من الحزب

أزمة حكومة أم أزمة نظام حكم؟* / رائد فهمي

الاستاذ رائد فهمي، وزير العلوم والتكنولوجيا السابق، من مواليد عام 1950 ببغداد. حاصل على شهادة البكالوريوس من جامعة لندن، مدرسة لندن للاقتصاد في 1975، في الاقتصاد القياسي والاقتصاد الرياضي، وشهادة الماجستير في العلوم الاقتصادية سنة 1977 ، من كلية كوين ماري/جامعة لندن. كما حصل على شهادة دبلوم الدراسات المعمقة (اي ما بعد الماجستير) من جامعة السوربون/ بباريس في عام 1984، وكانت رسالته بعنوان (إستقلالية السياسة النقدية في بلدٍ نفطي).عمل الاستاذ فهمي في العديد من مراكز البحوث، والمؤسسات الاقتصادية والاستشارية داخل العراق وفي الخارج. ونشر العديد من المقالات والدراسات باللغتين العربية والآنكليزية .
يعيش العراق منذ انتخابات المجلس النواب لعام 2010 والتشكيلة النيابية التي افرزتها ازمة سياسية متواصلة ومتعمقة. وكان اول مظاهرها الصعوبات في تشكيل الحكومة والتي استغرقت عدة اشهر دون التمكن حتى الوقت الحاضر من اشغال حقيبتي الدفاع والداخلية اللتين لا تزالان تداران بالوكالة. ويمثل ذلك بحد ذاته مؤشراً ذا دلالة كبيرة بالنسبة لبلد يأتي فيه توفير الأمن في مقدمة سلم الأولويات.
وعلى مدى السنوات الثلاث التي مضت من عمر حكومة «الشراكة» الوطنية، تناسلت الأزمات، تارة مع حكومة الإقليم وأخرى مع القوى السياسية « السنية» المؤتلفة في القائمة العراقية، واخرى مع حلفاء السيد المالكي وقائمة دولة القانون في اطار قائمة الائتلاف الوطني «الشيعية». وفي احيان كثيرة كانت الخلافات تندلع مع جميع هذه الأطراف في الوقت نفسه. حلفاء المالكي المتشاركون معه في الحكومة يتهمونه بالارتداد عن التعهدات والاتفاقات التي وقعها معهم في اطار اتفاقية اربيل التي تم على اساسها تشكيل الحكومة ويشكون تهميشهم في عملية صنع واتخاذ القرارات الرئيسية في البلاد، وخصوصاً في مجالات الأمن والدفاع، كما يحذرون من توجه رئيس الوزراء إلى الانفراد ومركزة السطات بين يديه، حيث يشغل مواقع رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ووزير الداخلية وكالة، كما انه عمل على تنصيب عناصر موالية له ولحزبه على رأس جميع الهيئات «المستقلة» التي ينص عليها الدستور، وآخرها ازاحته محافظ البنك المركزي العراقي.
وبالمقابل، يتهم رئيس الوزراء شركاءه بعدم الالتزام بالدستور ومطالبته بتنفيذ اتفاقات واتخاذ اجراءات خارج اطاره، كما يتهم بعض اعضاء القوائم المشاركة في الحكومة باحتضان ارهابيين والتستر عليهم ووضع بعض تسهيلات الدولة تحت تصرفهم للقيام بعمليات ارهابية، كما أشار إلى انخراط بعض شركائه في اجندات سياسية اقليمية تستهدف النيل من العملية السياسية والنظام المنبثق عنها واعادة العراق إلى اوضاع ما قبل التغيير والاجهاز على النظام العراقي الجديد الذي تقوده قوى واحزاب سياسية شيعية. وتعددت الملفات موضوع الخلاف والصراع، فمع الكرد هناك قضية كركوك والمناطق المتنازع عليها وتطبيق المادة 140 من الدستور، كما توجد مسألة رواتب وتسليح افواج «البيشمركة» في الإقليم باعتبارهم يشكلون جزءاً من المنظومة الدفاعية للعراق كما يقول الكرد، وهو ما تعترض عليه الحكومة الاتحادية لكونهم ليسوا تحت امرة القائد العام للقوات المسلحة، إضافة إلى عدم الاتفاق حتى الآن بشأن مشروع قانون النفط والغاز وهذه قضايا عالقة منذ الدورة السابقة للحكومة، اضيفت لها مشكلة العقود النفطية التي وقعها الإقليم مع شركات عالمية دون التشاور مع الحكومة الاتحادية وبخلاف موقف ورأي وزارة النفط العراقية، ومن ثم تصدير بعض النفط المستخرج في الإقليم دون المرور بالقنوات الاتحادية، وتشكيل قيادة قوات عمليات دجلة في كركوك وديالى والتي كاد الخلاف بشأنها يصل حد الصدام العسكري. اما مع شركائه من القائمة العراقية (ذات الهوية السنية)، فقد اشتدت بعد تحريك الوزراء ملفات الاتهام بالارهاب ضد نائب رئيس الجمهورية، طارق الهاشمي، وضد افراد حماية وزير المالية المستقيل رافع العيساوي. وكانت الخطوة الأخيرة سبباً مباشراً لانطلاق تظاهرات واعتصامات حاشدة في المحافظات ذات الأغلبية السنية في غرب العراق، محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى، كما شملت ايضاً محافظتي كركوك وديالى، وبدرجة اقل بعض مناطق بغداد ذات الصفة الغالبة السنية. تشمل مطالب المتظاهرين اطلاق سراح المعتقلين والموقوفين الأبرياء، وخصوصاً النساء، ومراجعة، أو الغاء بالنسبة لمواقف الاطراف الأكثر تطرفاً، لقانوني المساءلة والعدالة (الذي حل محل قانون اجتثاث البعث) ومكافحة الارهاب. وترفع القوى الأكثر تطرفاً القريبة من حزب البعث والقاعدة، اسقاط الدستور والعملية السياسية وحكومة «الشيعة» الخاضعة للنفوذ الايراني. ويشترك الطرفان الممثلان للمكونين الكردستاني والسني في مطالبة الحكومة والائتلاف الوطني بتحقيق «التوازن» في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، اي تأمين مشاركة عادلة في مختلف المرافق القيادية للدولة وفق مبدأ المحاصصة الإثنية والطائفية السائد.
وبموازاة هذه الخلافات مع الشركاء خارج التحالف الشيعي الحاكم، ظهرت اختلافات حادة بين التيار الصدري الذي يقوده السيد مقتدى الصدر وكتلة «الأحرار» النيابية التابعة له مع السيد المالكي وكتلة دولة القانون التي يرأسها.وعلى مدى الشهور الماضية فشلت جميع المحاولات والمبادرات لإيجاد حلول للأزمة، كفكرة اجراء حوارات وطنية شاملة تمهد لعقد مؤتمر او لقاء وطني عام للقوى المشاركة في العملية السياسية، كما لم تحظ فكرة الأنتخابات المبكرة بالدعم الكافي للقيام بها رغم التلويح بها من قبل جميع الكتل بين آونة وأخرى. كما لم تنجح محاولة «خصوم» المالكي في تنحيته من رئاسة الوزارة رغم تضافر جهودهم. ويبدو ان موقف الرئيس الطالباني ومساعي ايرانية وموافقة امريكية ضمنية حالت دون ذلك. وقد تفاقمت الأزمة منذ عدة شهور بالارتباط مع تواصل التظاهرات والاعتصامات في المحافظات الغربية منذ أكثر من ثلاثة شهور، وقيام العديد من وزراء القائمة العراقية بالتوقف عن حضور اجتماعات مجلس الوزراء تضامناً مع مطالب المتظاهرين، كذلك الأمر بالنسبة للوزراء الكرد بعد التصويت على الموازنة العامة في مجلس النواب رغم اعتراضهم ، ما شكّل لأول مرة تجاوزا على مبدأ التوافق في التصويت على الموازنة. كما انسحب ايضا الوزراء الصدريون من اجتماعات مجلس الوزراء لتصويت المجلس على قرارات اعترض عليها السيد مقتدى الصدر بشدة، رغم تصويت وزرائه عليها، كاستبدال البطاقة التموينية ببدل نقدي. وقد انسحب التردي في العلاقات بين القوى السياسية الى البرلمان، فتعثرت اعماله، وبات يجد صعوبة في تحقيق النصاب الكافي لعقد جلساته، ناهيك عن مناقشة واقرار قوانين مهمة.
