسخة التي بحوزتي. وكان يحمل في يده اليسرى نسخة من جريدة طريق الشعب ومجلة الشرارة. عانقته بحرارة قائلاً شرفتنا بقدومك وأهلاً بك في دارك وبين عائلتك، وطلبت منه أن ينتظرني دقائق ريتما أسأل عن قدوم السيد? أم وسام مسؤولة الأرشيف. صعدت إلى الطابق الثاني وسألت الرفيق (أبو أوس) مدير الادراة فأجاب انها في الطريق. نزلت اليه وأخبرته بقرب مجيئها ودعوته إلى تناول الفطور معي في شارع الكرادة القريب جداً من مقر الجريدة، فأعتذر شاكراً دعوتي. رجوته ان يجلس معي في مكتبة الجريدة فلدي بعض الأستفسارات عن يوم الحركة في 2/ 7/ 1963 وقلت ملاطفاً اياه: كنت عهدذاك في الثامنة من عمري ولم اعرف شيئاً عنها غير ماقرأت. فأستجاب مشكوراً وجلسنا في مكتبة الجريدة.
جلبت له قدح الشاي وبعض المعجنات، ووقتها جاءت السيدة أم وسام فطلب منها مبتغاه وقبل أن ينتهي من ارتشاف جرعات الشاي جاءت السيدة تحمل طلبه فشكرها ممتناً وسرد قائلاً:
عام 1963 كنت في الثالثة والعشرين من العمر وكنت عسكرياً مطوعاً برتبة جندي اول في معسكر الحبانية ثم نقلت إلى معسكر الرشيد في مركز التدريب المهني/ قطع المعادن. وكان بيتنا عبارة عن صريفة بسيطة في منطقة كمب ساره المجاورة لمعسكر الرشيد وكان معي في المعسكر ابن عمي العسكري الشهيد جليل خرنوب الجوراني الذي كان ينتمي إلى الحزب الشيوعي العراقي واكثر فقراء العراق ينتمون إلى الحزب لأنهم يجدون فيه العدالة الأجتماعية التي تضمن لهم العيش الكريم، يضاف إلى الأمور الأجتماعية والثقافية التي كنا نتعلمها من المحاضرات والأجتماعا? الحزبية.عرفني جليل على الشهيد حسن سريع ولا زلت أذكر أول لقاء بيننا، كان داخل المعسكر، وقد قال جليل مخاطباً حسن: اقدم لك ابن عمي كاظم وهو من رفاقنا ويمكنك الاعتماد عليه. توطدت علاقتي بالشهيد حسن سريع فقد رأيت فيه رجلاً شجاعاً ومؤدباً ومخلصاً لمبادئ الحزب، يضاف إلى اخلاصه في علاقته مع الأخرين، وأصبحنا صديقين ورفيقين لا نفترق الا قليلاً، وقد عرفته على عائلتي وأحبته أمي واعتبرته احد افراد العائلة فأصبح يخفي في بيتنا المناشير والأسلحة. عرفني على بعض الرفاق الذين يعملون في الخط العسكري. مثل النائب ضابط بهنام ا?طيفان وشقيقه متي اصطيفان، الاول حكم عليه بالسجن عشرين عاماً والثاني حكم عليه بالأعدام. عرفني ايضاً ببعض الرفاق في معسكر سعد العائد للفرقة الثالثة وأيضاً العريف كاظم زراك في معسكر المحاويل. كذلك الرفاق عريبي محمد ذهب وشقيقه علي محمد ذهب وقد اعدموا مع حسن يوم 30/ تموز/ 1963 وعرفني على الجندي صباح ايليا واعدم أيضاً في نفس اليوم.

 

2/ تموز/ 1963

صباح ذلك اليوم كلفني حسن بالذهاب إلى نائب العريف نزار حبيب الأعرجي الذي كان يعمل في القاعدة الجوية لمعسكر الرشيد وهو من اهالي محافظة النجف وذهبنا معاً إلى محافظة النجف والتقينا مع شخص لازلت لحد اليوم أجهل أسمه. كان صاحب محل صغير في زقاق ضيق جداً من أزقة النجف وبعد التحية قال له نزار نريد "الكبة" فسلمنا 800 رصاصة سمينوف. عدنا إلى بغداد وافترقنا في منطقة كمب ساره. دخلت المعسكر في تمام الساعة الثامنة مساءاً فألتقيت حسن وكان معه جليل خرنوب والعريف حسين محمد حسن. سلمت " الكبة " أي " الرصاص" إلى حسن فقال (عاشت ا?ديكم) ثم كلفني بالذهاب إلى بيت خضير الشمري الذي يعمل في معمل الزيوت فأجبته بأني متعب جداً بعد أن ارهقني طريق النجف. قال حسن " ابو جواد تحمل هذه الليلة ستكون ليلة المصير" اذهب إلى خضير الشمري وعليكم قطع اسلاك الهاتف بين بغداد والمعسكر لم نكن نملك سلماً فتناوبنا بصعود كل منا على كتف الاخر وقطعنا جميع الأسلاك بين معمل مشن والمناطق المجاورة للمعسكر. عدنا إلى بيتنا في تمام الساعة الحادية عشرة والنصف مساءاً. فوجدت حسن مع شخصين آخرين بأنتظارنا. أخبرته بأنجاز المهمة. طلب مني ملابس عسكرية للشخصين اللذين برفقته وهما?كل من الرفيق خزعل بداي والرفيق جاسم محمد وكانا يعملان في بلدية العاصمة. ارتديا الملابس العسكرية وخرجوا جميعاً من البيت فقال حسن " ابق في البيت واسترح قليلاً وعند سماعك الرصاصة الأولى ادخل المعسكر من الباب الشمالي وتبقى كلمة السر "كبة"

