صراع السلطة والمثقف في العراق / خضر عواد الخزاعي

لقد كان موضوع الثقافة والمثقف في العراق وعلى مدى عقود منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في بداية العشرينات من القرن الماضي موضوع صراع طويل ومرير بين السلطة الممسكة بكل أدوات الثقافة من وسائل إعلام مقروءة ومسموعة ومرئية ومطابع ومؤسسات تعنى بالشؤون الثقافية مثل وزراة الثقافة والإعلام ودور النشر والسينما والمسرح والمعارض الفنية وبين المثقف المغلوب على أمره والذي كان يقف أمام خيارين لا ثالث لهما أما أن يركب موجة السلطة ويتحول إلى بوق من أبواقها ويستفيد من امتيازات تلك السلطة في تبوئه مراكز قيادية في النقابات الفنية والثقافية والإعلامية ومراكز الإعلام والوظائف المدنية أو يلتزم الصمت ويبحث له عن مهنة أخرى أو وسيلة تؤمن له ولأسرته مورد معاشي يقيه الجوع والعوز ولنا في معاناة أدباء كبار أمثال بدر شاكر السياب وشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري والسيد محمد الصافي النجفي وعبد الأمير الحصيري وموسى كريدي أمثلة على ماكان يعانيه الأدباء والمبدعون في مواجهة السلطة الحاكمة التي لم يكونوا في وفاق معها سواءاً في العهد الملكي أو العهد الجمهوري.
وكان تسليم زمام المؤسسات الثقافية بالعراق خلال العهدين الملكي( 1921 – 1958) والجمهوري(1963 – 2003) إلى شخصيات عربية بعيدة عن الواقع العراقي وظروفه المحلية والتاريخية والسياسية سبب من أسباب أزمة المثقف والثقافة في العراق الحديث بل إن ذلك السبب قد عمق الشرخ والوقيعة بين الواقع العراقي ومتطلباته الثقافية والأدبية وبين مؤسسات يديرها أشخاص لاهم لهم سوى ترسيخ مفاهيم سياسية وأيدلوجية لاتخدم بالنهاية سوى أفكار وأشخاص لن يكونوا سوى مرحلة عابرة في تاريخ العراق الوطني وهذا بالضبط ما فعله أشخاص مثل ساطع الحصري وميشيل عفلق والياس فرح بالهوية الثقافية العراقية طيلة ما يقارب من 80 عاما من عمر العراق الحديث.
إن المطلع على الأوضاع الثقافية العراقية في الوقت الراهن بعد 2003 لن يجد صعوبة في رسم الإنطباع السيء لما آلت إليه البلاد خلال العشر سنوات الماضية وإن لم تكن وليدة ضروف واقعية مستجدة بقدر ما هي امتداد لإنتكاسة البنية الداخلية للمجمتع العراقي برمتها منذ قيام الحكم الملكي عام 1921 ومن بعده تسيِّد الفكر الرديكالي المتطرف لحزب البعث على حكم العراق من العام 1963 وحتى سقوط النظام سنة 2003 وهو نتاج طبيعي لتلك المراحل المهمة من تاريخ العراق الحديث.
فمثلما كان التركيز في العهد الملكي على سلخ الهوية الوطنية للعراق وتحويله إلى حلقة صغيرة في منظومة النظم الملكية العربية المرتبطة بالإستعمار البريطاني فلقد كان أيضاً العمل الدؤوب لمؤسسات الدولة في عهد البعث هو تحويل مسار الثقافة العراقية التي حاولت خلال معاركها الوطنية مع مشروع سلطة البعث أن تسجل الكثير من النقاط لصالح مشروع انتلجنسيا العراق منذ ستينات القرن الماضي وحتى فترة الإستبداد الشمولي الذي بدأ في نهاية السبعينات مع وصول الطاغية صدام رسميا لسدة الحكم والبدء بتنفيذ مشروعه الدموي بإسقاط كل من لايؤمن بفكر البعث من قوى يسارية كانت لها حظوة كبيرة في الساحة العراقية مثل الحزب الشيوعي العراقي وقوى اليسار الديمقراطي التي كانت تراهن في فترة ما على الوصول ﺇلى نوع من التوافق مع المشروع البعثي من خلال ما عرف بالجبهة الوطنية والقومية في تموز 1973 التي أسسها حزب البعث لتمرير صفاقته ومشاريعه الإقتصادية والتلسيحية مع الإتحاد السوفيتي في ذلك الوقت.