ولم يكن تفاقم التوتر في العلاقات مابين القوى المتشاركة في الحكم، منعزلاً عن تطور الصراع في سوريا وتنامي قوة الاتجاهات الاسلامية المتطرفة، من انصار جبهة النصرة، داخل القوى المعارضة لنظام بشار الأسد. وتثير هذه التطورات قلقا شديداً لدى الحكومة العراقية وفي ايران، وكلاهما يعتبر الربيع العربي «خريفا» يهدد بهيمنة اصولية اسلامية طائفية تحظى بدعم من قطر و تركيا بشكل خاص، وبقبول امريكي. وتعتبر القوى الاسلامية الحاكمة في العراق وفي ايران ان حكمهم سيكون مهدداً في حال سقوط النظام الحاكم في سوريا ، وتجد في الاحتجاجات الجارية في المحافظات الغربية العراقية جزءاً من هذه الاجندة التي تستهدف نظام الحكم في العراق، وما المطاليب التي ترفعها إلا غطاء لهذا المخطط.
طبيعة الأزمة
لقد بات واضحاً ان الأزمة عميقة، متعددة الاوجة والأبعاد، ويتفق الجميع، بما في ذلك قادة الكتل السياسية الماسكة بزمام الأمور في البلاد، على التشخيص كما لا يختلف الكثيرون على انها من العمق والشدة بحيث اصبحت مفتوحة على جميع الاحتمالات، بما في ذلك تحوّل الإحتقانات الطائفية والإثنية إلى نزاعات مسلحة، وقد اشر احتمال الحرب الأهلية رئيس الوزراء نفسه في أكثر من مناسبة، كما تنامى الشعور بأن الوحدة الوطنية ووحدة البلاد يمكن ان تتعرضا إلى التهديد في حال استمرار الأزمة وتصاعدها. وترافقت الأزمة مع اشتداد الاحتقان الطائفي وتدهور الوضع الأمني وظهور دعوات لاعادة الميليشيات المسلحة في بعض المناطق وازدياد عمليات الاغتيال والتصفية لسياسيين وعناصر امنية وشخصيات اجتماعية ومهنية.
وإذا ما نظرنا إلى الازمة السياسية المستحكمة بالترابط مع عملية بناء دولة مشوهة نجم عنها دولة مترهلة تفتقر إلى الكفاءة والفاعلية، تنتج الفساد وتعيد انتاجه في مختلف مفاصلها، ولا تمتلك رؤية موحدة واضحة في الميادين الاجتماعية والاقتصادية والمالية وفي مجال السياسة الخارجية، وفي خلفية ذلك، تقاطعات صارخة ما بين القوى المتشاركة في السلطة في فهم وتفسير وتطبيق مواد الدستور، الوثيقة المؤسسة للنظام السياسي الديمقراطي الاتحادي، نخلص من كل ذلك إلى ان عجز القوى المتشاركة في السلطة عن التوصل إلى تسويات وحلول للمشاكل القائمة انما يشير إلى امتداد جذور الأزمة السياسية إلى طبيعة نظام الحكم الذي يعتمد المحاصصة الطائفية والإثنية في رسم ملامح الدولة العراقية وفي بناء مؤسساتها والعلاقات السياسية بين القوى المتنفذة. فالأزمة هي اذن ازمة حكومة وأزمة نظام حكم المحاصصة في آن معاً.
أزمة نظام المحاصصة أم أزمة الديمقراطية التوافقية ؟
في الفترات الأخيرة، صدرت تصريحات لقادة سياسيين من مختلف الانتماءات والمواقع في الطيف السياسي العراقي، تنتقد المحاصصة وتحمّلها مسؤولية سوء اداء اجهزة الدولة واستمرار الصراعات بين اركان الحكم على السلطة والنفوذ والامتيازات، ولكنهم في الوقت نفسه يعبرون عن اضطرارهم للقبول بها بسبب التركيبة البنيوية للقوى السياسية القائمة على الهوية الإثنية والمذهبية. واقوى الشكاوى صدرت عن رئيس الحكومة الذي اعتبر المحاصصة عنصر تعطيل لبناء الدولة ولعملية اتخاذ القرار، كما انها تسمح لعناصر غير كفوءة وغير نزيهة بتبوؤ مناصب عليا في الدولة، واعلن عن رغبتة وسعيه للتحرر منها ومن العمل بمبدأ التوافق واقامة حكومة أغلبية.
