أرصفة الجحيم واشكاليات السرد / حميد حسن جعفر

"1"قبيل قراءة "أرصفة الجحيم" لـ "صالح مطروح السعيدي"، وضمن ما أحمل من تصورات مسبقة حول الكاتب، لا حول الكتابة، من خلال آرائه حول المتوفر من حالات إبداعية في الرواية والقصة القصيرة، وغياب قناعاته بما يُكتب أو يُنشر الآن. عبر هكذا تصورات هيأت نفسي لقراءة مختلفة لنص سردي مختلف ـ هكذا كان الاستعداد ـ نص يتمحور حول بؤرة أو مجموعة بؤر لنص سوف يدفع بالقارئ الى متاهات الحروب.

كنت أتصور أن "السعيدي" سوف يعيد قيامة الحرب التي اختزنها من خلال تأديته للخدمة العسكرية من جهة، ومشاركته في جبهات القتال من جهة ثانية، وامتلاكه لتجربة الكتابة القصصية التي تدور حول الحرب من جهة ثالثة.
***
قد تشكل المناهج الحديثة في الكتابة السردية، وفي ظل شطبها أو تغييبها للكثير من مرتكزاتها بدءاً بالبطل ومروراً بالحدث وانتهاءاً بغياب النهايات.
قد يكون التغييب هذا وفي تصور العديد من الكتاب مناسبة لكتابة خالية من الالتزامات، خالية من الخضوع للتساؤل. هذا الغياب أنتج وعلى يد الكثير من المهتمين بالكتابة، أنتج حالات من الارتباك والفوضى التي تلبس الفعل السردي.
هذا الارتباك الذي أصاب النص السردي، أصاب كذلك جنساً ابداعياً آخر، اعني به قصيدة النثر، أو النص المفتوح. وذلك بسبب غياب منهجيات الكتابة الكلاسيكية: أوزان الخليل بن احمد الفراهيدي والقافية والروي ونظام الشطر والعجز. هذا الغياب عمل على أن يندفع الكثيرون من أنصاف الشعراء وضمن تصورات غير صحيحة في كتابات لا تنتمي للشعر ولا للقصيدة الحديثة، قصيدة النثر والنص المفتوح.
إلا أن غياباً كهذا أو كذاك اوجب وجود حالة تعويض.
أي اوجب وجود بدائل للمحذوف أكثر قوة وقدرة وادراكاً. بدائل تعويضية لما يفقده النص السردي في هذا الجانب أو ذاك.
وبذلك تتحول التصورات السهلة الى صعوبات، ويتحول النص السردي حسب الكتابات الجديدة الى معضلة لا يمكن تجاوزها على أيدي غير المبدعين عبر صناعة المتاهة. أو عبر حال لا تنتمي الى النضوج والكفاءة.

"2"
أنا أعتقد ـ كقارئ ومتابع ـ إن الراوي العليم ـ هذا القناع السردي ـ يجب أن يكون ممتلكاً لأدوات السرد كما الروائي؛ إن لم يكن أكثر قدرة على إدارة شؤون القص. والسارد العليم ما هو إلا حالة وهم بإمكانها أن تقول ما لا يقال.
إنه شيطان السرد. كتـّاب السرديات كثيراً ما يحولونه الى مؤلف آخر. يمنحونه الذخيرة والخبرة وحرية القول ومعارف ومخيالاً. هكذا سارد، وهكذا راوٍ، قد يتمكنان من إنتاج نص روائي متميز.
إلا إن التقليد وضمن التقنيات الحديثة لا يمكن أن ينتج فعلا إبداعيا مهما كان هذا التقليد/ الاستنساخ ملفتا للنظر مثيراً للدهشة.
الراوي العليم ـ الذي كان عين الكاتب على ما يدور حوله ـ في "أرصفة الجحيم" لم يستطع أن يمسك بيد الروائي ليدله على طرق الكتابة؛ لأن الراوي العليم يقف ـ هكذا يجب أن يكون ـ خارج السلطات غير الإبداعية، خارج الممنوعات، وليس من المفروض أن يكون نسخة طبق الأصل من الكاتب. وإن كان الروائي ممتلكاً لحق القول. بل وحتى الروائي نفسه عندما يكون خائفاً على نفسه من مخلوقاته ومحاولات تمردها على سلطته وعلى قوانين الكتابة. وعلى القارئ أن يعلم إن الراوي العليم هو من مخلوقات الكاتب حاله حال بقية الشخصيات. وربما يشير أو يعترف العديد من الكتاب بقدرة هذه الشخصية أو تلك على الخروج على الخط العام للأحداث كذلك الحال مع الراوي العليم.
علماً إن فعل الحرب كثيراً ما يعتمد على التجربة الشخصية أولا، وعلى الجمعية ثانياً، في صناعة السرد. و"السعيدي" ربما يمتلك أكثر من تجربة في هذا المجال.
للروائي في الكتابة عن الحرب إشكالية مزدوجة، الأولى علاقته هو بالحرب، والثانية علاقة القارئ بها.
