المهام والوظيفة .. قيمة نقد النقد / د. سامي شهاب الجبوري

لاشك ان نقد النقد بوصفه مشروعاً نقدياً متأصلاً ومحكوماً بشروط خاصة قد اكتملت بنيته بهيكليتها هذه هو نتاج القرن العشرين ؛ ولكن لا يجوز لاحد ما تخطي الجذور الاولى لتكوينه التي ساعدت على انبثاقه على النحو الذي بين ايدينا الآن؛ فالنظريات الادبية تأسست بعدما اكتملت هيئة النقد وبحسب الاكتمال راحت النظريات تضع الشروط والضوابط التي تحكم المسار النقدي من منطلقاتها الخاصة التي تؤمن بها، وهي بذلك أشعلت أوار المعركة النقدية بدحض ما قيل سابقا في الخصوص نفسه؛ إذ ثبتت أسس كل نظرية منها على أنقاض سابقاتها بعد تصيّدها اخطاءها ودحضها واحلال آرائها بديلاً يغني ما تقدم، وفي الساحة شهادات تتمثل في قيام نظرية التعبير على أنقاض نظرية المحاكاة، وقيام نظرية الخلق على أنقاض نظرية التعبير، ونظرية الانعكاس جاءت تمردا على نظرية الخلق وهكذا.
هذه الممارسات على الرغم من وقوعها في خط سير نقد النقد ظلت تحبو حبوا وئيدا من دون تشكيل أسس وقواعد. ولكن الازمة انفرجت بدراسات نقاد القرن العشرين ولاسيما بعد اتكائهم على مناهج نقدية فتحت الطريق أمام أفكارهم لتأخذ حريتها بعرض ما يمكن عرضه بوصفه صالحا ومفيدا يصبّ في مصلحة اغناء العملية النقدية برمتها ولاسيما مناهج ما بعد الحداثة التي أعطت للمتلقي حريته في تفكيك النصوص وتجميعها واسباغ الانطباع بشأنها؛ بعد ان كانت حريته مصادرة في ضوء معطيات الحداثة ومناهجها.
إنّ القراءة النقدية (نقد النقد) ضرورية لاستكناه العروض المضمرة الخبيئة الواردة في الخطاب النقدي للوصول الى تصوّر شبه عام، أو ربما عام للصورة التي اكتمل فيها ذلك الخطاب، وتأتي هذه القراءة من مستوى التذوق بعد تجاوز مستوى الاداء والنطق الى مستوى الفهم والادراك وصولا الى التذوق والتأثير؛ فهي إذن تحاول تفكيك أواصر اللغة في الخطاب ودراسة انساقها وثم تجميع ما تراه مناسبا يخدم النتائج السليمة وصولا الى مرحلة اصدار الحكم ، وهي بذلك التفكيك والتجميع تقف على الضربات الحساسة في النص المنقود والتموضع معها في خندق المساءلة كي تصل الى برهان منطقي يغذي قيمتها ويصبغها بالانفتاحية لتكتمل مشروعية الحقيقة المبتغاة. وهنا على هامش ما ورد عملية تحويل مباشرة من هيئة الى أخرى ، أي من نص أدبي الى نقدي، أو من نقدي الى آخر. وهذا يعني اعادة ترتيب، ووضع تراكيب جديدة لاستخراج المعاني؛ واختزال ما يمكن اختزاله خدمة للنص.
هذه الشروط هي جوهر الاختلاف بين نصين ولولاها لما كانت هناك أهمية تُذكر لعمليات التحليل والتفسير وقلب الصيغ لتقريب المفاهيم باسهل الطرائق وايسرها الى المتلقين. ولكن على الرغم من تلك الاختلافات توجد هناك نقطتان أساسيتان تربط بين الاثنين وهما وسيلة التعبير وهي اللغة وفي التعبير كذلك عن تجربة واحدة، على الرغم من اختلافهما من حيث الاهداف، وهذا يعني وجود عملية محاورة وتوظيف جديدة، أي عملية تشكيل خطاب أوسع؛ لذا فنقد النقد نتاج جديد ناتج عن محاورة الخطاب النقدي محاورة يجب ان تكون موضوعية للخروج بحصيلة نهائية تخدم العملية النقدية.
مهمة نقد النقد ووظيفته
يعد النقد التوأم اللصيق بالعملية الأدبية المميزة والمكمّل لمسارها ؛ فالعمل الادبي لاسيما الشعري منه تختفي معانيه وتعمّه بين الحين والآخر وتدخل في متاهات الالغاز والابهام والغموض، بحيث لاتظهر دفعة واحدة للمتلقي وإنما تأتيه منقادة تباعا بحسب القراءة الواعية، فالعمل الممتلىء بالامتياز المتكوّن من تشابك العناصر وامتشاجها هو محور العملية النقدية الذي يتمثل دوره في اجلاء ما كان خبيئا ومتسترا خلف سحب التلونات المختلفة على صعيد الشكل والمضمون بوجه عام ، وبناء على ذلك تأتي الفائدة أكثر عمومية وشمولية.
