الحزب الشيوعي العراقي.. حضور فاعل في النضال الوطني الراهن / فلاح المشعل

في الذكرى الثالثة والثمانين لتأسيسه يبدو الحزب الشيوعي العراقي، للوهلة الأولى، بأنه رصيف ذاكرة ثورية بسعة الوطن واحلامه ، أو محطات نضال وطني وتحرري لكائن يمتاز بالتاريخ والحكمة ليس إلا. وقد " آن " له ان يستذكر تلك الأمجاد ويعيد ترديد اسماء الشهداء ومآثرهم الخالدة، في وقت تستحوذ فيه احزاب الاسلام السياسي على اوسع القواعد الجماهيرية، اضافة الى مراكز السلطة والنفوذ والمال والأذرع المسلحة .. وهكذا هو الحال منذ بدء التغيير السياسي بالاحتلال الامريكي والى الآن .
نعم ربما القراءة التسجيلية تعطي هكذا انطباعاً للمعني بالمشهد السياسي العراقي وما يمور فيه من صراعات، لكن القراءة الفاحصة والتفكيك الدقيق لدور الشيوعيين العراقيين في هذه المخاضات، وبرامجهم البنائية التي تتحرك ببطء ونسق سوسيولوجي منتظم وفاعل، تشير الى قراءات أخرى ومعطيات لا يبذل المتابع جهدا كبيرا لمعرفتها، واكتشاف مظاهرها المتنامية في مسرح الاحداث والتأثير فيها، بما يشير الى خروج الحزب الشيوعي من منعطف الانكفاء والعزلة التي تفرضها تأثيرات المناخ الطائفي السائد في البلاد، وهيمنة الاحتلالات المتنوعة للوطن ، الى دائرة المبادرة الشعبية الفاعلة ولفت الأنظار للدور الوطني الخالص للحزب من أجل جماهير الشعب العراقي، وفي منهج حفر سياسي - اجتماعي قادر على الصمود والانتشار، رغم التحديات العديدة التي تواجهه سواءً من أحزاب السلطة الرجعية، أو الانكماش الطائفي وانحسار الانتماء الشعبي الواسع له، كما عرف في تاريخه الطويل، الذي يمثل تاريخا نوعيا في امتلاك الجماهير تنظيميا .
ان الحوار الداخلي الذي خاضه الشيوعيون في ما يخص المنهج والنظرية، أنتج عبر مؤتمراته واجتماعاته الدورية وما يصدر عنها من بيانات، توجهات فكرية متحررة من النمط الكلاسيكي للنظرية الماركسية اللينينية ، والتحول نحو أنماط سلوكية تتسم بالديمقراطية الاشتراكية والانفتاح على حرية الحوار مع الآخر ، وان كان يمثل التضاد النوعي للمنهج السياسي والفكري المتوارث للحزب الشيوعي ، كما ادرك الحزب اهمية القبول بالواقع الموضوعي والقدرات الذاتية والتحولات التي جاءت مع تغيير سياسي تولد عقب اسقاط النظام السابق، وهذا التوافق في المنهج ، دفع به الى التحرك في ملء الفضاء النقدي وتصويب السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخاطئة والتصدي لها عبر ممثليه في البرلمان أو وسائل الاعلام، وكذلك في العمل من موقع المسؤولية في العمل الوظيفي لكوادره واصدقائه .
استطاع الحزب الشيوعي عبر نشاط رفاقه ورفيقاته، ترسيخ مبدأ النشاط المدني ميدانياً ، في تأكيد مفهوم الدولة المدنية الدستورية ، ومطالب الجماهير في حق العيش والحرية ومحاربة الفساد والفئات الطفيلية والتصدي الجاد للفساد الاداري والمالي والقضائي والاعلامي ، وذلك عبر تظاهرات واحتجاجات كانت تقتصر على مشاركة محدودة ثم تحولت الى مشاركة جماهيرية واسعة صارت تغص بها ساحة التحرير في بغداد ، وساحات الحرية في بقية مدن العراق، تلك المبادرات اعادت الحيوية للشيوعي في تحريك الشارع والتأثير فيه وتحريضه على معرفة حقوقه وحرياته، بعد نوبات خوف وانكماش شعبي تاريخي امتد لعشرات السنين من سلطات دكتاتورية واخرى اسلاموية ، متقاطعة مع مصالح الشعب وتطلعاته .
اشتغل الحزب من خلال نشطائه المدنيين، واتحاداته وروابطه مثل رابطة المرأة واتحاد الشبيبة واتحاد الطلبة ، على تقديم مبادرات وطنية شعبية ، مثل زيارات منتظمة لقطاعات تعاني الاهمال او المرض، او حملات تنظيف الشوارع او المشاركة في مسيرات وفعاليات تتحدى محاولات القمع الفكري والثقافي. وهذا التحريك للشارع دفع بقية الاحزاب والقوى الوطنية للتشارك والتواجد معه في الشارع العراقي ، ومشاركته في برنامج النقد والاحتجاج ، الأمر الذي جعل التحالف المدني يشكل أحد اوجه المعارضة البرلمانية التي يتجلى فيها صوت الحزب الشيوعي ايضا .
تمكن الشيوعيون والجماهير اليسارية المساندة له ، من جذب اكبر التيارات الشيعية " التيار الصدري" لمنصة الاحتجاج والتظاهر والاعتصام ، في كسر لطوق المفهوم الاسلاموي للسلطة وحمايتها. بل اشتغلوا على تطوير هذا المفهوم الى اصلاح السلطة والتصدي بحزم للفساد واقتراح التغيير النوعي بقوة ضغط الجماهير ، التي تلتحم بشعار وطني موحد ومناهض للجريمة وفساد الاحزاب المتغانمة على السلطة ، والتطلع لتحقيق مطالب الشعب في مشواره لتحقيق التكافؤ في المعيشة وفرص العمل والتطور ، أو في استكمال المسار الديمقراطي في بناء مؤسسات ديمقراطية ومفوضية انتخابات مستقلة واحزاب مدنية مجازة رسميا ومكشوفة بمصادر التمويل والمنهج والاهداف .
الشيء الآخر الذي يحضر كلما صار الحديث يشير للشيوعيين، أنهم حازوا على امتياز النزاهة والمهنية والتكنوقراط وهم يتبؤون وزارات ووكلاء وزارات أو مدراء عامون، وتركوا فيها آثارا للنزاهة والعلمية المهنية والحرص الوطني، ما جعل قطاعات شعبية عريضة تتطلع لعودتهم الى ادارة الدولة العراقية .
هذه المعطيات والنتائج ومجمل الفعاليات جعلت الحزب الشيوعي العراقي يعود الى واجهة الاحداث عبر قيادة الشارع العراقي المحتج على الفساد والجوع والتخلف وقوى الارهاب والظلام الفكري .
واذ يحتفل الشيوعيون واصدقاؤهم بذكرى تأسيس حزبهم ، فانهم يعانقون ذرى الوطنية وروح الفداء والتضحية للمبادئ والوطن، في زمن التكالب على المصالح الذاتية والشخصية التي تلخص قصة الفساد في الوطن العراقي خلال ١٤ سنة مضت.
هنيئاً للشيوعيين تاريخهم الوضاء وحاضرهم الوطني النزيه في بناء العراق .