سرديات ما أهمله التاريخ (1-2) / حميد حسن جعفر

"1"تداخل الحكايات المروية لابد لها من صناعة سند مهم من سندات الكتابة المختلفة. هذه التداخلات تعتمد بالأساس على وجود أحداث يستند بعضها على البعض الآخر، وصولا الى تشكيل حالة سردية مختلفة، إضافة الى قدرة السارد على صناعة الخرق/ الإزاحة.
حالة السرد هذه لدى (زيد الشهيد) حالة مقصودة/ مبرمجة "مدسترة" وفق دستور الكتابة. فالأحداث في (أفراس الأعوام) لا تنتج أحداثا مثلها، أي إن تراتبية الوقائع لا وجود لها. إذ إن تعدد الرواة، وتعدد الحكايات، يتطلب وجود معمارية كتابية لا تعتمد البراءة/ السذاجة في الكتابة؛ بل تعتمد بالأساس على مخطط كتابي تعتمده شخصيات النص.
(زيد الشهيد)/ السارد لا يعمل على صناعة سلطة سردية شاطبة للآخرين، بل إنه يعمل على إسقاط ديكتاتورية السارد الكلاني/ العليم. فسارده الذي يتقدمه على أرض السرد يمتلك من الطيبة الجميلة التي تدفع به الى أن يتخلى عن مجلسه/ كرسيه السردي الى سواه، لحظة وجود سرديات أخرى قادرة على إسناد قدراته في صناعة نص سردي يعتمد المثابرة.
*****
لقد كانت مخططات السرد بقدر ما تمنح السارد وشخصياته من الاندفاع بصناعة نسيج القص، فهي توفر للروائي حالات من التأمل لحيوات أبطاله ـ سكان الرواية ـ . وبقدر ما فيها من فضح وإفشاء وكشف ومباشرة، فيها من المطموس والمهمل وما يفيض على القارئ من أفكار وتأويلات وتأملات، يتمكن عبرها من استقبال العديد من المتون الحكائية التي تفنن الروائي بدسها بين الوقائع والأحداث.
قد لا تكون شخصيات القص هي البطلة، هي التي تتحرك وحدها في جنبات السرد، بل إن الحياة ذاتها قد تتماهى خلف ما يدور، إلا إن الموت يكاد أن يكون البطل الوحيد القادر على صناعة الحدث، وتعدد وجوهه، وكثرة نزوعاته، نحو الظهور في كل الأوقات. وحيث يشاء من الأمكنة. هذا البطل الوهمي ـ رغم وجوده الحقيقي ـ تمكن من الانسان الذي يعيش فوق هذه البقعة الجغرافية وأعني بها قضاء السماوة/ محافظة المثنى. من بعد المدينة التي تتربع ـ جلوسا ـ واستلقاء على نهر الفرات، وعلى جسد الصحراء في آن واحد.
عند نقطة التناقض هذه، يبدأ السارد ولا ينتهي، حيث البداوة والمدنية، حيث الجمع بين العربي والعصملي، حيث الشرق والغرب، المنتميين الى وحدة الجغرافيات. ولأن السارد كان متفتح الذهن والرؤية والأفكار، فقد تمكن من أن يقول الكثير مما لديه بعيدا عن الممنوعات. فالمدينة ذاتها رغم الموت كانت تتمتع بالجم/ الكثير من الأسباب التي تدعو الى ممارسة الحياة وباندفاع. رغم التحكم الظاهر بالنسيج السردي ـ بالنسبة للقارئ ـ إلا إن السارد يعمل وبطريقة "الدس" على توفير أكثر من وسيلة تهيئ لعملية السرد أكثر من شخص قادر على سحب القارئ لصناعة عملية التواصل.

حكاية:
هناك حكاية يرويها واحد من الرواة. تقول الرواية: إن كل ديكتاتور أو طاغية أو مستبد، يقف وراءه رجل يدّعي الدين، وعلى غرار وراء كل رجل عظيم امرأة. وكان مدعي الدين يبرر أفعال المستبد، بل وكثيرا ما يصدر الفتاوى التي تدين أفعال العامة من الناس، وتبرئ ساحة الوالي/ الديكتاتور.
في يوم ما وجد رجل الدين هذا أن المستبد لم يكن سوى كائن مملوء بالخواء. ومن غير تعكزه على قيم وفتاوى رجل الدين، لم يكن سوى فزاعة "خراعة خضرة". عند هذه النقطة قرر رجل الدين أن يزيح المستبد السياسي/ الديكتاتور، وليتحول هو الى القائد الشمولي المستبد. انتهت الرواية.