والخطاب النقدي في أصله خطاب متأسس حول خطاب من نوع أدبي، وفي إطار السلسلة الابداعية فإن حلقة أخرى ستأخذ دورها بالظهور وصولا الى مرحلة الارتقاء من وجهة نظر صاحبها وهي مرحلة نقد النقد ، أي بناء خطاب حول مشروع خطاب آخر وهكذا تستمر السلسلة الى ما لا نهاية ، ولا تأتي هذه المرحلة إعتباطاً وعبثاً ، وإنما تنبثق من الأهمية للموضوعات المعالجة نقدياً ؛ فميدان عمل نقد النقد هو قراءة الخطاب النقدي المتولّد بفضل القراءة النقدية الواعية لنص أدبي ما ، وهو لايؤسس قراءته على قراءة نقدية هشّة لا تحتكم الى جملة من الضوابط ،لانه بذلك سيفقد الشوط الأمثل من مهمته التي تتمثل في اغناء المغني ورفده بالجديد ؛ بل هو يُقبل على دراسة نص نقدي يحمل معايير خاصة كأن يكون المنهج المستخدم واضحاً ، واللغة مضبوطة ،والاحكام الصادرة مبنية على دلائل وما نحو ذلك من شروط تسمح لهذا الخطاب بأخذ فرصته بالظهور والتميّز ؛ لذا فالخطاب النقدي حسبما تقدم اذا ما افتقد اياً من هذه الشروط وغيرها فإن نقد النقد لايعدّه ضمن خارطة الأهلية ويبعده عن دائرة اهتمامه ويعلن حكمه عليه بوصفه رديئاً وما شاكل هذا النحو ، وعليه فمهمة نقد النقد الأساسية هي تحديد النصوص الملائمة للنقد التي لها مساس بتطوير العملية الأدبية والنقدية على السواء ، فهو مشروع نهضوي وقراءة متأنية ومتفحصة للنص النقدي كونه الاقرب له ،وقراءة أخرى للنص الأدبي كونه الأبعد له ، وباندماج حصيلة الاثنين معا تنتج القراءة الثالثة بعد المامها بافرازات النصين بخطابيهما .
أما عن الدور الطليعي لوظيفة نقد النقد الأساسية فإنه لا يكمن في ليّ عنق النص النقدي المتضمّن لخطابه وتقليبه على أوجه متعددة واستنباط ما فيه مباشرة ، بل هو حوار مفتوح ومساجلة قد تكون هادئة أو حامية مع تيارات ونظريات تحوي الخطاب ؛ فالخطاب النقدي شعب متفرعة منغرسة في أحضان نظريات فكرية وفلسفية وتيارات تفرض على ممارس نقد النقد التصادم معها سلباً أو ايجاباً لجلب المعاني المكتنزة الاسيرة لديه وعرض المخفي وتقديمه للمتلقي بطبق من الوضوح والبساطة ، فهي وظيفة منسجمة في أساسها الأول من تنافر الناقدين مع بعضهما ؛ لان الثاني يريد اكمال ما أخفق فيه الأول ، أي ينطلق من مدياته ويخضع لها أول الأمر ومن ثمة يحوّل محوره النقدي لملء فراغاته ؛ فهو على هذا برنامج يحتوي كما يقول تودوروف على مصراعين متنافرين للوهلة الاولى هما : الخضوع للآخر وتقبل الذات .
وقد تكون الكوامن الدافعة وراء اطلالة هذه الوظيفة هي وجود اختلاف عميق بين النصين الخطابيين، ولولا هذا الاختلاف لما كانت الحاجة ملحّة وماسة وحقيقية لولادة نقد النقد ، لذلك فمشقة نقد النقد بدلالة وظيفته مشقة عسيرة تعْمد الى التهدئة ، فخصومه من عيار ثقيل مما يتطلب التحزم بمعيار أثقل من اللغة والفكر ومواكبة المستجدات الفلسفية والتيارات والنظريات الناشئة بين حقبة وأخرى، كي يتمكن من معالجة النصوص - بما فيها من مضامين وخروقات واخفاقات - معالجة شاملة تضمن له الاهلية في الأقل . وعليه فإن كفاءة خطاب نقد النقد لاتأتي من باب ممارسة السلطة الفوقية على الخطاب النقدي ، وإنما تأتي من باب المحاورة معه وإضافة رؤى جديدة لها مسوغاتها الموضوعية.
وفي ضوء ما تقدم لا تكون القراءة النقدية ناجحة ومفيدة ما لم تكن مسندة برؤية شاملة وموضوعية حقيقية كي لاتقع في هوّة الذوقية التي لا تخدمها، فهي تحاور النص أو النصوص المنقودة محاورة مستفيضة وتقلّبها على وجوهها المتعددة للخروج بكل ما يرضي المتلقي ويخدم العملية النقدية ؛ فالخطاب النقدي ليس دحضا كاملا لما في الخطاب الادبي ولا خطاب الخطاب-نقد النقد-هو كذلك وانما هو اضافة مفيدة ، أي تأييد من جانب ومعارضة من جانب آخر. كما انه في أساسه لا يسعى الى نبذ ما في طريقه وتحجيمه بقدر ما يعمل على خلق وحدة متكاملة ، وأهمية السعي الى تحقيقها تنبجس من التناقضات والتصادمات التي يحاول تهديم اركانها بمعوله للوصول الى مقاربة حتمية أو شبه حتمية في هذه المسألة أو تلك.
وبعد هذه المقدمة التي ربما قاربت الكشوفات بصورة واضحة للمتلقي يمكن التعريج نحو عالم الخطابات وخطاب الخطابات ، فالخطاب الأدبي يمثل مرحلة المعالجة الأولى التي تعد البذرة الأولى، والخطاب النقدي المتأسس عليه يمثل الانبثاق الثاني الذي يعالج ما في الأول ويحاول تطويره، وما نقد النقد إلاّ الوجه الثالث من ثلاثية المنهج الجدلي الذي تقع عليه مسؤولية اعادة النظر في الطور الثاني من الثلاثية لمحاولة ترميمه، عند ذاك تتشكل صيغة نهائية يمكن عدّها مرحلة أولى قابلة للمعالجة وهكذا باستمرار، ولا نقصد بالنفي والمعالجة نفي محتوى الأول، بل المحافظة على خصائصه الرئيسة، وإضافة أشياء أخرى كفيلة بسدّ ثغراته وتمتين خواصه.