أفراس الأعوام .. سرديات ما أهمله التاريخ (2-2) / حميد حسن جعفر

القارئ سيقول وبشجاعة الأذكياء إن الروائي كان بعيدا عن النرجسية، بعيدا عن الاستحواذ على أكثر مفاصل السرد سلطة، وأعني به سلطة السارد العليم. بل عمل على تدمير هكذا قوانين شاطبة، وانساق ثابتة. بل استطاع أن يقتطع الكثير من أدواره في السرد ليضعها على عاتق شخصياته، ليمنح النص السردي أصواتا سردية، متعددة، مختلفة الاهتمامات؛ وليتمكن القارئ من الخروج من قفص مهيمنات السارد الوحيد الى فضاء الرواة المتعددين.
فما من مواصفات خاصة يلصقها الروائي بمن يريد الحديث أو القول. وما من أحد بقادر على ذلك، أو غير قادر على تلك. بل إن الجميع بإمكانه أن يمسك بمقود القول، لتتحرك حافلة السرد غير بعيدة عن الطرق السالكة.
تعدد الرواة دفع بالروائي الى الإمساك بمبدأ تعدد الأزمنة، وتعدد الأمكنة كذلك. فالقارئ سوف لن يجد غضاضة بملاحقة تنقلات الروائي أزمنةً وأمكنةً، ليضع يده على المغايرة والاختلاف. فما من زمن واحد، وما من مكان واحد.
الرواية غير معنية بالبطل الذي يبدأ النص من بين يديه ولا ينتهي الا بين يديه. وإنها غير معنية بالمتتاليات الزمنية. بل إن تكسير الزمن يشكل مظهرا مهما من مظاهر الكتابة لدى (زيد الشهيد)، إضافة الى ما يمكن أن ينتمي الى (فن التقطيع/ المونتاج)، حيث الانتقالات السردية من مكان الى آخر، ومن زمن الى آخر.
*****
لقد استطاع فن السرد أن يتجاوز الحدود المرسومة له، واستطاع أن يدخل حقولا أخرى. قد لا يكون الشعر أول هذه الحقول، ولن تكون الفنون التشكيلية/ فن رسم آخرها. بعد أن استطاع أن يأخذ الكثير من المسرح، والكثير من الفلسفة، والسينما، والكثير الكثير من التاريخ. ليجد الروائي نفسه وسط أماكن تحاذي، وتتداخل مع اهتماماته الإبداعية. وسوف لن يكون (زيد الشهيد) آخر من يعمل على صناعة الخرق والإزاحة، بعد أن كان سواه من بدأ هكذا أفعال خارجة عن الطاعة.
*****
من الممكن أن تتحول بعض النصوص على يد الروائي الى أداة بحثية في الرسم، أو في التخطيطات، والألوان والفرشاة، بحثا في فناني الانطباعية، ومريدي التكعيبية، ورسامي الوحوشية.
بحث الروائي (زيد الشهيد) هذا لابد له من أن يذكر القارئ المتمكن برواية الروائي (عبد الخالق الركابي): (سفر السرمدية)؛ إذ استطاع هذا الروائي من توظيف معظم مفاصل الفنون التشكيلية، ومنها النحت والنصب الجدارية، في صناعة أفعال سردية تعتمد بالأساس لا على سرد الحكاية فحسب، بل استطاع أن يوظف لغة الرسم/ نص الصورة، وفنونه في صناعة نصوص سردية قادرة على إقناع القارئ على أن تداخل الأجناس بات أمرا مهما، من أجل صناعة التجاوز والإزاحات. بل إن تجاوز هكذا مفصل، وأعني به التداخل، ما عاد أمرا يقف خارج سلطة الإبداع، بل بات يشكل واقعا وسلطة مغايرة، بإمكانها أن تأخذ بيد المبدع نحو آفاق تنتمي الى مرجعيات إنسانية تمثل قدرة الانسان على صناعة المستقبل.

