من الحزب

نحو عقد وطني سياسي- اجتماعي لترصين اللحمة الوطنية

كنا في الحزب الشيوعي العراقي قد تبنينا وثيقة متكاملة تعالج الجوانب المختلفة ذات الصلة بالمصالحة الوطنية والمجتمعية، ونظراً لاهمية وراهنية هذا الملف الحساس وللادراك العميق بان احراز تقدم فيه سيترك آثاره الايجابية على المناحي الاخرى ويسهم في تجفيف منابع الارهاب وتفكيك حواضنه والحاق الهزيمة به، بما يفضي الى استعادة الامن والاستقرار والحياة الطبيعية اللازمة لانطلاق عملية الاعمار والبناء وغذ السير الى امام نحو اقامة الدولة المدنية الديمقراطية، دولة المواطنة والمؤسسات والقانون، فقد جرى تدقيق تلك الوثيقة بما يواكب التطورات الحاصلة، وجرى تضمينها الآليات الميسرة لتحقيق ما تضمنته من اهداف. وبالنظر الى أهمية هذه الصيغة المحدثة للوثيقة التي صدرت عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في تموز 2017، تقوم "طريق الشعب" بنشرها كاملة :
نحو عقد وطني سياسي- اجتماعي لترصين اللحمة الوطنية
يكتسب موضوع ترميم التصدع الحاصل في الوحدة الوطنية العراقية اهمية متزايدة، لا بل يحتل الصدارة بين الأولويات التي تواجه الحكومة والبرلمان والكتل السياسية المشاركة فيهما، وعموم قوى الشعب السياسية ومنظماته الاجتماعية والمهنية والثقافية. ويبرز هذا خاصةً في الظروف الايجابية الجديدة، التي أحدثتها الانتصارات العسكرية والأمنية الباهرة على تنظيم الدولة الإسلامية، وكان آخرها تحرير مدينة الموصل الباسلة، وانتعاش الميل نحو الانفتاح في المجتمع عامة، و تنامي روح اللحمة الوطنية والإنشداد أكثر فأكثر نحو الفضاء العابر للطائفية، واتساع حالة رفض التطرف والتخندق الطائفي والمناطقي لدى الملايين من السكان، خصوصا في المناطق التي وقعت تحت سيطرة داعش، وبشكل لم تشهد البلاد مثيلا له منذ سنوات عديدة.
ويشكل الإعلان الرسمي المتسع لدول المنطقة عن إدانتها للإرهاب، وإبداؤها الاستعداد للتصدي له، بغض النظر عن الجدية في هذا الاعلان، عاملا ايجابيا جديدا يسهم في خلق أجواء ايجابية داخلية تساعد في عملية رأب الصدع في البناء الوطني.
هذا إلى جانب إبداء أطراف دولية عديدة في مقدمتها منظمة الأمم المتحدة، استعدادها للنهوض بالدور المطلوب في هذه القضية الهامة.
وهناك ايضا الدروس المستخلصة من مسار العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية والاثنية المحفوف بالأزمات، والذي كان من أهم تجلياته تفاقم مظاهر الفشل في عملية بناء الدولة وأداء مؤسساتها، وفي استشراء الفساد في مفاصلها، فضلا عن السقوط الصادم والمدوي للموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، بيد عصابات داعش الإرهابية، وما صاحبه من انهيارات في الإدارة المحلية المدنية وفي وحدات القوات المسلحة المسؤولة عن حمايتها. يضاف الى ذلك اشتداد المعاناة المعيشية لفئات واسعة من شعبنا بسبب تردي الخدمات، بل وغيابها في الكثير من الأحياء والمناطق التي تسكنها الفئات المهمشة.
وبالنظر إلى التحديات الجسيمة التي يواجهها العراق على الصعد العسكرية - الأمنية والسياسية والاقتصادية - الاجتماعية والثقافية، لم يعد ممكنا توقع تحقيق نجاحات فعلية على طريق المصالحة الوطنية، بشقيها السياسي والاجتماعي، من دون ربطها بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري، وبالتوجه الجاد نحو اجراء تغيير في البنية السياسية القائمة على نهج وآليات المحاصصة الطائفية والأثنية، والمسؤولة عن إنتاج الأزمات، والعاجزة عن إيجاد الحلول لمشاكل البلاد الكبرى.