قد تكون السياسة بوجهها القبيح واحدة من متون السرد لدى الروائي (زيد الشهيد)، الى جانب الحياة والموت، ومقاومة الاستعمار. بل إن ظهور الكولونيالية ـ حروب الاستعمار ـ بلباسها الزاهي الملون، الذي كثيرا ما يعتمد على العلم والمعرفة ومحاربة الجهل والمرض والأمية، من أجل استغلال الشعوب والأمم. حيث تبدأ مفروزات الحروب من حاضنتها الأولى ـ المحور والحلفاء ـ الى بلدان العالم الثالث، آسيا، أفريقيا، أمريكا الجنوبية عامة، والبلدان العربية والاسلامية خاصة؛ حيث يتحول الدين الى فعل سياسي.

(2)
لم يكن من بين شخصيات السرد مـَن لا يمكن أن يكون ساردا. الكل يمتلك المبرر، والجميع قادر على أن يقول ما لم يقله سواه. معظم شخصيات السرد يمتلك الذاكرة، ويشعر باليأس، وعليه أن يقول مفرغا ما في دواخله من اللوعة، ومن الأسى مما يحدث. والذي يحدث أمام عيني هذا أو ذاك، كان من الواجب أن لا يحدث، إلا إن الغلو هو وحده الذي يأخذ بيد الانسان ليدفع به الى التهلكة.
الغلو والتطرف الذي يتحرك بعيدا عن القيم والأخلاق،و (ما يمكن أن يأخذ سواي أنا أحق به)، وفق هكذا قيم ومبادئ يتحرك العديد من الشخصيات. وهذا التحرك يحدث في المنطقة المعتمة، حيث القتل والنهب والسرقة والخيانات.
*****
على قارئ (أفراس الأعوام) أن يكون نبها، وإلا ضاعت عليه "الصاية والصرماية"، ومن الممكن أن يجد نفسه وحيدا من غير دليل. إذ كثيرا ما يتحول السرد من سارد الى سارد آخر، من غير علامة فارقة.
هكذا يعمل (زيد الشهيد) معتمدا على دراية القارئ، وقدرته على المتابعة في إدارة شأن السرد. وإن لم يكن القارئ كما سبق، فإن الخسائر ستتفاقم بالنسبة للقارئ والمقروء. بل إن التاريخ الذي يتحرك وسطه الروائي من الممكن أن يخسر الكثير من مفاصله.
فالروائي يحاول أن يُوصل الكثير من المعارف، معارف تشكيل وتكوين مفاصل الدولة، مفاصل تشكيل الوحدات الإدارية للمدينة التي يتحرك وسطها. غير إن "رشقة رصاص لعلعت فجأة في الشارع" يبدو أنها قادرة على صناعة الحراك، ما بين سارد وسارد، بل وما بين مكان الى مكان، ومن زمن الى زمن. فالحوارات الداخلية، و الاسترجاعات، والتعليقات، تشكل الكثير من مفاصل الكتابة لدى الروائي.
بل إن (زيد الشهيد) يعمل على صناعة أكثر من طبقة سردية. فهنالك أجيال متعددة، وهناك ما فوق ذلك تاريخيا، وما دون ذلك في العمر والسنوات. وكل من هؤلاء يعمل ويقول وفق ما يمتلك من ذاكرة، ووعي، ومعرفة، قد تقترب من العامة، أو من الخاصة.
*****
الروائي/ الشاعر ـ صاحب المجموعة الشعرية (أمي والسراويل) ـ كان حاضرا وبشكل واضح وبيّن، وسط لغة تنتمي للشعر أكثر من انتمائها للنثر/ السرد. إلا إن الفعل السردي وقوته استطاع أن يوظف الشعر الموجود داخل اللغة من أجل صناعة فن سردي.
فكان للشعر الحضور الباذخ الذي يشكل الوجه الآخر للسرد الذي يتحدث عن عمليات السلب والنهب وحالات الخوف والرعب، والكثير من السمو والحب.

(3)
ما بين اليوم الثامن من آب 1959، يوم نهب وسلب مقر الحزب الشيوعي العراقي في السماوة/ القضاء، واليوم الخامس من تموز 1917، يوم سلب ونهب المخازن التموينية التي تديرها السلطة العثمانية متمثلة بالموظفين العراقيين، وكذلك نهب وسلب بيوت الموظفين أنفسهم. ما بين هذين التاريخين تقف الشخصية الرئيسة (جعفر حسن درجال) ليستعيد ما يفوق الخمسين عاما من الهرج والمرج والفوضى، وصعود وهبوط نجم هذا أو ذاك.
