كانت لي خالة رائعة، واحدة من جيل ما مر، وأحسب أنه لن يمر مثله قط بعد الآن ، كانت هذه الخالة جامعة متنقلة، لها حديث يأخذ بمجامع القلوب، غني، مكتنز بكل ما هو رائع ، ونبيل وعظيم.
ومن بين مئات الصور المحفورة في الوجدان ، كانت صورتها بوجهها الملائكي الطيب، حين تروح في وله عجيب، وصوفية خارقة، ومفردات يعجز أكبر مهتم بشؤون المسرح من أن يأتي بمثلها، عمقاً ودقة، تصف حدثاً ـ عرضاً ـ يتيماً شاهدته مرة واحدة، فصار بنظرها هو المسرح وهو فن التمثيل، وظلت حتى ماتت لا تمل الحديث عنه.
كان هذا الحدث هو حضورها في الخمسينيات مسرحية ـ آني أمك ياشاكر ـ وعنوان المسرحية، الذي جاء بصيغة الإنتخاء، صار شعاراً، فأن لشاكر آنذاك مئات الأمهات اللواتي يشبهن أمه، أمهات جمعن في أهابهن تلك الطيبة التي لا أدري كيف فقدنها أمهات هذا الزمان، فقد كن أولئك ، يفضن حناناً وحباً هو خلاصة عصور الأمومة كلها، وثورة جامحة كانت تستمد عرامتها من دهور الجور والفاقة، وتمخض وجودهن عن سِيَر أعجزت كل أبداع، ولكل واحدة منهن سفر تضيء صفحاته بجلائل الأعمال التي ستبقى محل فخر أبنائهن ويزين صفحات مجدهن حتى بعد رحيلهن.
بعد عرض ـ آنى أمك ياشاكر ـ تحولت زينب ويوسف العاني بنظرها لا الى ممثلين فحسب ، وإنما الى رمزين تجاوزا الزمن، وظلت على عشقهما حتى رحلت عن دنيانا، ولم يفلت منها بعد ذلك عمل واحد في التلفزيون ليوسف العاني، أو زينب.
لن أنسى ما حييت، منظر حبات اللؤلؤ التي أنسابت على خدها، ومسحتها على خدي، يوم عُرضت تمثيلة ليوسف العاني، مثل فيها دور شخص متخلف عقليا، كانت زوجة أبيه تمارس ضده سلوكاً متمادياً بالاضطهاد، كانت تلك الشخصية واحدة من عشرات الشخصيات التي حفلت بها ساحة خياله ـ الذي بوسع الكون ـ وحولّها بتمثيله وبقلمه الذي لم يشاركه فيه غيره حتى الآن، الى شخصية متفجرة من لحم ودم، أنه يرسم شخصياته بطريقة تجعلها تنفث ناراً مثلما تسيل عذوبة ، فيستنزل دمعاً، والدمع الذي يفجر منابعه الكبير يوسف العاني، دمعاً مطهراً، ولكنه يلقي بجمرة الثورة ، في نفس الوقت، ولم يكن أحد غيره يستطيع أن يفعل ذلك بتلك المهارة وذلك اللهيب الذي كنا نستشعر لفحه في ثنايا القلوب.
من منا ينسى أو لا يتذكر "رائحة القهوة" التي مازال عبقها يفغم أرواحنا حتى اليوم، من منا ينسى دعبول والشريعة، أو عبود يغني، أو سعيد أفندي، في فيلم مازال الى الآن، يشكل الملمح الأكثر أهمية، فكراً وأبداعاً ، في تاريخ السينما العراقية، من منا لم يشعر أن يوسف العاني في "نفوس" هو عمه أو خاله، من منا ينسى "بلابل" التي عرضها التلفزيون في طوفان التفاهة والإبتذال الذي مسخ به نفوسنا وأرواحنا، فإذا هي واحدة من مفاخر الدراما العراقية.
ولو بقينا نعد فسنحول هذه السطور الى "سي في" تتوهج مفرداته بأعظم وأهم محطات الدراما العراقية على مدى أكثر من أربعة عقود.
لقد كان أسمه ماركة مسجلة للجودة والأتقان ، ما من عمل كان يحمل توقيعه إلا وقد أستأثر بكل وجداننا وملك علينا حواسنا، وحتى بعد أن ينتهي كنا نبقى مسمرين في وجد صوفي، نستجلي معاني ما قاله، وننبش عما أراد قوله ولم يقله، ولكننا سمعناه بوضوح، يوم كان للكلمة ثمن، وكان الناس يحاسبون حتى على نواياهم ـ من حراس النوايا.
حين تصيبنا الدراما العراقية اليوم بالقرف، كتابة وتمثيلا، نفتقد يوسف العاني، كاتبا وممثلا، فهو في تمثيله، أمة وحده، لم يتكرر، فبعفوية آسرة، وتقمص حد التماهي، ورشاقه كفراشة، يروح يختال على خشبة المسرح أو بلاتوه التلفزيون أو السينما، فأذا هو شمس والآخرون كواكب، يأخذ بأنفاسنا فيحبسها دهشة، ويتدفق سيالا، فنتسمر إزاء هذا الأنثيال، الذي يشبه دجلة في عز خنيابه.
يوسف العاني وقد حمل على كاهله مجداً فنياً يرفع الراس ـ راسه وراس بلده ـ وطرز سنين بغداد بالفن العظيم الراقي والخلاق، والذي كان يستثير أطهر مافي النفوس والضمائر، وقدم أخلص وأهم الجهود الفنية من خلال مسرحه وفنه، كان حري بنا أن نمد اليه قلوبنا وأصابع ضمائرنا، في محنته التي ألصقت بنا عاراً كبيراً، عار الجحود، والتجاهل، وأثبتت للمرة الألف أن هذا الوطن يأكل أولاده المخلصين بوحشية، تعف عنها الضواري، وأن مايكتبه المبدعون فيه من مجد على صخر الزمن يصير في الختام كالرقش على الماء، إن مشاعر المحبين وحدها قد تمسد على الجرح لكنها بالتأكيد لن تبرئه، وفي زمننا هذا زمن كوليرا الفوضى والخراب ، يكون على المبدعين الذين لايأتون الى عالمنا إلا كل دورة زمنية طويلة ، إن يدفعوا الثمن "أمربع".
مسك الختام
كلما وقفت أمام إسم ـ يوسف العاني ـ أقول لله درك ياعانة، نقطة على الخريطة، وبحر بلاساحل في وجدان العراق، وعلى لوحة فسيفساء مجده تضيء مئات النقاط المضيئة، المتوهجة التي أنزلقت منك لتستقر عليها، ولكننا نستميحك عذراً اليوم، في أن نقول أن يوسفك العاني ـ هو يوسف العراق بأمتياز.