عوالم ناصر خانة / محمد الذهبي

بمبادرة من أصدقاء ومحبي الفنان التشكيلي العراقي ناصر حسن خانه افتتح بالعاصمة السويدية ستوكهولهم وعلى قاعة المرحوم كاظم حيدر في فضاء المركز الثقافي العراقي بالسويد المعرض الثاني للفنان العراقي تحت عنوان أفتراضي ( جد عنواناً لهذا المعرض) لان المعرض هو مجموعة من اللوحات التخطيطية التساؤلية ومن مراحل ابداعية متعددة يجمعها هم واحد هو الانسان بكل همومه . فالفنان يتخذ من التخطيط دراسة لما استوعبه من معنى النحت ملهمه الاول الذي تعلمه بشغف من اساتذته الرعيل الاول من مبدعي الرسم و النحت في العراق، فتجربته هي امتداد منطقي لتجارب جيل الرواد التي تؤكد ضرورة الاعتماد على قيم الواقعية وتغليفها بالرمز لتأسيس أسلوب يتناسب ورؤية الفنان.
في أعمال ناصر خانه لابد أن تكون في مواجهة ذاتك لاستيعاب التأزم الذاتي للتعبير عن الهم العام فهو يحاول أن يرسم صورة الخلاص متجسدة بخطوط فيضعنا أمام الرمز وجها لوجه دون مواربة نستطلع همومه دون إفصاح قهري او مبسط لثيم العمل الفني الذي يحاول طرحه، بل هوبفنه طارح كبير للاسئلة ويترك للمتلقي الاجابة . فالذات عنده ومن خلال ابداعه ليست هماً إنسانياً فردياً يتجسد بل هي مجموعة هموم متراكمة وحركات تعبر وتكشف عن اعماق المضمون لا تفهم الا من خلال الرمز، والرمزهنا وليد الواقع بمكوناته الذاتية كمفردة منتقاة بحس فني تحوي دلالات ذات سمات اجتماعية تختلط مع بعضها ، لكن عمل الفنان في المحصلة يشكل وحدة إبداعية متفردة في دلالات الابداع الرمزي المنحازة بشكل ظاهر للهم الفردي والمعبره عن الهم الجمعي وهنا لا بد أن نقف عند حدود الخصوصية لمعاناة الفنان الذاتية كجزء من حالة عامة انسانية تعاني . فالرمزعند الفنان ( ناصر خانه )غاية للوصول الى حالة أنسانية ، وما الفنان هنا الا واسطه للتعبير لذا نرى شحنات الابداع لديه تتكاثف بشكل قصدي بطرح هموم الانسان وبمختلف أشكال معاناته فهو يطرح الفرد كممثل للمجموع .
ان التعمق في تقصي دواخل المعاناة الذاتية للفرد يوصلنا الى حالة فحوى الاستلاب ولكن من خلال رؤية جمالية حركية تجسد تلك الذات المأزومه في واقعها اليومي ببعد لا يدخر الرمز فيهاعن الافصاح الصارخ أحيانا.
انه يستقي ابداعه من واقع يحوله الى رموز وثيم ، قد يلفها بعض الغموض لكن يفضحها بكشف تلك العلاقه عبر أسطرة شخوصه واعطائها بعدا عموميا لكنها في الواقع تعبيرعن البسيط وربما المهمل أحيانا في معاناتنا اليومية. فهو يتحرر من وثوقية المنطق التصويري ويحيلها الى رموز تحليلية واشكال تركيبية مع توفير شرط المعرفية، فيكون الموضوع لديه واقعاً يستند الى دلالة ومعنى . فالعقل الابداعي للفنان يهتم بربط علاقة الجمال بالحالة الانسانية ويكون الجسد البشري في اغلب اعماله هو الوسيط الناقل والمعبر لنقل المفاهيم الحسية الى مفاهيم حدسية عقلية تختزل المعاناة الفردية وتعممها في نظر المتلقي بغية استيعاب تلك القصدية الموضوعية والتي تجسد كما نرى تجربة شخصية لذات الفنان اشتغل عليها بتكرار متعدد الوجوه ويتضح ذلك جليا في ثلاث مستويات مختلفة: أولها الغوص بالتجربة الذاتية وتغليفها بغموض متعمد احيانا وعفوي في احيان اخرى لتصوير ما يشعر به من معاناة ،والثاني هو روح القلق الابداعي المجسد لتلك الانفعالات الحادة، والثالث تحميل الهم الذاتي تعبيراً جمعياً رمزياً يمتد لتناول جوانب الوجود الانساني عموما غير محدد بزمن او مرحلة معينة. فهو يجمع بين ملكات الذهن الانساني وتخيلاته الصورية بتراكيب متعددة تمثل زمناً لحضوياً قد مر او قد يمر في تألف واضح بين الوعي والواقع المعاش لتجسيد تلك الهموم والانفعالات مع منح الخيال نضجا أنطلوجيا لبلورة وحدة التأليف في شكل اللوحة ومكوناتها، فهو تأليف منطقي يجمع بين صورة الواقع وملكات العقل الذي يشذ نحو الخيال لتخلص الصورة. ان الخيال هنا وفي اعمال الفنان يصبح حدثا يساهم في انارة الطريق امام عين المتلقي .