إن مسلسل الازمات التي يواجهها العراق واستمرار حالة اللااستقرار والعنف والتوتر بين القوى السياسية والاحتقان الطائفي واضطراب العلاقة ما بين الحكومة الاتحادية واقليم كردستان، تؤشر فشل عملية بناء الدولة وتشكيل مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية على وفق مبدأ التقاسم والتشارك في السلطات على اساس التحاصص الإثني والطائفي. وقد اعتبر العديد من صانعي القرار في العراق والولايات المتحدة ومن المنظرين في مجال العلوم السياسية ان العملية السياسية في العراق تستلهم نموذج الديمقراطية التوافقية الذي وضعه المنظّر الهولندي في العلوم السياسية (ارنت ليبهارت).
مبادئ التوافقية والعوامل المساعدة على نجاحها
يطرح نظام الديمقراطية التوافقية كطريقة لبناء الديمقراطية في مجتمعات منقسمة اثنيا وطائفياً (متعددة)، من خلال مؤسسات سياسية تقر بالاختلاف بين المكونات الإثنية وتدير النزاعات في ما بينها.
وتختلف الديمقراطية التوافقية عن الديمقرطية القائمة على حكم الأغلبية، بتأكيدها بناء التوافقات بين المجموعات الإثنية المختلفة، وتستند إلى اربعة معايير (1):
-1 الحكم من خلال ائتلاف واسع من الزعماء السياسيين من كافة المكونات في المجتمع المتعدد الإثنيات والطوائف.
-2 الفيتو المتبادل أو حكم « الأغلبية المتراضية» لكون ذلك يشكل حماية اضافية لمصالح الأقلية الحيوية ويشجع المكونات للتوصل الى حلول متوافق عليها، ووضع شروط اغلبية عالية لتمرير تشريعات مختلف عليها. واعتماد آليات للتعاون عابرة للطوائف والمكونات.
3- النسبية كمعيار أساسي للتمثيل، التعيينات في مجالات الخدمة المدنية، تخصيص الأموال العامة، نظام انتخابي يعتمد التمثيل النسبي.
4- درجة عالية من الاستقلال لكل قطاع أو مكون في ادارة شؤونه الداخلية الخاصة، كاستقلال ذاتي للمكونات الإثنية عبر اقامة اقاليم اتحادية . ولا ينحصر الاستقلال باقامة مناطق منفصلة ماديا، فبالنسبة للمناطق المختلطة يمكن ان يتخذ شكل التحكم في التمويل الإقليمي لموارد المكون، كإقامة المدارس والمؤسسات الثقافية. بما يعكس اعتراف الحكومة بالخصوصيات ويساعد في تمكين المكونات من ممارسة تقرير شؤونهم.
وفي ضوء الدروس والاستنتاجات المستخلصة من التجارب الناجحة في هولندا وجنوب افريقيا وايرلندة الشمالية وغيرها، تم تحديد العوامل المؤاتية الآتية التي يساعد توفرها على نجاح نظام التوافقية (2):
1- التعاون بين النخب السياسية.
2- الفصل الطوعي والعزل ما بين المكونات، (الجغرافي أو سواه). التصور والتقدير المشترك للتهديدات الخارجية.
3- توازن قوى متكافئ بين القطاعات والمكونات.
4- حجم سكان صغير للبلد.
5- فاعلون خارجيون ايجابيون وغير منحازين.
التوافقية في الدستور العراقي
ويمكن تشخيص بعض عناصر نموذج الديمقراطية التوافقية في الدستور العراقي حيث تضم مواده بعض النصوص الداعية إلى التوافق ، كالمواد المتعلقة بالبناء الفدرالي ومنح استقلالية ذاتية إلى الكرد ولامكانية انشاء اقاليم جديدة، وتوزيع الصلاحيات بين الحكومة الاتحادية والأقاليم كما في المادتين 120 و121 . كما يتيح الدستور تشكيل ائتلاف واسع من النخب الحاكمة في المادة (62) التي تدعو إلى ايجاد المجلس الاتحادي التشريعي الذي يضم ممثلين عن الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم. كما تنسجم مع مبادئ التوافق المادة (105) الداعية إلى مشاركة عادلة في ادارة مؤسسات الدولة والبعثات والزمالات المختلفة والوفود والمؤتمرات الدولية والإقليمية، بحيث تتمثل فيها الحكومة الاتحادية والإقليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، ولكن الدستور لم يحدد طريقة تحقيق هذه الأهداف ما قد يخلق مشاكل في التطبيق. ثم جاءت قوانين انتخابية تعتمد مبدأ النسبية كما يدعو له نموذج الديمقراطية التوافقية.