(6)
عبر ما يقارب الثلاثمائة وخمسا وأربعين صفحة، هي المساحة الورقية التي احتلها النسيج السردي لـ (أفراس الأعوام)، استطاع الروائي (زيد الشهيد) أن يوظف التاريخ المطموس، وكذلك التاريخ المدون، في كتابة سردياته؛ ضمن فعل من الممكن أن ينتمي في بعض صفحاته الى مبدأ "الرواية داخل الرواية"، عبر اعتماده على ما يذكره التاريخ المدون على يد المؤرخ (عبد الرزاق الحسني) في (تاريخ الوزارات العراقية). أو ما جاء في (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) للدكتور علي الوردي، أو ما جاء في سلسلة فنون الأدب الشعبي لعلي الخاقاني.
أو ما جاء شفاهيا على لسان (حمدان الناصر)، أو ما جاء على لسان الشاعرة الفراتية.
وليتحول النص السردي المعاصر في بعض فضاءاته الى مجموعة مباحث في الحياة الاجتماعية، وفي انثربولوجيات الأقوام والمجتمعات. والى منتج للمعارف، ومراصد لتطورات المجتمع، وقوة سلطة العصرنة في صناعة المغايرة.
*****
قد يتوقع القارئ عامة والقارئ النبيه الذكي خاصة، على أن الروائي من الممكن أن يقع بالمحظور، ويعيد كتابة ما كتبه سواه؛ إلا إن (زيد الشهيد) كان يقف على العكس من التوقعات التي كثيرا ما تستند الى الفعل المعاد، والمتعارف عليه. فقد كان شديد الحذر في السرديات التي يتولاها العديد من شخصيات السرد.
بل إن الكثير من هذه الشخصيات ورغم انتمائها الى التشابه مع سواها، إلا إنها استطاعت أن تتفرد عن غيرها بما تقول، وبما تنسج من قول يضعها في مصاف الاستثناء.
إن السرد الذي تتولاه شخصيات غير مدعومة بمعارف السرد، والذي استطاع الكاتب أن ينفخ في روحها فيما يقولون. استطاع هكذا سرد أن يوضح لهذا القارئ أو ذاك، على إن هذه الشخصيات لم تكن وليدة الصدفة، بل إن (زيد الشهيد) استطاع أن يصنع شخصيات وأبطالا مستلة تفاصيلها من شخصيته هو.
وعبر هكذا حنكة وحزمة استطاع أن يبعث في العديد من المخلوقات الى منبر الكتابة والحديث عن مجموعة من التجارب الحياتية، سواء في المدينة أو في الصحراء.
*****
لقد كان (زيد الشهيد) مستعدا لصناعة أو لاستحضار الرواة، فكل من لديه الرغبة في توظيف قدرته الكتابية من أجل ردم الثغرات التي من الممكن أن تطيح بالتجربة السردية التي يديرها الروائي نفسه. إلا إن التجربة التي يمتلكها (زيد الشهيد) وفرت له الخبرة الكافية في إنتاج الراوي وفق مواصفات متقدمة؛ وبالتالي استطاع/ تمكن من كتابة نصه هذا، البعيد عن السقوط في مفصل السارد العليم، وسلطة السارد الوحيد، الشاطب لكل ما ينتمي الى الشخصيات التي تدور في فلكه. تلك التي تظهر فجأة من غير سابق إنذار ـ كما يقال ـ وتختفي فجأة، بعيدا عن مطالبة القارئ لمسببات الظهور والاختفاء، سوى إن رغبة الروائي في تدمير نسق الشخصية الرئيسة.
الروائي في (أفراس الأعوام) يعمل على صناعة البدائل القادرة على توفير كمية من الإبداع. قادرة على إقناع القارئ بالفعل السردي للمؤلف.
*****
من إشكاليات السرد الحديث الجميلة هي انفتاحها على الحقول الأخرى، فما عادت الرواية صراع أشخاص وأفكار، بل أصبحت فضاء لحقول معرفية قد تبدأ بالانسان ولا تنتهي عند الماورائيات فقط، مرورا بالتاريخ والجغرافيا والكيمياء والفلك ودواخل الانسان التي لم تكتشف بعد.
