8 شباط 1963 ... ذكرى يوم اسود / جبار هلال علوان

كان ذلك يوم الجمعة المصادف 8 شباط / 14 رمضان 1963 حيث عطلتي الاسبوعية، لقد نهضت صباحا وانا لوحدي في صريفة بمنطقة الشاكرية، لدي جهاز راديو بولوني فتحته وقد احضر لي ماء دافىء لغرض ان احلق وجهي وضعت الصابون وحركت الفرشاة على وجهي، واذا بالقاء بيان رقم (واحد) فانذهلت لذلك، وانطلقت بعد مسح الصابون وارتديت ملابسي بسرعة، وكان والدي داخل الغرفة وهي طبعا من الطين وقد ناديت والدي باذاعة البيان الاول، يعني انقاب عسكري، ونهض وقال: شتكول؟! قلت له انقلاب عسكري على ثورة تموز. وانا استكمل ارتداء ملابسي اسرع والدي رحمه الله الى باب الدار واقفله، وقلت له: بويه لا يمكن ان ابقى بالبيت واذا بقيت سيقتلوننا جميعاً. قال: آني وياك. ففتح الباب وخرج معي يرتدي الدشداشة فقط، حمل بيده قضيباً من الحديد وخرجنا الى شارع الكيارة بداية الشاكرية من جهة القوة السيارة والكنيسة المحاذية لها وشارع عباس.
وجدت تجمعا جماهيريا وقد اتجهت انظارهم نحوي فدخلت في صفوفهم وخاطبتهم وقلت: يا جماهير الكيارة والشاكرية ان هذه مؤامرة قام بها البعثيون والقوميون والقوى الرجعية بقيادة قوى دولية ضد الحكم الوطني في العراق وضد ثورة تموز التحررية فهبوا يا جماهيرنا الى الاذاعة. فتوجهت الجماهير ونحن مجوعة من الشباب الشيوعيين، وفي كل مرة تنضم جماهير اخرى الى التظاهرة حتى وصلنا الى الاذاعة، ووجدنا جماهير لا بأس بها لأن جماهير الكرخ توجهت الى صوب الرصافة في الباب الشرقي والى وزارة الدفاع، وهي تهتف لثورة تموز وقيادتها برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم، وبهذه الاثناء جاءت قوة عسكرية من الدبابات والعجلات وهم رافعيبن لافتات تمجد الزعيم وقال قائدهم: نحن جئنا ضد الانقلابيين وسوف نقضي عليهم فتفرقوا، وعندما اخذوا اماكنهم وجهوا الرصاص الى الجماهير. وكانت الجماهير لا تملك السلاح ولا نحن الشيوعيين فتفرقت الجماهير وانقسمت الى قسمين: الاول الى الدور التي خلف المتحف في علاوي الحلة والآخر الى منطقة الكريمات في الصالحية، وعند دخولنا رحب بنا الاهالي وفتحوا ابواب بيوتهم لنا، وبقينا في الازقة وكان من ضمن الذين دخلوا منطقة الكريمات هم: سامي من الدوريين وعبد الحسين بدن من الكيارة وصافي غضبان من الشاكرية وجبار هلال علوان من الكيارة وكثير من الشباب من الكيارة والشاكرية، وكنا نجتمع من اجل ان نقوم بفعالية ولكننا لا نملك السلاح، ونحن نغلي غلياناً لا نظير له بسبب عدم امتلاكنا للسلاح، وقد بادر عدد من المتواجدين وهيئوا لنا بنزين وقناني مع فتائل لرميها على الذين يرومون الهجوم على المنطقة واحتلالها والقيام بالقبض علينا. وفي هذه الاثناء دخلت دبابة من الفرع الذي في بداية الجسر مقابل ملهى ليالي الصفا، وقد تراجعت الى ما كانت عليه في رأس الجسر عبر الشارع. وانتظرنا قليلا حتى جرت محاولة من القيادي سامي من الدوريين ان يستخدم قارباً لغرض العبور الى منطقة حافظ القاضي لمعرفة ما يجري هناك حيث انقطعت الاتصالات ولا احد يذهب ولا احد يأتي الينا وهو يجذف في وسط النهر، حيث تم اطلاق النار عليهم من السفارة البريطانية وقد رموا انفسهم في النهر ونجوا من اطلاق النار، ووصلوا سباحة ودخلوا الى بيت المختار وكان راقدا في الفراش وهو مريض وقد قامت عائلته بغلي الماء لهم حيث كان الجو بارداً وهم في ملابسهم الداخلية، وبعد ذلك بفترة قصيرة نزل الى النهر جندي لقضاء حاجته وقام احدنا باطلاق النار عليه فهرب تاركاً سلاحه وذهب آخرون لجلب سلاحه وهو نوع بندقية كلاشينكوف مع مخزن للعتاد. واصبح لدينا بندقيتان، وعندما نزل احد الرفاق الى ساحل النهر تم اطلاق النار عليه من السفارة البريطانية وقتل في الحال وهو من منطقة الدوريين.