بالمقابل لم ترد في الدستور احكام تضمن فيتو للأقليات، كما لم ترد اي اشارة إلى التوافق كآلية او شرط لتمرير القوانين واتخاذ القرارات والمواقف بل نص على شرط توفر الاغلبية، والتي قد تكون بسيطة او مطلقة او أغلبية الثلثين حسب المواد والمواضيع قيد البحث.
فإذا كان الهدف من النظام التوافقي
Consociation هو تحقيق الاستقرار ومنع اندلاع النزاعات بين المكونات وازالة التوترات بينها، وبناء الديمقراطية، فان اشتداد الاحتقان وارتفاع نبرة التجييش الطائفي في الحملة الآنتخابية لمجالس المحافظات وتصاعد وتائر العنف الذي يحمل دوافع طائفية، وخصوصاً خلال فترة الاحتراب الطائفي قي سنتي 2007-2006، انما يؤشر حالة فشل، وهذا ما سجله عدد من الباحثين والمهتمين في الشأن العراقي (3).
ملاحظات تقييمية لتجربة التوافقية في العراق
ويعزى فشل نظام التوافقية حتى الآن إلى مجموعة من العوامل، اهمها فالنخب السياسية لم تتحل بالمرونة والميل والاستعداد لاعتماد الحوار وتقديم التنازلات المتبادلة وتغليب المصلحة الوطنية العليا على الاعتبارات الفئوية ومصالح الجماعة التي تنتمي لها تلك القيادادت، فطغت لغة التشدد والتصلب في المواقف والعصبية الضيقة، وجرت المطابقة التعسفية ما بين مصالح القيادات و«النخب» الحاكمة ومصلحة المكون الذي تنتمي اليه، كما لم يكن لقيادات العملية السياسية المنتمية للمكونات المختلفة تصور مشترك وموحد للتهديدات الخارجية. فكان الاختلاف في النظرة للتدخل الخارجي وفي الموقف من القوى الدولية والإقليمية. فالولايات المتحدة وايران وتركيا وسوريا وبلدان الخليج تعتبر صديقا وحليفاً للبعض ، فيما يعتبرها البعض الآخر عدواً، او مصدر تهديد رئيس لأمن وسيادة ووحدة العراق. وللسبب نفسه لم يتوفر ذلك العامل او الفاعل الخارجي الذي يحظى بثقة وتعاون جميع الأطراف والقادر على المساعدة في اسناد وتذليل المصاعب التي تواجه عملية تحقيق التوافقات الوطنية. اما الشروط الموضوعية الأخرى المتعلقة بحجم البلد والوزن النسبي للمكونات المختلفة، فهي لا تنطبق على العراق، في ما يعتبر عامل الانفصال والتمايز بين المكونات، الجغرافي او سواه، متحققا الى حد كبير بالنسبة للكرد، ومتحققاً جزئياً بالنسبة للانتماء المذهبي في بعض المحافظات ولكنه غير قائم في المحافظات العراقية المختلطة كبغداد وديالى.
واعتبرت بعض الدراسات والتحليلات، ان الاجراءات التي تم بموجبها تنفيذ عملية صياغة الدستور ومن ثم التصويت عليه لم تكن موفقة في خلق ظروف التوافق الوطني وغرس الثقة بالعملية السياسية، وخصوصاً لدى ممثلي المكوّن السني. فمن المعلوم ان المحافظات ذات الأغلبية السنية قد قاطعت العملية السياسية وعملية صياغة الدستور، ولكن تم ضم عدد من الشخصيات السياسية والاجتماعية التي تنتمي إلى المحافظات التي قاطعت الانتخابات إلى لجنة صياغة الدستور وجرى الأخذ ببعض مقترحاتهم وآرائهم. اما بالنسبة لبعض التعديلات الجوهرية التي تتعلق ببناء الدولة وهويتها وطبيعة النظام السياسي وغيرها التي كان يتعذر حسمها ضمن الآماد الزمنية المقررة لصياغة واقرار الدستور، فقد تمت معالجتها بادراج المادة 142 في الدستور التي تنص على تشكيل لجنة نيابية تضم ممثلين للمكونات الرئيسة في المجتمع، تقوم بتقديم توصية بالتعديلات الدستورية الضرورية الواجب اجراؤها على الدستور، على ان تقدمها خلال فترة اربعة شهور إلى المجلس لاقرارها دفعة واحدة. وقد تم تشكيل تلك اللجنة بالفعل ومارست عملها لعدة سنوات وتوصلت إلى اتفاقات لأكثر من 80 % من القضايا التي تمت مناقشتها، ولكنها لم تستطع التوصل الى اتفاق في القضايا المتبقية، فلم تستطع تقديم توصيتها بالتعديلات دفعة واحدة، وظل الموضوع معلقا حتى الآن.