لقد وجدت القوى التقدمية ممثلة بشريحة المثقفين الذين آثروا الإنزواء أو الهجرة أو حتى حمل السلاح في كردستان في شمال العراق وجدت نفسها وقد أقصيت تماماً من المشاركة في قيادة المنظومة الثقافية أو المشاركة فيها بعد إغلاق صحفها والتعرض لأشخاصها سواءاً بالمغريات المادية أو بالتخويف والإجبار على السكوت أو الهجرة ففي وقت مبكر من وصول البعث الى السلطة أصدر مجموعة من القوانين الإقصائية ضد من اعتبرهم خصومه التقليدين لأسباب عقائدية حيث أصدر قانون المطبوعات في شباط 1963 والذي حضر بموجبه كل الصحف والمطبوعات التي كانت رائجة في العهد الجمهوري خلال فترة حكم الزعيم عبدالكريم قاسم وإصدار قانون بتخوين كل من انتمى لتلك الاحزاب وعرضه للقتل والحبس والمطاردة.
وفي محاولة منه لتأسيس تأريخ عقائدي جديد للعراق قاد الطاغية صدام حملته المشؤومة المساة ( ﺇعادة كتابة التاريخ ) والتي هيأ لها كل الوسائل التي تساهم بنجاحها ووضع تحت تصرفها كل ﺇمكانات الدولة فعقدت الندوات والمنتديات وألفت الكتب وأنتجت الأفلام والمسلسلات وحاول البعض ممن أوكلت لهم هذه المهمة تبييض الصفحات السوداء من تاريخ العراق والإساءة ﺇلى الصفحات الناصعة والمشرقة من تاريخه عن طريق تأليف الكتب ونشر المطبوعات ومنها نشر كتاب محمود الجومرد ( الحجاج رجل الدولة المفترى عليه ) محاولاً تلميع صورة واحد من أسوء الطغاة الذين حكموا العراق بعقلية عنصرية طائفية بغيضة كان سلاحه فيها القتل والتهجير والتمثيل والحبس الحجاج الذي قال عنه عمر بن عبدالعزيز ( لو جاءت كل أمة بخبيثها وفاسقها وجئنا بالحجاج لزدنا عليهم) فتحول بقدرة التاريخ الجديد ﺇلى مفترى عليه ثم أخذت هذه الثلة المأجورة تبحث في التاريخ القريب للعراق فتناولت ثورة العشرين كواحدة من أشرف ثوراته وأعظمها شأناً وجعلت منها حدثاً شخصياً عابراً بين الشيخ حارث الضاري الأب والقائد الانكليزي لجمن في فيلم المسألة الكبرى وقلبت في التاريخ القديم وجعلت من حضارة وادي الرافدين بتراثها الكبير الزاخر امتداد لعصر طاغية العراق وهٌدمت مواقع أثرية ضخمة وأعيد بنائها من جديد وكتب عليها شعار المرحلة الجديدة والتاريخ الجديد.
لقد كانت الإنتكاسة التي تعرضت لها القوى التقدمية المثقفة ضد مؤسسات الحكم الرجعي الشوفيني الأمنية والإعلامية إنتكاسة أخلاقية وسياسية لجميع مؤسسات الحكم ليس في العراق وحده بل في المنطقة العربية التي كانت تحتمي بالسلطة سلاحاً ضد كل من يقف بوجهها وإنهياراً لقيم معتدلة وحداثوية كان يمكن لها أن تقدم خلاصة تجربتها الثقافية في خدمة المشروع الوطني والقومي بدل الإحتماء بأيدلوجيات قمعية كانت تحمل في طياتها بذور فشلها واندحارها ففي نهاية السبعينات من القرن الماضي أصبحت السلطة الحاكمة في واد وطبقة المثقفين الأحرارفي واد آخر.