معظم القراء وربما جميعهم اكتوى بالحروب، والكاتب ليس ببعيد عن هذا المفصل. إنه يكتب عن حياة معاشة، عن حرب دخلت البيوت وغرف النوم والشوارع وبيوت الدعارة، كما دخلت المدن والقرى؛ وتركت دويها على محطات توليد الطاقة الكهربائية. وعلى الجسور ومدارج الطيران ومراكز الاتصالات السلكية واللاسلكية. وتركت طعناتها على أجساد الكائنات البشرية على شكل سيقان وأذرع صناعية، وعلى شكل إصابات جماعية بالسرطانات: دماً وأثداءاً، وأجهزة تنفس. فالحرب ما كانت ولن تكون كائناً غائباً، غير مرئي، بل كائن يشكل أكثر من فرد من أفراد العائلة العراقية.
وبالتالي فإن أية كتابة لا تخرج عن هكذا قانون "سرير بروكروشي" لا يمكن أن تشكل حالة استفزاز لمدخولات القارئ السردية.
***
هل استطاعت أرصفة السعيدي "أرصفة الجحيم" أن تخرج عن هكذا إشكالات؟ لتقول أو لتتحدث عن أشياء مهملة أو عن مخبوءات غائبة. فالحروب في شرقنا لم تكن حروباً مغلقة؛ بل كانت مكشوفة بكل معنى الكلمة.
أي إنها لم تكن حروب مخابرات أو استخبارات، أو حروباً باردة، ومحاولات الضرب تحت الحزام. لقد كانت لعبة عسكرية مارسها الجميع ـ جميع الأطراف ـ إذ إن هناك أكثر من طرف يقف خارج الدولتين المتحاربتين، لعبة متفق عليها تقف خارج الوطن والمواطنة. بل استطاع كل من الطرفين الأساسيين من تثبيت سلطانهما بدعوى الدفاع عن القيم والمبادئ والأخلاق وقدسية التراب.
انها الحرب التي تشتغل على الماضي؛ لأن المستقبل لم يكن مبحثاً من مباحث القائمين عليها.
***
لقد كانت الكتابة لدى "السعيدي" وضمن "أرصفة الجحيم" كتابة عن الفوق/ الخارج، وليس عن التحت/ الداخل.
أي إن الباحث/ القارئ لا يحتاج الى صناعة الحفريات، وبالتالي فالكتابة هنا تشكل آثاراً ظاهرية وليست باطنية. أي إن القارئ لن يتعب نفسه طويلاً للبحث عن العلل والأسباب وعن المسببات والنتائج.

"3"
من الممكن أن يشكل الراوي العليم طرفاً مهماً في نسيج السرد، فهو لا يكتفي بأن يكون "عين الكاميرا" أو كائناً ناقلاً، بل نجده وله من الحصة في تكوين الشخصيات ما يوازي سواه. وقد يكون كائناً هلامياً، كما في "أرصفة الجحيم". قد يمسك القارئ ببعض ملامحه، وقد ينفلت هذا الكائن من بين يديه تاركاً إياه وحيداً لائذاً بالقراءة. الراوي العليم هذا قد يكون القاص/ الروائي نفسه.. أو قد لا يكونه. الراوي العليم بين يدي "السعيدي" كائن مهووس باللغة، بالتفاصيل، لا يترك كبيرة مركونة عند أقصى الرصيف، ولا صغيرة تتماهى خلف سواها.
ورغم عدم وجود الحرب كفعل قائم في تلك اللحظة، كما في الاستهلال (لقاء) ص9، و "حكايات"، أو وقوفها خارج كائناتها ـ الجنديين الاحتياط ـ العريف الاحتياط الدرع اسعد فيضي عبد الكريم، ونائب العريف الاحتياط الدرع صفاء شاكر عمران.
إلا إن منتجات الحرب على المستوى الاقتصادي والبيئي كانت واضحة تملأ المكان. قد يتساءل القارئ: هل كان الروائي أو من ينوب عنه يحاول أن يقدم للقارئ وعبر منظار اقتصادي عرضاً تفصيلياً لتفاصيل قد تنتمي الى الدقة، عن اقتصاد ثابت غير قادر على مسايرة المتغيرات. والمتغيرات هي الحروب.
الروائي لا يعمل على تبرير أفعال كهذه ولكنه كثيراً ما يعمل على بيان مسببات هكذا وقائع.
هل من الممكن أن تشكل اللغة بديلاً للفعل؟
ما يقوله الراوي العليم من لغة تحاول الإحاطة بكل ما يدور في فضاء الواقع المنقول من على الأرض الى صفحة الورقة.
اللغة تقول كل شيء. هذا الكل شيء من الممكن أن يشكل أكثر من تعويض للحراك. المدينة، وساحاتها، وما تحتلها من مفردات الحروب؛ تكاد تتحول الى متحف للمفردات الحربية. قد ينتمي هذا الشكل في الكتابة الى ما يطلق عليه الكتـّاب والروائيون "الشيئية".