 

فجر 3/ 7/ 1963

استرخيت على بساط متواضع بأنتظار رصاصة الثورة وكان ذلك اطول وقت في حياتي كأن الساعة توقفت والزمن لا يمضي والقلب ينبض قلقاً أو فرحاً لا اعرف ما اسميه وحيرة الام التي تجهل المصير الذي سيقود ابنها ومصائر الرفاق الذين تعرفت عليهم من خلاله. في الساعة الواحدة والنصف فجر يوم 3/ 7/ 1963 انطلقت الرصاصة الأولى لتعلن بداية الحركة التي كنا نسميها ثورة. ركضت إلى الباب الشمالي فوجدت الرفيق جاسم محمد مع بعض الرفاق قد استولوا على الباب عندها سلمني جاسم بندقية "سمينوف" وقليلاً من العتاد ثم ذهب الرفيق كاظم محمد فوزي مع مجموع?ه وأسر ضابط الخفر مع عشرة جنود. جاء حسن سريع مهرولاً نحو الباب الشمالي وقال " لا تقتلوا أحداً ضعوا المعتقلين في السجن. واحرصوا على عدم الرمي عشوائياً لقلة العتاد" وضعنا المعتقلين في السجن الذي هو بالأساس عبارة عن غرفة طويلة لحرس الباب الشمالي. كنا مجموعات عدة وكان حسن هو المدبر والمحرك والموجه الوحيد لتلك المجاميع. وقد استطعنا السيطرة على المعسكر وأسر الجنود والضباط بأستثناء سجن رقم واحد الذي كان هدفنا الأساسي لوجود الكثير من الضباط الشيوعيين بداخله. كان السجن محاطاً بأسلاك شائكة عالية ومحصنة جيداً وقد هرب?بعض جنود المعسكر وتخندقوا خلف الأسلاك مما ادى إلى صعوبة اختراقه فظلاً عن مقاومة حرس السجن. استمر تبادل أطلاق النار بيننا ما يقارب ثلاث ساعات. مع الفجر اقدمت علينا عجلة نوع " رانج روفر" تحمل ثمانية أشخاص من الحرس القومي. رمينا بأتجاههم عدة اطلاقات فتوقفت العجلة واستسلم افراد الحرس القومي. أخذنا اسلحتهم نوع رشاشة " استرلنك امريكي" وذهبنا بهم إلى السجن. بعد ما يقارب نصف الساعة اقدمت علينا عجلة ثانية تحمل أثنين من الضباط. وجهنا عليهما فوهات بنادقنا وطلب منهما الرفيق حكمت عبد الامير المشهداني بأن يستسلما. كان ?حدهما منذر الونداوي ومعه ضابط آخر يضاف إلى سائق العجلة. ذهبنا بهم إلى السجن ايضاً. بقيت ساحة القتال محصورة بيننا وبين حراس السجن بعد أن استطاع الرفيق كاظم محمد فوزي أسر ما تبقى من جنود مقر لواء ( 15). بدأ عتادنا ينفد بالتدريج إلا أن المعركة مستمرة ومع الصباح جاءت سيارة ثالثة تحمل حازم جواد وزير الخارجية عهد ذاك وشخصاً آخر يضاف إلى السايق أيضاً. فحاصرناها ببنادقنا فطلب منهم الشهيد موزان عبد السادة البالغ من العمر خمسة عشر عاماً بأن يترجلوا ويستسلموا، ثم قادهم الرفيق فريح يهودي إلى السجن. علماً أن الرفيق فري? يهودي لا يزال على قيد الحياة. ما يقارب الساعة السابعة صباحاً إقتحمت الباب الشمالي مدرعة يقف على فتحة مدخلها " عبد السلام عارف" رئيس الجمهورية عهد ذاك وقد إستخدموا رشاشة دوشكة المدرعة التي صبت نيرانها بكثافة نحونا وتبادلنا اطلاق النار فأستشهد الرفيق طاغوت حاتم وأصيب الرفيق تركي حرمش اصابات بالغة في قدميه، بعد ذلك ضعفت مقاومتنا ونفد عتادنا ودخلت أربع مدرعات إلى المعسكر واحاطت بنا وكان مع المدرعات احمد حسن البكر. وطلبوا منا الاستسلام، منا من استسلم والبعض الأخر تمكن من الهروب. بعد مدة قصيرة القي القبض على ا?جميع فتم توزيعنا على معتقلات الوحدات العسكرية لغاية يوم المحكمة.