من ناحية أخرى، ليس من الصحيح اعتبار المواقف ونتائج التصويت في تلك المحافظات وكأنها معبرة بصورة ثابتة عن رأي الغالبية فيها. فالمواقف المتشددة في رفض الدستور والعملية السياسية قد تغيرت لدى اوساط غير قليلة منهم، انعكست على مشاركتهم في العملية السياسية وفي الانتخابات النيايبة ولمجالس المحافظات في الدورتين، الماضيتين وفي تبدل الموقف من الفدرالية. لذا من المرجح ان انماط التصويت قد طرأ عليها تغيير ملموس وذو شأن خلال السنوات الأخيرة لدى الاوساط المعتدلة من اهالي المحافظات ذات الأغلبية السنية، مع بقاء تحفظات على بعض مواد الدستور، وهي ليست جوهرية كما يعتقدها بعض الرافضين للدستور.والاستنتاج الأرأس الذي استخلصته بعض الدراسات للتجربة العراقية يرى في الديمقراطية التوافقية صيغة لا تزال ممكنة التحقيق في ظروف العراق شرط ان تحسن ادارتها ووضع الاجراءات المناسبة التي تنسجم مع روحيتها وهدفها الرئيس في اقامة الديمقراطية وتثبيت الاستقرار، كما يجب السعي لتأمين العوامل المساعدة بقدر ما يتعلق الأمر بالاطراف العراقية.
خلاصة واستنتاجات وتوجهات للخروج من الأزمة
ثمة انتقادات اساسية توجه إلى المنطلقات والمرتكزات الفكرية لنظرية الديمقراطية التوافقية (4)، نتناولها بصورة مكثفة.
من الجدير بالملاحظة ان النظرية تؤكد اقامة ائتلافات «للنخب» الممثلة للمكونات والقطاعات المجتمعية الرئيسية. تتحقق من خلالها المشاركة في الدولة على جميع المستويات، اضافة إلى التشجيع على تحقيق الاستقلالية الذاتية للقطاعات والمكونات الإثنية والطائفية. وقد وجد ذلك ترجمته العملية في التجربة العراقية باعتماد النظام المتبع حاليا للمحاصصة الحزبية والسياسية في توزيع السلطات والمسؤوليات والموارد، والذي يعتبر المسؤول الاساسي عن الفشل في اداء الدولة الخدمي والاداري واستشراء الفساد وتأجيج الصراعات تغذية التعصب الإثني والطائفي، وتراجع عملية الاندماج الوطني وانحسار الهوية الوطنية لصالح الهويات الثانوية وتخلخل وتشظي عملية صنع القرار على الصعيد الاتحادي، والاضطراب وعدم الانسجام في العلاقة بين الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم من جهة، والحكومة الاتحادية من جهة اخرى، وضعف وعدم كفاءة آلياتها. وهذه النتائج ليست مستغربة،إذ يتضمن المشتركات ويثبت الرؤية الموحدة للدولة والحكومة. وفي غياب مثل هذا البرنامج، من الطبيعي ان يكون عمل مفاصل الدولة غير منسجم وتكون الأولويات مضببة وترتبك عملية صنع القرار ورسم السياسة العامة للدولة.وإذ يؤكد واقع العراق المجتمعي التعددي ضرورة ضمان المشاركة الفاعلة لمكوناته الرئيسية في الدولة والحكومة على مختلف المستويات، فان ذلك لا يعني تحقيق ذلك عبر نظام المحاصصة الراهن حصراً. فالتمثيل والمشاركة لا بد ان يكونّان مفردتين أساسيتين لأي برنامج حكومي، ويمكن التوصل عبر الحوارات ودراسة التجارب الناجحة والاستعانة بالخبرات المتخصصة الى صيغ وحلول تجسد هذه المشاركة لمختلف القطاعات المجتمعية والمكونات مؤسسياً بشكل ينسجم مع مبدأ المواطنة ومعايير الكفاءة والنزاهة، ووفقا لما تفرزه العملية الانتخابية، خلافا للنهج الحالي الذي يختزل المكوّن ، تعسفاً، بالحزب او الاحزاب التي تحمل هوية ذلك المكون، ويجري توزيع واقتسام السلطات والمنافع ما بينها. كما ان النظرية تؤكد الهوية الجمعية وتقلل من شأن التمايزات الاجتماعية  الاقتصادية والفكرية- السياسية داخل كل مكوّن وتتغافل عن حركة تطورها الداخلي وما يترتب عليها من تعددية لا تعكسها الصيغ الاحادية للتمثيل، القائمة على الهوية.