القارئ المأخوذ بالمفردات وبالجمل الطويلة الوصفية، من الممكن أن يتخلى عن مطالبته للروائي بإنتاج فعل قادر على صناعة الاختلاف. لا لأن القارئ كائن ساذج ولكن لأنه هنا كان مقتنعاً تماماً بأن اللغة تكاد تكون المعادل الموضوعي لفعل الحرب.
اسعد فيضي عبد الكريم عريف الدرع الاحتياط، وصفاء شاكر عمران نائب العريف الدرع الاحتياط؛ لم يقدرا أن ينتجا فعلاً، وطيلة الفصلين الأول والثاني. بل كانا وسيلة الكاتب في الكشف عن المكان. وليلاحظ القارئ قدرة القاص على إنتاج المغايرة لغوياً "استدار بهما الشارع نحو اليمين، هناك تلقفهما آخر ضيق أفضى بهما الى أزقة متداخلة وضيقة مليئة بأطفال يشكلون مجاميع متفرقة". هذه الجملة تستمر بالانهمار الى ما بعد أكثر من مائتين من الكلمات؛ وهي خارج موقف الجنديين.
القارئ سيجد أن الشارع هو الذي يستدير بهما، وإن آخر يتلقفهما، ليفضي بهما الى أزقة، هذه الأزقة متداخلة، ضيقة مليئة.
لا يد للجنديين بما يحدث، ولا يد للروائي بما حدث.
إلا إن الأشياء هي التي تأخذ دور الكائن الحي في إنتاج الحراك.
الجملة الطويلة ليست بالفعل الغريب على تجربة "السعيدي" الكتابية؛ بل تشكل ملمحاً وعلامة فارقة، منذ أكثر من عقدين من السنين.
من الممكن أن يكون رجوع القارئ الى "الضفاف المتوحشة" مجموعة الكاتب القصصية الأولى.
عبارة طويلة تتجاوز المعتاد. لا نقاط للنهايات. العبارات، الكلمات تندفع بقوة قد لا يكون القارئ قادراً على متابعة المكتوب/ المقروء.
هذا الإحساس من الممكن أن يكون قد انتقل اليه ـ الى القارئ ـ من خلال تأثيرات الكاتب. فـ "السعيدي" مأخوذ باللغة، بالجملة الطويلة، بمحاولة وضع اليد على جميع الموجودات مرةً واحدةً.
قد يتساءل القارئ ثانية وعاشرة: هل إن "أرصفة الجحيم" محاولة كتابية لإعادة إنتاج الحروب وقيمها؟ أم إنها كتابة عن الحرب وما تنتج!
هل هي إشادة أم إدانة؟
القارئ لما يكتبه صالح مطروح السعيدي، هو منتج للأسئلة، وصولا الى الجينات المنتجة لـ "معارك المصير". كما يحاول أن يفعل منتجو الحروب.
***
عند نهاية ما يمكن أن نطلق عليه الفصل الأول والثاني "لقاء"، و"حكايات وادي الموت"، فالروائي بدلاً من الترقيم اشتغل على العنوانات.
عند نهاية العنوان الأول والثاني يضع القارئ يده على واحدة من التقنيات السردية التي يعمل الروائي على الاستفادة من قدراتها على نقل الحدث، أو نقل الصورة.
هي تقنية سجل الذكريات. ولأن هذه الذكريات لم تكن مدونة في الأساس، فسوف يعتمد الروائي على المشافهة. لأن الاعتماد على الذكريات المكتوبة يُدخل النص في تقنية سردية أخرى هي تقنية الرواية داخل الرواية، أو تقنيات ما بعد الرواية.
في نهاية الفصل الأول "لقاء"، يشتغل الروائي على إنتاج المكان. من الممكن أن تكون الأحداث هي التي دفعت به الى مسلك كهذا، وهو الخروج من المكان، المقبرة، والدخول في المكان/ المعسكر. هل كان السارد يعمل اخبارياً على أن هناك مقبرة أخرى يتحتم على أفراد السرد الدخول اليها؟ واعني بالمقبرة الأخرى هي الخنادق، السواتر، خطوط المواصلات، الموت المحتمل. كل شيء جائز في عالم السرد المعاصر.
والروائي في يومنا هذا غير ملزم، وغير ملتزم، بأركان السرد.
فانكسار الخطوط المستقيمة للسرد أمرٌ واردٌ. وتعدد الأحداث، وتعدد الأزمنة والأمكنة والتلاعب بحيوات كائنات السرد، والإقصاء أو الاستحضار، وصناعة الذاكرة وانعدام النهايات. كل هذا من الممكن أن يشكل جانباً أو لا يشكل أي شيء من هيئة السرد.
ليعد القارئ سؤاله: هل من الممكن أن تكون الصفحات الأولى من "لقاء" و"حكايات" هي مجرد استهلال لما سيحدث، ومحاولة تمهيدية لسحب القارئ من الواقع المعاش الى اللاواقع. من المدينة كمنجز حضاري/ مدني، الى اللامدنية كمنتج حربي غير متحضر.