ومنذ التغيير في عام 2003، تم اتخاذ العديد من الخطوات في إطار العدالة الانتقالية، وإن لم تشكل بمجملها سلسلة متكاملة، وتحققت إنجازات في مجال كشف الحقائق وجبر الضرر الفردي والجماعي، شملت محاسبة مسؤولي النظام السابق، ورد الاعتبار السياسي والمعنوي لضحاياه، وتعويضهم وعوائلهم وتشكيل مؤسسات خاصة بالشهداء والسجناء والمهجرين وإعادة الممتلكات المصادرة. وفي الوقت الحاضر نحتاج إلى مواصلة إنصاف اسر شهداء وضحايا المعارك ضد الإرهاب ولتحرير الأراضي، وتقديم كل أشكال الدعم المعنوي و المادي لها تقديرا للتضحيات الكبيرة التي قدمتها من اجل العراق. كذلك التعجيل بإعادة النازحين والمهجرين إلى مدنهم وديارهم وإعادة اعمارها وتعويضهم عن الخسائر التي لحقت بهم، والعمل على وقف عمليات الخطف وإخلاء سبيل كافة المخطوفين. فمن شأن ذلك أن يخلق بيئة حاضنة للمصالحة وأمزجة ايجابية مستعدة وقادرة على تجاوز ارث الماضي الثقيل.
إن من شأن إحراز تقدم في هذا الملف الحساس أن يوفر المستلزمات المادية والسياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، الضرورية لتجفيف منابع الإرهاب وتفكيك حواضنه واستئصال جذوره وإلحاق الهزيمة الشاملة به، وبالتالي استعادة الأمن والاستقرار والحياة الطبيعية اللازمة لانطلاق عملية الأعمار والبناء، والسير بخطوات ثابتة نحو بناء مؤسسات الدولة.
وبعد تحرير الموصل والمناطق الأخرى التي تم طرد عصابات داعش منها، تبرز إلى المقدمة مهمات ملحة تنطوي على تحديات كبيرة على صعيد مسك الأراضي المحررة وتأمين الإدارة السليمة لها، بما يضمن عودة الأمن والاستقرار إليها والتعجيل في توفير المستلزمات الضرورية لعودة أهاليها من النازحين والمهجرين، والشروع بعملية إعادة الأعمار والبناء.
ويمكن لعملية المصالحة الوطنية والمجتمعية أن تتسارع، أو أن تنتكس، ارتباطا بمدى سلامة الإجراءات المتخذة وكفاءتها وعدالتها ونزاهتها وشموليتها، ومدى نجاحها في توجيه رسائل تطمين لأهالي هذه المناطق، وفي ترميم النسيج الاجتماعي وإعادة لحمته، وفي قطع الطريق أمام الأعمال الثأرية التي يمكن إن تؤدي إلى انفلات أمني واشاعة الفوضى.
وفي رأينا أن ذلك يتطلب نهجا جامعا نابذا للطائفية وللتعصب بجميع أشكاله: الاثني والديني والمذهبي والعشائري والمناطقي، كما يتطلب فرض سلطة القانون وضبط عمل التشكيلات المسلحة على اختلافها في إطار الدولة، وضمان الإدارة السليمة والنزيهة لعملية إعادة الأعمار.