 

30 تموز 1963

عقدت ما يسمى محكمة الثورة جلستها برئاسة الحاكم " شاكر مدحت السعود" وعضوين لم اعد اذكرهما والمدعي العام النقيب "راغب فخري"
سأل الحاكم الشهيد حسن سريع:
لماذا قمتم بهذه الحركة؟
أجاب الشهيد: رداً على ظلمكم وثاراً لشهدائنا في انقلاب 8 شباط.

ما هو دورك؟

أنا المسؤول الوحيد عن الحركة وأتحمل كافة عواقبها والذين معي أبرياء أرغمتهم على ذلك.

هل كنت تريد أن تصبح رئيساً للجمهورية؟

كنت أريد أطلاق سراح الضباط المعتقلين ظلماً وأسلمهم المسؤولية.

بعدها سألنا الحاكم واحداً تلو الأخر وكانت محكمة صورية. ثم حكم على واحد وعشرين منا بالأعدام، اتذكر منهم:
حسن سريع، جليل خرنوب، كاظم محمد فوزي، كاظم بندر، كريم.. نسيت أسم ابيه، صباح ايليا، حكمت عبد الأمير المشهداني، عريبي محمد ذهب، علي محمد ذهب، متي اصطفيان، كاظم شنوار حسن.
واخرون لم اعد اذكرهم بعد أن مضى على ذلك التاريخ اكثر من خمسين عاماً.
ايضاً حكمت المحكمة بشنق الشهيدين خزعل بداي وجاسم محمد. وهؤلاء شهداء الوجبة الأولى.

بقيت في المعتقل مع خمسة وثلاثين شخصاً بعضهم من الرفاق والبعض من الذين شاركوا مستقلين من الفقراء الذين اصابتهم سياط المستغلين. في الوجبة الثانية تم اعدام الشهيدين رمضان ابراهيم وجودت مهدي وثلاثة شهداء أيضاً لم اعد اذكرهم. كان المفروض أن أعدم في الوجبة الثالثة لكن أرادة الله والقدر اكبر من ارادتهم. حيث حدث ما يسمى ردة تشرين ففي (18) تشرين الثاني انقلب عبد السلام عارف على الحرس القومي والبعثيين. بعد الفوضى والقتل والخراب الذي شهدته البلاد أيام الحرس القومي ثم تم تبليغنا برفع عقوبة الاعدام عن المتبقين منا. في ?1/ 5/ 1965 اعيدت المحكمة وحكمت علينا بعقوبات متفاونة حيث حكم علي بالسجن لمدة ست سنوات قضيت منها سنتين في سجن رقم واحد وثمانية أشهر في نقرة السلمان وما يقارب سنتين في سجن العمارة وقضيت المدة المتبقية في سجن الحلة.

ولدي بعد هذا ما يلي:
اولاً: رئيس العرفاء المدعو " جلوب اخلاطي " يعمل في القوة السيارة كان معي في السجن وحاول الهرب وتم رميه بالرصاص من قبل الحارس المدعو كشاش دخيل وفارق الحياة في الحال.
ثانياً: نائب العريف " زين الدين سيد أمين" تم قتله داخل السجن من قبل الحارس الجلاد علي خليفة بعد أن ضربه بقضيب حديدي. وهذان الشخصان ما يزالان مجهولي المصير ولم اسمع أو أقرأ عنهما.
أخيراً اعتذر من الرفاق الذين لا زالوا على قيد الحياة أن نسيت أسماءهم، كذلك أعتذر من عوائل الشهداء أن نسيت بعض الشهداء أيضاً والذي ذكرته هو كل ما تخزنه الذاكرة. مع شكري وتقديري ومحبتي للحزب الشيوعي العراقي على مطالبته المستمرة بحقوقنا. وعهداً أن أظل على الطريق ماحييت ورجائي عدم تشويه حقيقة الحركة أو حشد اسماء غير موجودين اساساً.

قبل ان يغادر مقر الجريدة رجوته بألحاح أن يحل اليوم في بيتي ضيفاً عزيزاً ومكرماً. اعتذر وتعانقنا. ذهب الرجل وبقيت في المكتبة أراجع الأوراق التي تمتد إلى خمسين عاماً خلت وستمتد إلى أجيالنا المقبلة.

ما أسرع الأيام وما أقصر الزمن. والشيء الذي فاتني ولا زلت ألوم النفس عليه هو عدم التقاط صورة له.

أبطال انتم أيها الشيوعيون خالدون إلى الأبد.