هذه الخصائص دفعت بالروائي ـ عامة ـ الى أن يندفع بعيدا نحو كواكب ومجرات الحياة، بل تحول البعض من هذه التجارب الى دراسات في الحياة والكون والوجود والعدم، فاتحة الطريق لتجارب خيالية عبر تحويل اللاواقع الى واقع شديد الارتباط بالانسان.
لقد تمكن (زيد الشهيد) من أن يستفيد من عبر هكذا خروقات في جدار السرد ليملأها بمعارف عن الأرض والانسان، والنبات، والحيوان، ولتتحول الجغرافيات/ الأمكنة الى وسائل معرفية تطلق مخيلة القارئ للبحث عن الغامض من الأمور والمخفي من المسائل الحياتية.

(7)
لقد تمكن الروائي/ الكاتب من توليد مدينة مكتوبة من خلال وجود لمدينة منظورة محولا إياها الى تاريخ مكون من المعارف والإشارات والإيحاءات، مدينة تعاني من أمراض الانسان الذي يسكنها.
فقد كان قريبا جدا من مدينة تقف في المنتصف، وذلك عبر تبعيتها للتحضر المدنية من جهة وللبداوة/ الصحراء من جهة أخرى.
هذا الاقتراب/ الاندماج دفع به الى أن يكتب بعض تاريخ الصحراء، وما تمتلك من وحشية وبراءة. وبين هذا وذاك، استطاع أن يقدم مجموعة سرود في سرد واحد. مجموعة من الحيوات التي أنتجتها إشكالات الحياة في بلاد تنتمي الى بدائية الانسان الأول. رغم وجود جذورها وسط مدينة قديمة، قد تمتد الى ثمانية آلاف من الأعوام قبل الميلاد. هذا التقارب والتناقض كان ملمحا رئيسا من ملامح نهوض وانهيار المدن والأقوام التي ظهرت على سطح هذه البلاد.
*****
بعض مفاصل ما يكتبه المؤلف من الممكن أن ينتمي الى فصيلة القواميس الكتابية. حيث يطلق الروائي فيوضاته المعرفية بأمور الحياة المدنية والصحراوية. من كائنات برية ونباتات وأدوات واوان وحاجيات وأزهار وعطور وما يأكل هذا الانسان المتوحد مع الصحراء، وما ينتقي من نباتات طبية وأعشاب قد يتحول الى بزاز/ بائع أقمشة أو حداد أو بدوي يبحث عن الحبوب والبذور والحشائش.
بل من الممكن أن تشكل هذه الاهتمامات ما يشكل حالة مرجعية تاريخية لحضارات سادت ثم بادت.
إن محاولة الحصول ـ حصول الكاتب ـ على هكذا معلومة لن تجيء بعيدا عن الكثير من محاولات البحث والاستقصاء والتأكد، وصولا الى ما يمكن أن ينتمي الى الحقائق المختلفة. بل إن شخصيات النص "من بدو ومن حضر" استطاعت أن تجد لها موقع قدم واضح وسط اهتمامات الكاتب.
*****
هل كان (زيد الشهيد) في (أفراس الأعوام) آثاريا يبحث عن مدينة بائدة؟ أم انه استطاع أن يحول المدينة المرئية الى مدينة مقروءة!!
هل كان يكتب عن المكان أم الانسان أم عن القدر؟
هل كان يكتب عن شراسة الانسان وبراءة الآخر؟
أم إنها محاولة لدفع القارئ الى البحث عن المدينة الأخرى!! المدينة/ الحلم.
حيث يكون اللامكان هو المهيمن على مفاصل الحلم!
إنها محاولة وفعل للتخلص من الحيوان المخبوء في دواخل الانسان المعاصر. لقد كان (زيد الشهيد) يعمل على مواجهة القارئ بلبوس الروائي، بلبوس الداعية الى عالم خال من النرجسية.
إنها دعوة لممارسة الحياة، لا دعوة الى الزهد بها.