ومن أجل أن يكون الانتصار العسكري على داعش في الموصل إعلانا عن اقتراب موعد الانتهاء من ملف الإرهاب في العراق، ووضع البلاد بثبات على سكة معالجة المشاكل وحل الأزمات التي تحاصر الدولة والمجتمع، ووضع مرتكزات راسخة للانطلاق نحو تحقيق الإصلاح والتغيير المنشودين بما يدفع أوضاع البلاد إلى أمام نحو تحقيق الأمن والاستقرار والأعمار والازدهار، يجدر اتخاذ منظومتين مترابطتين من الخطوات والإجراءات. الاولى تعنى بالإصلاح والتغيير في البنية السياسية والاقتصادية الاجتماعية، والأخرى تشمل الإجراءات والتشريعات الضرورية لإعادة بناء الثقة بين أطياف المجتمع، وإزالة الحيف والشعور بالغبن عند من انتهكت حقوقه وتعرض لممارسات منافية للدستور ولحقوق الإنسان. وهذه بمجموعها يمكن أن تشكل مفردات عقد وطني، سياسي- اجتماعي يفضي إلى:
• انهاء المحاصصة الطائفية، ومحاربة الفساد السياسي والمالي والاداري بحزم، والتوجه نحو بناء دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية ومغادرة دولة المكونات.
• الحرص على الحد من التدخلات الأجنبية أيا كان مصدرها ولونها وأياً كانت دوافعها.
• معالجة الخلافات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وفقا للدستور العراقي، وحل مشكلة المناطق المتنازع عليها بموجب المادة 140 من الدستور وحسب إرادة أهاليها الحرة، ومعالجة قضايا تصدير النفط والبيشمركه وضبط الحدود ورسوم الكمارك وغيرها.
• حصر السلاح والعمليات المسلحة بيد الدولة وأجهزتها المخولة، من خلال المعالجة المسؤولة لقضية التشكيلات المسلحة والميليشيات غير النظامية، وفقا لما نص عليه الدستور، وذلك من خلال تفعيل القرارات والأوامر الصادرة بهذا الشأن، وتأمين الإطار القانوني والصيغ والآليات السليمة لوضع الحشد الشعبي في إطار الدولة، بما يحفظ وحدة عمل القوات المسلحة على أساس العقيدة الوطنية.
• معالجة وضع التشكيلات العسكرية لأبناء العشائر، التي كان لها دور مشهود في إلحاق الهزيمة بفلول الإرهاب، وذلك بضم الراغبين منهم إلى القوات المسلحة.
• حسم الصراع حول الهيئات المستقلة بما يضمن تشكيلها على أساس الكفاءة والنزاهة ويؤمّن استقلاليتها الفعلية.
• حسم موضوعي مجلس الخدمة والمحكمة الاتحادية.
• كذلك الإسراع في تشريع القوانين المهمة لاستكمال بناء الدولة الديمقراطية وضمان حسن سير عملها. ومن الأهم هنا تشريع قانوني النفط والغاز والضمان الاجتماعي، وتعديل قانوني الأحزاب والانتخابات، وإقرار قانون المجلس الاتحادي والتشريعات التي تتعلق بالحريات والتأمينات الاجتماعية والحقوق العامة والخاصة. لكن الأكثر إلحاحا على المدى القصير هو إقرار مشروع عادل للانتخابات.
• تبني سياسة اقتصادية واجتماعية تنموية، تشجع قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات الإنتاجية، وتحسن الاستفادة من موارد البلاد البشرية، وتعمل على تقليص الطابع الريعي للاقتصاد العراقي.
• تفعيل دور القضاء العراقي واحترام استقلاليته.
• إصلاح المناهج التعليمية في اتجاه ترسيخ قيم المواطنة والتسامح واحترام الآخر ونبذ التعصب، وإصدار التشريعات الضامنة لحقوق الطفل والتي تعزز دور ومشاركة المرأة في المجتمع وتمكينها من مشاركة أكبر في إدارة الدولة والشأن العام.
• إعادة النظر في وضع هيئة المساءلة والعدالة وفقا لروح الإنصاف والمصالحة الوطنية، والنظر في إمكانية حلها أو تعديل قانونها وتضمينه سقفا زمنيا لإنهاء عملها في حال إلابقاء عليها.
• التطبيق الجدي لقوانين العفو، ومعالجة ملف السجناء والمعتقلين والهاربين في إطار القانون والدستور.
• إعادة قراءة قانون مكافحة الإرهاب، وتكييف او تدقيق مواده بما يساعد على خلق أجواء أكثر ايجابية للحوار والتفاهم.
