النرجسية العربية / د. ناهدة محمد علي

تقول الأسطورة اليونانية القديمة، إن شاباً كان فائق الجمال قد عشق نفسه وكان كل يوم يذهب إلى البحيرة ويطيل النظر في صورته على سطح البحيرة ، أما ما كانت تعتقده البحيرة فهو أن ( نارسيس ) كان معجباً بها وبجمالها وعذوبة مائها، وذات يوم أطال نارسيس النظر إلى صورته في الماء فهام بها وفقد صوابه وسقط في الماء وغرق ثم تعفنت جثته ، وبعد أن مر أحد الحكماء وسأل البحيرة لِمَ تركتي نارسيس يغرق فيك ، قالت كنت مشغولة عنه لجمالي أنا، وكانت نهايتهما أن تعفن ماء البحيرة مع جثة نارسيس.
هكذا تقول الأسطورة، لكن علم النفس يحدد النرجسية بأنها حالة مرضية منتشرة في كل العالم ، والمصابون بحالة الشخصية النرجسية هم بعض المتميزين شكلاً ومضموناً وتعود الأسباب الأساسية في الشخصية النرجسية ( NPD ) إلى العوامل الوراثية ، فالشكل الجميل والإعتزاز به هو من الموروثات ، ويدعم ذلك العوامل الإجتماعية والثقافية ، وتعمل التربية الأُسرية كعامل أكيد في تكريس عُشق الذات للفتاة الجميلة أو للولد الذكي حتى يصبح هذا الفرد لاغياً للآخر أمامه، وإن رآه فهو إمتداد له ومكرس لأجله يقوم بخدمته ومدحه وتركيز الضوء عليه . وقد يتخذ هذا الشخص موقف العداء ممن ينتقده أو لا يمدحه شكلاً أو مضموناً ، وهو لا يستطيع السماع والإنصات للآخرين ، وإن أنصت فهو لأجل الإنتقاد والتسفيه والتقليل من شأن الآخرين .
الشخص النرجسي كثير الإهتمام بشكله وملامحه ، يدرس حركاته لغرض جلب الإنتباه إليه ويتوقع من الآخرين أن ينظروا إليه ويجعلونه مركز إهتمامهم ، وهذا الشخص يعاني من مشكلة في إقامة العلاقات الصداقية والعاطفية لذلك تعتمد علاقته بعائلته على تحقيقها لمصالحه وإحتياجاته ، وهو غير قادر على العطاء بل يجد اللذة بالأخذ دائماً وهو متصور بأنه مستحق لهذا وليس له موقع غير الأولوية ، لذا فهو إن إنتقص من الآخرين لا يشعر بالذنب أبداً ، ويتميز بإنتقاميته وعنفه لمن يتجرأ ويكشف عيوبه، وعلى هذا الأساس فالنرجسي يعيش في عزلة إلا من القلة ذوي المصلحة في العلاقة معه . والغريب في الأمر أن النرجسي سعيد بعزلته هذه لأنه يعتقد جازماً بأن لا أحد يوازيه أو يساويه مكانة فيحاول دائماً أن يعلو لكي ينظر إلى الآخرين من فوق .
إن النرجسية المرضية يقابلها نرجسية صحية تكون وفق شروط وظروف طبيعية وضرورية للحياة وإستمرارية الجنس البشري ، مثل محبة وعشق الوالدين لطفلهما لأنه إمتداد لهما وتأكيداً لوجودهما وتحقيقاً لآمالهما ، وقد تجد الأم في إبنتها تأكيداً لجمالها وشبابها الدائم ، وقد يجد الوالد في إبنه تأكيداً وإمتداداً لذكائه وبراعته في مهنته ، وهذا هو منهج عام لإستمرارية الحياة وشد لأواصر العلاقات العائلية .
إن هذا مختلف تماماً عن حالة تحقيق الذات الذي يسعى إليه الفرد العادي ، وهو مبتعد عن حالة الشخصية النرجسية ، فالشخص العادي يسعى منذ ولادته إلى حين مماته لتحقيق أهدافه ثم الوصول إلى الهدف الأسمى وهو تحقيق ذاته من خلال العمل والدراسة وتأسيس العائلة وتربية الأطفال وإقامة العلاقات الإجتماعية ، وقد يتساوى في هذا الإنسان والحيوان مع إختلاف المستوى العقلي والوسيلة .
المهم هنا إن قابلية الفرد العربي للإصابة بمرض النرجسية قد أخذت تتزايد وهي قد تتعدى المتميزين شكلاً أو مضموناً إلى المتمركزين ذاتياً والذين يعانون من عدم التوازن بين الأنا والأنا العليا والذين يعتقدون أن العالم يدور في محورهم ووفق شروطهم ، ويصاب بهذا بعض أصحاب رؤوس الأموال وبعض السياسيين ، حيث يعمل الأول على توسيع شبكته العنكبوتية لخدمة أعماله وملكيته تمجيداً لذاته ، والثاني يفرض آراءه السياسية على أكبر عدد من أفراد المجتمع لتحقيق أهدافه بغض النظر عن مدى مصداقية هذه الأهداف وهو لا ينظر بهذه الحالة إلا إلى نفسه في المرآة .
وقد يصاب بهذا المرض الفرد العادي ، أو ربما الفقراء الذين لا يمتلكون موهبة أو شكلاً جذاباً لكن هذا الفرد يصاب بتقوقع ذاتي نتيجة رد فعل لقمع خارجي ولأجل الثبات وعدم الإنهيار يستميت هذا الشخص لأجل إثبات صلاحيته وإستحقاقه للحياة دون غيره ، ويبدو أن في داخل كل منا هذه الإستماته والعشق لوجودنا ، وإن قاتلنا هذا الدافع سنخلق دافعاً قوياً وقد يكون عدوانياً لأجل البقاء والإرتقاء ، ونأخذ مثلاً لهذا حالات القمع الإجتماعي والقمع السياسي للنساء ولأفراد المجتمع بشكل عام ، وقد يُقابل هذا بإستشراس هؤلاء لتحقيق حقوقهم المشروعة ، وقد يستميت الفرد العادي في حالات العنف الجماعي والحروب الداخلية ، ويكون قتل الأطفال مثلاً هو دافع حتمي للآباء والأمهات للشراسة وممارسة العنف لإعادة إثبات الوجود ولتعديل الموازين والإنتقام للتحطيم الذاتي ، لذا فمن الغباء أن يسعى الآخر لتحطيم الآخر حباً بذاته لأن ردود الأفعال ستكون متساوية ويكون بهذا كمن يحفر حفرة من تحته وهو متوقع بأن التراب لن ينهال عليه .