(زيد الشهيد) في روايته (أفراس الأعوام) يؤرخ سرديا ما أهمله التاريخ الرسمي. إنه يتحرك في الخط الفاصل/ المتكسر، المتداخل ما بين التحضر والبداوة، ما بين الخضوع والتحرر، ما بين الجهل والمعرفة، ما بين الثوابت والمتحركات، ما بين استعمار عثماني يعتمد الدين مدخلا لسلطانه، واستعمار انكليزي يتبجح بالتحرير: "لقد أتينا محررين لا فاتحين"، هكذا قال (مود). استعمار يعتمد المصالح القومية لدولة بريطانيا العظمى أساسا لوجوده العسكري في المنطقة.
سرد يتحرك بين ضفتي الماضي والحاضر، الحداثة و القدامة.
*****
في الصفحات: 69، 88، 124، 176.
وفي الصفحات: 184، 190، 244، 298.
في هذه الصفحات سوف يجد القارئ أن الروائي يعمل على كسر تراتبية القول عبر عملية التوضيح، أو التعقيب، أو التعليق، أو المتابعة، أو الكشف، إلفات نظر القارئ. سواء فيما يخص أفراد السرد، أو فيما يخص حياة الآخرين الواقفين خارج شجرة السرد، والتي يستظل بها ويقودها الروائي ذاته عبر تعدد الساردين. حيث يبدو تنازل البعض من هذه الشخصيات عن دورها لسواها في صناعة نسيج الحكي.
*****
إن عدم اعتراف الروائي لحظة التذكر بالنسبة لـ (جعفر حسن درجال)، ولحظة الكتابة بالنسبة لـ (زيد الشهيد) كمفصل شاطب دفع به الى أن يخوض بأمور تنتمي الى خصوصيات أفراد القص. ولتتحول بالتالي الى عموميات يعيشها المجتمع.
إن التواصل الاجتماعي ما بين (ساسون) اليهودي و (جعفر) المسلم فتح النص حالة من انفتاح الشخصيات على بعضها.
وكذلك حب ومودة (جعفر) الشيعي لـ (وهيبة) السنية.
هكذا أفعال رفعت الغطاء عما ينتمي الى الممنوع، وبالتالي أضاف لعملية القص الكثير من حالات الدهشة والاختلاف. إضافة الى تأكيد الروائي الى الإشارة وبوضوح الى ما كان له الحضور في حياة الأفراد الاجتماعية ـ التياترو ـ والدينية ـ الكنيس ـ بيت التوراة.
*****
الروائي (زيد الشهيد) يعمل على لملمة وتجميع شظايا الوقائع والأحداث. حيث يكون التاريخ مشاعا للجميع.. ولكن لم يكن الجميع بقادر على صناعة/ كتابة الضائع/ المطموس. من هذا السفر المليء بالأحداث والتناقضات. بل إن الفعل السردي من الممكن أن يتشكل عبر أجناس أخرى إضافة الى التاريخ. فهناك وضمن مساحة واسعة من الممكن أن يتشكل الكثير من جغرافيات النص السردي، هي الجنس الذي ينتمي اليه فن الرسم ونعني به جنس الفنون التشكيلية، حيث يتشكل معرض الصور المطبوعة. النسوة النحيلات، والألوان التي تسبح حولهن، ورسوم البطل الرئيس لما يدور حوله من أمكنة وأشخاص.

(4)
الروائي، ومنذ اللحظة الأولى/ الصفحة الأولى، يعمل على عدم ترك القارئ وحيدا في غابة السرد. تلك الغابة المليئة بالغموض/ العتمة من جهة، وباشراقات الشمس التي تخترق كل الموجودات، لتضيء قاع الغابة وسماواتها من جهة أخرى.
الروائي يضع بين أيدي قرائه العديد من المسابير/ المفاتيح الدالة. مجموعة من المقتبسات التي تتقدم الفصول الثلاثة المكونة لجسد الرواية. أول هذه الاقتباسات من القرآن الكريم ص4، حيث يشكل بوابة الدخول الى الفصل الروائي.
ومن ثم تبدأ الاقتباسات الفرعية الخاصة بالفصل الأول أولا، ليجد القارئ أمامه ثلاث اضاءات، الأولى لـ (نيكوس كازنتزاكي) ـ الإخوة الأعداء ـ، والثانية لـ (أدونيس) من (الكتاب الخطاب الحجاب)، والإضاءة الثالثة لـ (هرمان ملفل) من روايته (موبي ديك).
وما أن يصل القارئ ذاته الى الصفحة (115)، الفصل الثاني، ليجد ثلاثة مفاتيح، الأول لـ (غاستون باشلار) من كتابه (جماليات المكان)، والثاني لـ (أرثور رامبو) من قصيدته (المركب السكران)، أما المفتاح الثالث فهو لـ (توماس مان) من رائعته (جبل السحر).