• الاستمرار في إنصاف اسر شهداء وضحايا النظام الدكتاتوري السابق وأسر ضحايا الإرهاب. وبجانب ذلك تبرز الحاجة الى اتخاذ إجراءات جدية لاستعادة و تعزيز التلاحم الوطني، من خلال مراعاة حقيقة أن الـمأساة الوطنية التي سببتها العمليات الإرهابية، طـالت عموم أبناء شعبنا وأعاقت بناء الوحدة الوطنية ومسّت بشكل مباشر أو غير مباشر حـيـاة الـملاييـن من الـمواطنيـن. لذا فان الواجب الوطني يحتم العمل على تفادي نشوء الشعور بالإقصاء في نفوس الـمواطنيـن، الذين لم يكونوا مسؤوليـن عـما أقدم عليه ذووهم من خروج على الدولة والقانون. كما ينبغي للمصالحة الوطنية أن تشمل الاهتمام بالأسر التي كان لبعض منتسبيها ضلع في ممارسة الإرهاب، واتخاذ تدابير تجسد التضامن الوطني مع المحتاجين من الأسر المذكورة، التي عانت من الإرهاب جراء تـورط ذويها.
• استيعاب العناصر الوطنية في الجيش وجهاز الشرطة السابقين، في أجهزة الدولة.
• ضرورة خلق الظروف والأجواء المناسبة لتفعيل المبادرة الشعبية وتعبئة الجماهير، وتحويل المصالحة الوطنية الى تيار شعبي وطني جارف.
وفي هذا السياق، يمكن العمل على عقد مؤتمر وطني شامل، يشترك فيه ممثلون عن الطيف الواسع للقوى السياسية المؤيدة للبناء الديمقراطي الاتحادي الذي ينص عليه الدستور، وذات الموقف الحازم الواضح ضد الإرهاب وقواه، بمساهمة فاعلة من جانب ممثلين عن الأمم المتحدة، وعن الاتحاد الأوربي والجامعة العربية في حال تطلب الأمر ذلك.
ولتأمين شروط نجاح هذا المؤتمر، يتوجب التحضير الجيد له عبر لقاءات ومداولات ثنائية وجماعية، يكون للوسطاء دور واضح فيها، وتسهم في خلق أجواء مناسبة وتقريب وجهات النظر لإنضاج المقترحات والحلول، والاجماع على ان تتمثل مهمة المؤتمر الأساسية في الاتفاق على عقد وطني سياسي- اجتماعي، تحدد معالمه المفردات السياسية والإجرائية التي سبق ذكرها، ويحظى بتأييد شعبي واسع وبمصادقة مجلس النواب.
اننا نعي جيداً إن الآفاق الواعدة المبشرة بإحراز تقدم وتحقيق نجاحات على طريق المصالحة الوطنية والمجتمعية، ترتبط وثيقا بمواصلة زخم الانتصارات المتحققة ضد داعش الإرهابي وتحرير بقية أراضي الوطن من قبضته، وبالعمل متعدد المستويات والمجالات للقضاء على البنية التحتية والفكرية للإرهاب وإزالة قاعدته الاجتماعية، واتخاذ تدابير جذرية تحول دون إعادة إنتاج البيئة الحاضنة له.
وقد بينت تجربة السنوات الماضية التي هيمنت خلالها الطائفية السياسية وتعبيراتها على صعيد آليات الحكم وتوزيع السلطة وإدارتها وتقاسم منافعها، ان الاستمرار في هذا النهج لا يجلب سوى مزيد من الإخفاقات والأزمات والتدهور في الأوضاع المعيشية والحياتية لشرائح وفئات واسعة من المجتمع، وأنه بات من الضروري الخروج من التخندقات الطائفية والدينية والقومية والعشائرية نحو الفضاء الوطني، عبر مشروع وطني يعتمد مبدأ المواطنة، مشروع عابر للطائفية والمناطقية والعشائرية. ومن الصعب على مشروع كهذا في ظل الأوضاع الراهنة أن يشق طريقه ويتقدم، ولا يبدو ممكنا تحقيق ذلك ما لم تتغير موازين القوى لصالح القوى السياسية والمجتمعية، التي تدعم مشروع الدولة الديمقراطية وتتبناه.