نعم لا ننكرعلى الفنان أن يلوذ أحيانا بأسطرة الواقع كي يجسد الهم العام لكنه في المحصلة يكون أبداعه هم ذاتي لكل متلقي وهنا يتحد العام بالخاص لنقل صورة الواقع .فقيم الواقعية ضرورة لالتزامه بالاسس العلمية لبناء العمل الفني مثلما يعتني بالاسس الفكرية .
قد يؤخذ عليه كمية الرعب المتراكم والمضمر في لوحاته والذي يقرأ كسوداوية أحيانا لكننا نفسرذلك بمحاولة الصدق الابداعي لنقل حقيقي لواقع معاش وليس حلم فنان . لذا تكون أعماله تعبيرا صادقا عن حلم جمعي يجمعه في فرد ، وبتعبير أكثر دقة أن أعمال ( ناصر خانه) هي: هموم جمعية تتجسد بالفردية . وهنا ينجح الفنان بشكل مهم في تجسيد العلاقة بين الجمعي والذاتي ، فهو لايصور حركة المجتمع بشكل فج بل يركزعلى الدلالة الانسانية ببعدها الجمالي، فقيمة الجمال عنده عامة مطلقة وليست مأساوية سوداء. فهو لايبالغ في التصوير بل يراكم كي يدرك عمق المقصد ، ذلك لان البعد الجمالي عنده هو ما يرتبط بالمضمون وليس الشكل فقط . هو المهموم بكل ما يحيط به تجده يكثر من التفاصيل كي يشبع رغبته بالتعبيرعن المعنى ، يبحث في مرويات الخلود وينحاز للميثولوجيا التي يستلهم منها كل الثيم. ليهرب بنا الى المفترض بحذق أبداعي ويعيد أحلام الماضي المتوارث بروحه بعناد مجنون يناطح الواقع بكل أباء، أنه مشغول بالبحث عن معرفة العارف ويجول بخواطر المتصوفة كي يوقظ النائم في ذاكرتنا .
فـ (ناصر خانه) باختصار يجعل الانسان\ الجسد مركز اهتمامه ويستدرج أحيانا التاريخ في روحه للوقوف ضد القهر . وهنا تلتحم دلالة الخبرة التأريخية بهموم الواقع ليصور بادهاش فكرة الصراع كمرادف لحركة التأريخ ورمز لها في ذات الوقت ، وعبر تلك الدلالات يسحب الثيم الشكلية لتعميق فهم الحاضر،أي انه يقوم بعملية بحث لاختراع مفردة تشكيلية توسع من أمتداد الرمز . وتلك قمة الغوص في استخراج مدلولات للتعريف بالواقع فهو لا يلغي قدمية الرمز بل يحمله أفقاً مستقبلي لان التاريخ متحف مفتوح يرتوي كل من يرد شواطئه. و خاص ، رسم ملامح في إظهار قوة بكل قوة وقد يعود ذلك لذهنية المعلم في روح الفنان فـ ( ناصر خانه ) التصق بالتدريس في معاهد الفنون وكان له دور مميز في محاولة بناء أجيال جديدة من الفنانين الشباب وتلك المهمه النبيلة جعلته يعيش الفن حياة ودرساً .
ـــــــــــــــــــــــــ
*ناقد تشكيلي عراقي