أما الفصل الثالث فيتقدمه نصان مقتبسان، الأول من قصيدة للمتنبي، والثاني مقتبس من (ملحمة كلكامش)، ت. طه باقر.
الكثير من هذه الاقتباسات/ المفاتيح أصبحت جزءا من النص المكتوب، لا كما كان سابقا عندما يكون النص المقتبس الذي يتقدم المتن الكتابي لا يشكل سوى إعجاب الكاتب نفسه والذي يقف خارج المدونة. بعيدا عن الفضاء الفكري أو التاريخي الذي يطلع منه النص المكتوب.
قد لا يثير الكاتب بما يقدم من نصوص لسواه مرة ولنفسه مرة أخرى، إذ لابد لهكذا مقدمات أن تشكل الكثير من الهموم المشتركة.
إن الروائي/ الشاعر (زيد الشهيد) يعمل على جذب الآخر/ صاحب النص المقتبس بكل أو ببعض ما يمتلك من رؤية وهموم، وتحويله الى ما يشكل جزءا من النص/ المتن؛ وبالتالي على القارئ الذكي أن يعمل على أن تكون قراءته قراءة تتشكل من نصوص يكتبها الآخرون ومن نص يكتبه الروائي وبالتالي لا يمكن أن تقف هذه النصوص خارج النص الأم. على الرغم من إن هذه النصوص لا يمكن أن تنتمي كليا الى ما يسمى بعملية التناص. على الرغم من وجود وحدة فكرية، وهموم متداخلة ما بين الكاتب والآخر. مفاتيح الروائي هذه من الممكن أن تشكل مع ما يقوله الناشر في الصفحة الأخيرة من الغلاف، مجموعة من الخروقات المرتبطة بجسد الكتابة. حيث يتمكن عبرها القارئ من الوقوف وبمحاذاة الكاتب من أجل الوصول الى مكامن الكتابة.
لقد كان الغلاف بصفحته الأولى، وبلونه الأصفر، الذي من الممكن أن يؤشر الى الماضي، واحتوائه على فرسين ممتلئتين منطلقتين بشيء من العنفوان، وقد نثرا الكثير من شظايا حركتهما المندفعة الى الأمام وضمن بعض الاضطراب. فرسان تملآن الصفحة ـ صفحة الغلاف ـ بحركات قد تنتمي الى الفوضى؛ إلا إن ما يملا الصفحة هو خطوط منحنية لابد لها من أن تدفع بالقارئ الى ضرورة تجميع هذه الخطوط ـ النتف ـ المنفلتة من جسدي الفرسين، لتشكيل وتجميع ما لم يفعله الفنان، أو مصممة الغلاف. لتتشكل من بعد هذا وذاك ـ الغلاف بصفحتيه الأولى والأخيرة، الرسم والكتابة، مع اختيارات الروائي من أشعار وأقوال، ومأثورات، وقرآن كريم ـ لتتشكل مجموعة من المفاتيح التي من الممكن أن تشكل معابر القارئ الى أحداث النص السردي.
*****
لقد استطاع الكثير من الكتاب ـ روائيون وقصاصون وشعراء ـ من أن يحولوا الهوامش الى متون بإمكانها أن تضيف الى المتن الأصلي الكثير من الأفكار والآراء. بل إن الكثير من الهوامش الواقفة خارج مركز السرد استطاعت أن تتحول الى محيط جامع يمنع الكتابة السردية من الذهاب بعيدا عن الأطراف، عبر حالة قد تنتمي الى الهلامية وغياب الملامح. ليبدو النص السردي من بعد ذلك فاقدا لمركزية الكتابة، وليضيع "الخيط والعصفور".
إن اختيارات الروائي واقتباساته استطاعت أن توفر للقارئ نوعا من الحصانة الإبداعية، لكي لا يذهب بعيدا في صناعة التأويل، وصناعة تشظيات تصنعها القراءة نفسها، والتي قد تؤدي بالنص السردي الى قول ما لا يجب أن يقول. رغم أهمية هكذا مفصل في صناعة القراءة المنتجة.

(5)
القارئ لفصول (أفراس الأعوام) لا يمكن أن يكمل قراءته من غير أن يتشكل له رأي يحوم حول "أن الروائي (زيد الشهيد) كان على بينة من أمر الكتابة هذه. كان على بينة مما يعمل". فالشاعر الذي يحتل دواخله لم يتخل عن شاعرية اللغة، بل لقد استطاع الشعر أن يفرض الكثير من مفاصله على متن النص السردي. وأعني به "جعفر و وهيبة"، هذا المفصل المهم الذي استطاع أن يفسح الكثير من المجالات لسواه من الأحداث والوقائع.