ففي مجال المسرح إنتهت الفترة الذهبية لعصر الثقافة التي حمل تنوعها مجموعة من الطلبة الدارسين في المعاهد والجامعات الأوربية أمثال فاضل خليل وصلاح القصب وقاسم محمد وعوني كرومي وشفيق المهدي حيث بدأت الخطوات الجادة لعصرنة المسرح العراقي بصبغة حداثوية إستلهمت ماتوصلت إليه التجارب العالمية في هذا المجال فكان المسرح التجريبي الملحمي لبريشت الذي قدمه الفنان المخرج إبراهيم جلال والكاتب المسرحي عادل كاظم في مسرحية الحصار وكذلك الفنان المسرحي قاسم محمد في مسرحية (كان ياماكان) وغانم حميد في تجربة مبكرة في مسرحية (المفتاح) للمسرح الفني الحديث وقدم الفنان صلاح القصب تجربة تعتبر من التجارب الريادية المتميزة للمسرح العراقي والعربي في مسرح الصورة المستلهم من التغريبية والمحلية في مسرحية ( حفلة الماس) لكن ذلك لم يستمر طويلاً حيث تحول المسرح العراقي الذي كان يمتاز بشاعريته الفذة وتذوق جمهوره كما في مسرحيات ( الشمس،الأسوار،المتنبي،أجراس تموز،الطوفان )ﺇلى مسرحيات (چاي وچذب،بيت الطين،الخيط والعصفور) ومن الفرق المسرحية الكبيرة التي كان لها دوراً كبيراً في إشاعة الثقافة المسرحية بالعراق مثل فرقة (14 تموز،المسرح الفني الحديث،مسرح الطليعة،مسرح السبعين،فرقة المسرح العمالي)إلى (مسرح النجاح،مسرح عشتار)واختفت من واجهات المسارح عناوين لامعة مثل (ترنيمة الكرسي الهزاز،الخال فانيا،البيك والسايق،الإنسان الطيب) وحلت محلها مسرحيات مثل ( بيت وخمس بيبان،بين مريدي ولندن ).
وفي مجال الأدب إنطوت صفحات مهمة للأدب العراقي كما هو الحال مع الروائي والقاص العراقي غائب طعمة فرمان (1927 – 1990) ورائعته الشهيرة ( النخلة والجيران ) ليشد الرحال مغترباً إلى موسكو ويعتلي ساحة الرواية واحداً من مروجي فكر البعث هو الروائي والإعلامي عبد الأمير معلة ويقدم روايته (الأيام الطويلة) كفرض طاعة لسيده صدام ليحظى بالقبول ويلحق بركب المناصب والمراكز النقابية والوظيفية التي كانت تنتظر من يقدم فروض الطاعة والولاء ولحق به مبدع عراقي آخر هو الشاعر عبدالوهاب البياتي وكذلك شاعر العراق الأكبر محمد مهدي الجواهري الذي أسقط عنه النظام الجنسية العراقية ليدخل الأدب العراقي ومع بداية العقد الثامن من القرن الماضي ساحة معترك جديد هو ما عرف بأدب الحرب الذي رافق الحرب العراقية الإيرانية والذي كان في أكثره مشاهدات وتقارير تسجيلية لما كان يدور في ساحة الحرب ولم تكن تلك غير انتكاسة مريرة للثقافة العراقية كما علق أحدهم ممن كانت له حضوة في تلك المرحلة من تاريخ العراق الثقافي حين قال(تلك لم تكن هزيمة بقدر ماكانت إنتكاسة للثقافة العراقية).