واذا ما اخذنا بعين الاعتبار ان المطلوب في المجتمعات المتعددة هو ايجاد الاطر المؤسسية وآليات العمل واسس توزيع السلطة والموارد بما يحقق هدف الاطار الوطني الجامع الذي يعترف ويحترم التنوع ويضمن حقوق ومصالح القطاعات المختلفة ويؤسس لحالة انسجام بين الهوية الخاصة لكل مكون والهوية الوطنية الجامعة، وهذا يفترض وجود الرغبة في العيش المشترك. وقد اصبح اليوم الحفاظ على هذه الرغبة، او الارادة، في العيش المشترك وانعاشها لدى جميع مكونات الشعب العراق احد التحديات والمهام الكبرى التي تواجه البلاد وقواها السياسية والاجتماعية الفاعلة في ظل الازمات المتوالية وازدياد التوترات وضعف الرغبة الجادة للأطراف المختلفة في اعتماد الحوار وتفهم الآخر والسعي للوصول إلى تفاهمات مشتركة.ان اصلاح الأوضاع وتغييرها باتا امراً ضرورياً وملحا ومطروحا على جدول أعمال البلد. وهذه الموضوعات حضرت جزئياً في انتخابات مجالس المحافظات ، وستكون أكثر حضوراً في انتخابات مجلس النواب القادمة. ثمة طروحات تعتبر الحل يكمن في الانتقال إلى نظام أغلبية سياسية. الدستور يسمح بذلك ولكن هذه الرؤية تظل قاصرة ما لم تضمن المشاركة وحقوق وتطلعات المكونات المختلفة، إلى جانب المصالح العامة للشعب. خلاف ذلك، سيعتبر الحديث عن الأغلبية اقصاء للآخرين وهيمنة لمكوّن. بالمقابل هناك من يدعو إلى اسقاط التجربة والدستور ويروج بدائل مشدودة إلى الماضي تفرط بالديمقراطية والحريات، وهو امر غير مقبول ايضاً. فالتوجه نحو تعزيز الدولة المدنية والمؤسسات الديمقراطية اصبح بمثابة مكتسبات اجتماعية سياسية موضع قبول ورضا وتأييد متزايد الاتساع، ويجري البحث عن الحلول على اساسها وليس بالنكوص عنها. ويمثل تكريسها ودفعها إلى امام وتطويرها رهاناً اساسياً في الصراعات الجارية ومحورا رئيسياً يحدد آفاق تطور الأوضاع في العراق مستقبلاً.
الهوامش:
(1) آرنت ليبهارت، الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، ترجمة حسني زينة، معهد الدراسات الاستراتيجية، بغداد- بيروت 2006
John McGarry and Brendan O›Leary. «Consociational Theory، Northern Ireland›s Conflict، and its Agreement. Part 1: What Consociationalists Can Learn from Northern Ireland،» Government &Opposition، 41 (2006) 43-63.
Ashley A. Rees، «WHY CONSOCIATIONALISM HAS NOT UNITED IRAQ»، Thesis Presented to the Department of Political Science and the Clark Honors College of the University of Oregon، May 2007
Paul DIXON، «Is Consociational Theory the Answer to Global Conflict From the Netherlands to Northern Ireland and Iraq»، Political Studies، Review :2011، 9(3)

*قدمت هذه الورقة في سيمينار حول الوضع في العراق وموقف دول الجوار منه، أقيم في باريس  في ٢٢ نيسان 2013، بمشاركة باحثين عراقيين وفرنسيين.