جاءني الرفيق عبد الحسين بدن من الكيارة الشاكرية ومعه صافي غضبان وقال لدي مقترح وهو ان نصعد الى اعلى الدار وهي مقابل رأس الشارع حيث توجد دبابة وفي زاوية الاستدارة من جانب ساحة جمال عبد الناصر في الصالحية، فتسلقت الدار من اعلى غرفة فيه واستطلعت الطريق والشارع والفرع العريض فرأيته لا توجد فيه زاوية ولا اي شيء يستر تحركنا وقلت له ما هو السلاح الذي سنهجم به قال انه لديه مسدس وقلت له انا لدي خنجر فقلت له من معنا؟ قال: انا وانت فلنتوكل فخلعنا احذيتنا وتسللنا حفاة فقط بالجواريب، ومشينا ملاصقين للجدران حتى وصلنا الى مكان لشخص يبيع الشاي واختبأنا فيه وقمنا نراقب الوضع، وهي دبابة سوفيتية الصنع وفيها واحدا يقف على البرج واثنان في مقدمتها واثنان يتحركون وقال الرفيق عبد الحسين ماذا نفعل لهذه الحالة قلت له نقوم بالهجوم عليهم ونقتل اثنان ويتم قتلنا اثنان باثنان وهم مع السائق خمسة افراد وقال رفيق نعود الى الرفيق سامي ونعرض عليه الوضع ويجري تدبير قنابر يدوية كي يمكن ان نعالج الامر بالهجوم ويمكن ان يكون معنا ثالث يقوم بقيادة الدبابة ولديه معرفة بالرمي بالمدفع اذا ما تم القضاء على العدد الموجود وقد عدنا الى مكان تجمعنا في منطقة الكريمات وعلى ضوء ذلك قتل احد رفاقنا من الدوريين من جانب السفارة البريطانية وقبله اطلاق نار على الرفاق وسط دجلة وهم ذاهبون الى حافظ القاضي، وقام المتآمرون بقصف منطقة الكريمات بقذيفة من دبابة وقد دمرت قسما من الدار الذي نتجمع بالقرب منه ولكن بدون قتلى، وقد تم توجيهنا فوريا يوم 9 شباط بالنزول الى النهر سباحةً ووصلنا الى عدد من الدوب في طريق سباحتنا وقلت لهم يارفاق يمكن ان نختفي بهذه الدوب حتى نتدبر طريقا سهلا وقال بعض الرفاق لا، سوف ندخل ملهى ليالي الصفا وعند دخولنا واذا باصوات تنادي سنطلق النار عليكم اذا تحركتم .. ارفعوا ايديكم على رؤوسكم وابتعدوا الواحد عن الآخر. وهم ظهروا من فوق مستشفى الرمد في الصالحية في الفرع المقابل للاذاعة والتلفزيون وهذا المستشفى هو خلف ملهى ليالي الصفا واقتادونا الى دار الاذاعة والتلفزيون وعناصر مؤيدة من الامن الذي كان في حكومة ثورة تموز ونحن نسير اخذوا يضربوننا بالهراوات والصوندات الصلبة والعصي والبصاق علينا حتى وصلنا الى دار الاذاعة والتلفزيون، حيث قيادة الانقلابيين فيها مع قوات من الجيش والدروع والآليات لكي تكون حماية لهم.. وادخلونا في غرفة الحرس، ودخل علينا المجرم من اقطاب حزب البعث علي صالح السعدي وهو يحمل مسدس مذهب وقال سأقتلكم كلكم، ومرت فترة قصيرة حتى نادى المنادي للمتآمرين وقال بصوت عالٍ: يا رفاق تم القاء القبض على عبد الكريم قاسم وجماعته وبعد لحظات اخرجونا الى الحديقة وكانت المسافة بيننا وبينهم ثلاثة امتار وكان في مقدمتهم الزعيم عبد الكريم قاسم وكانوا يدفعونه من كتفه ويرفع يده ليعدل سدارته وخلفه مدير الاستخبارات العسكرية الشهيد طه الشيخ احمد والثالث الشهيد فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب فاخذ الجلاوزة الانقلابيون يضربونه بالممر حتى وصل الدرج واخذوا يضربونه بأخمس البنادق وهو يصرخ لهم ويقول مجرمون قتلة فاشيست حتى ادخلوهم الى داخل الاذاعة والتلفزيون، بعد ذلك وصلت سيارات لغرض نقلنا فاخرجونا وتم توزيعنا على سيارات مكشوفة ونقلنا الى عدة معتقلات منها الامن العامة والسجن رقم واحد فلم يجدوا مكاناً شاغراً في هذه المعتقلات، بعد ذلك توجهوا بنا ونحن في شاحنة كبيرة مكشوفة لا غطاء لها ونقلونا الى معتقل الكلية العسكرية، وصرخ بنا احد الاشخاص وقال: منين جابوكم؟ وكنت اتصور انه يسأل آخرين من المعتقلين وعندما رفعت رأسي ضربني في مقدمة حذائه العسكري في مقدمة الحنك، فانشق لساني وسال دمي ولم ينقطع، ووصلنا وادخلونا الى المعتقل ووجدنا فيه كل من ابراهيم الطويل ورزق تلو وكاظم الصفار ونوبار همبيرسوم ومحمد حسن الكرخي وعبد الرحمن موزان وهو شيوعي ابن عم احمد حسن البكر وشقيق الفنانة زينب وكثير من الشيوعيين لم تسعفني الذاكرة لمعرفة اسمائهم. حين دخلنا والدم يسيل من فمي وطلب كاظم الصفار ان يتم جلب معالج لي وفعلا اتى مضمد وبدأ بعلاجي، بقينا فترة في السجن وجاءت لجنة تحقيق مدني تتكون من قاضي تحقيق وكاتب وهو مفوض مأمور مركز شرطة كرادة مريم قبل الانقلاب المشؤوم، والقاضي اسمه محمد الخضار، وكان لدى المعتقلين اصرار بعدم البوح او الاعتراف اذا جرى التعذيب من جلاوزة الامبريالية والرجعية، وقد ذهب عدد منهم وكان واحد من المعتقلين وهو طيار اسمه (اسامة) كان يستمع لما يجريه القاضي مع المعتقل وحين ينتهي يوصي القاضي بايصاله الى المعتقل فقد جرى تعذيب واحد وهو موصلي، كان بدلا من ايصال المعتقل الى قاعة الاعتقال اخذوه الى مكان آخر ليجري تعذيبه، لكن عندما سمع الخبر امر المعتقل بتعذيب المعتقلين اخذ يعلن التوعد اذا عثر عليه داخل المعتقل واياه اذا سمع عن ذلك مستقبلا وبهذا فالطيار لم يعد له وجود وقد توارى عن الانظار عدو الانسانية الطيار اسامة. واستمر التحقيق بدون اي اهانة او كلمات جارحة للشيوعيين والديمقراطيين، حتى جاء دوري وطيب الذكر يسألني وانا اجيب.. وهناك كانت معلومات سابقة فسألني لماذا كنت تنوي السفر؟ وكانت اجابتي كأي انسان يريد ان يسافر. والى اين تريد السفر؟ الى المانيا لتعلم مهنة يمكن ان تكون هي مستقبلي. بعد ذلك تم نقلنا الى سجن بغداد المركزي ورأينا الكثير من المعتقلين د. عبد الجبار العماري، شقيق وصفي طاهر وحسن المهداوي وعبد الجبار المهداوي اشقاء الشهيد فاضل عباس المهداوي ولم اتذكر اسماء محامين وموظفين كبار ومن بينهم الرفيق عبد الامير المظفر وهو من محافظة البصرة ومن عائلة دينية، كذلك لديه اخوان شيوعيان واولاد عم ومنهم سالم المظفر الذي ما زال في الحزب تنظيم الكرادة الشرقية. استمر اعتقالي مع رفاقي الشيوعيين وبقيت الذكرى المرة والحلوة.
* اعود الى الفترة القصيرة من ليلة 9 شباط والنزول الى النهر، لقد بقي رفاقنا عند المختار وعند فترة الهدوء النسبي تنكروا بالذهاب الى السوق مع نساء ولم يجر القبض عليهم و تم اللقاء ببعضهم في محافظة البصرة.
* اعود الى القلعة الاولى في سجن بغداد المركزي إذ بقينا نحن مجموعة من الرفاق وقد قمت بتلقينهم لاغراض التحقيق الذي جرى في السجن المركزي في باب المعظم حيث بعضهم اعترف بحمل السلاح والمقاومة بمنطقة الشاكرية بمركز شرطة المأمون فتم تعديل مواقفهم وجرى اطلاق سراحهم فوراً وكان الوقت ليلاً وجاؤوا وشكروني على هذا الموقف. بقيت انا ومجموعة من الرفاق في السجن حتى انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 وخرجنا بدون كفالة.
ستبقى لعنات التاريخ تلاحق المتآمرين لقيامهم بتدمير ما حققته ثورة 14 تموز الخالدة.. وسيبقى شهداء الوطن من الضباط الاحرار وقادة حزبنا الشيوعي منارة نقتدي بنور ضيائها ليدلنا على الطريق الصحيح والقويم من اجل وطن حر وشعب سعيد.