شهداء الحزب

سعدون.. قنديل أضاء ظلمة أرواحنا / اسعد عرب

مع غروب شمس ذلك اليوم المشؤوم، عدت الى البيت منهكاً، تمددت على فراش غير وثير، طلبا لراحة جسدي المتعب، ففجر اليوم التالي وهو يصادف اول ايام العيد، ينتظرني الكثير من المهام التي تقتضيها العادات والتقاليد الاجتماعية في مثل هكذا مناسبات، سواء على المستوى العائلي ام الحزبي.
وما ان بدأت انامل الراحة تدبُّ في جسدي، حتى رن جرس الموبايل، لينتزع تلك الانامل المريحة ويغرس بدلها سكاكين مسمومة تمزق الجسد والروح! تجاهلته بداية رغبة بالراحة، رن الهاتف مرة ومرة اخرى، عندها بدا لي ذلك ينبىء بكارثة عظيمة، تحول رنين الهاتف في أذنيّ الى صفارات أنذار لسيارة اسعاف او سيارة شرطة تبحث عن شواهد لجريمة نكراء؟
وما ان فتحت الخط، حتى شعرت ان سماعة الهاتف تحولت الى ماسورة مياه تتلقى دموع "أبي حياة" الغزيرة على الرغم من حشرجة صوته وانينه المكبوت.
أخبرني بالفاجعة: يقال ان الرفيق سعدون أُستشهد عند بلدة العظيم في كمين نصبه له مجرمون، سراق، سفلة، اوغاد، شذاذ آفاق يغطون وجوههم الكالحة ببرقع المقاومة والدين. نريد ان تتأكد من ذلك؟
يا الهي: ماذا افعل؟ وبعقوبة يغطيها دخان الانفجارات ويمزق هدوءها أزيزُ الرصاص المتصاعد، والذي يتزايد لحظة بعد أخرى؟ في مثل هذه اللحظات وكما يؤكد ذلك علم النفس، اما ان يفقد الانسانُ توازنه وعقله، ويلجأ الى طرقٍ تؤدي به الى نهاية غير سعيدة، او يتفتق عقله عن خطط رشيدة!!
وعلى الرغم من كثرة الرفاق الجسورين في محلية ديالى، الا ان صورة الرفيق كريم الدهلكي (ابو مصطفى) تركزت في قلبي وعقلي.
اتصلت به واخبرته بالفاجعة والواجب الملقى على عاتقنا، لم يتردد ابدا، بل اجابني: دقائق واكون عندك، وما هو الا وقت قصير حتى كان امامي طالبا مني الصعود في سيارته الخاصة.
وما ان انطلقنا حتى كانت الاطلاقات النارية والانفجارات تطوقنا من كل جانب، والشوارع خالية ولا تجوبها سوى عربات الجيش الامريكي، ولكن قلوبنا كانت محاطة بسور فجيعة الخبر، لذلك لم نول ما يجري حولنا اذناً صاغية.
حال وصولنا الخالص توجهنا فوراً الى مركز شرطة المدينة، فقال لنا احد ضباط المركز انهم على اطلاع بالحادث، وهناك الان اكثر من عشر جثث في مستشفى المدينة وعدد آخر من الجرحى، وحتى قبل ان يكملوا حديثهم، توجهنا الى مستشفى المدينة، وما زال امل ضعيف ينبض في القلب عسى ام نجد الرفيق سعدون جريحاً!!
وما ان وصلنا الى باحة المستشفى حتى كانت هناك ما يقرب من خمس عشرة جثة رميت بشكل غير نظامي وسط الباحة، رجال ونساء واطفال، وما زالت عالقة في ذاكرتي جثة شاب مسيحي يتدلى الصليب من صدره، وكأنه المسيح المصلوب المظلوم، كنت كالاعمى ادور بين الجثث واقلب بعضها، وكررت ذلك عدة مرات، حتى سحبني الرفيق كريم الدهلكي، واتجهنا الى ردهة الجرحى، وكررنا البحث بين الجرحى دون جدوى، نبهني ان احد الجرحى هو من رفاقنا من حرس مقر الاندلس، وكانت اصابته بالغة حتى انني لم اتعرف عليه بداية.
ضغطنا على آلامنا وأوجاعنا، وتوجهنا مرة اخرى الى مركز شرطة الخالص، وطلبنا منهم خروج قوة معنا للوصول الى بقية الجثث، فرفضوا ذلك، وقالوا ان الوضع خطير جداً ولا يمكن لنا ان نجازف في هذا الليل، وكنا سنتفهم حجتهم لولا اننا كنا نتطلع اليهم وقد ارتسمت علامات الفرح والشماتة على وجوه بعضهم، حتى ان احدهم اخبرنا بأن المسلحين اطلقوا الهوسات ورقصوا بالقرب من الجثث، ولم لا يفرحوا وهم لم يخلعوا بدلة الزيتوني حتى اليوم الاخير من سقوط النظام؟! ثم اطلقوا لحاهم واصبحوا من اصحاب الخدمة الجهادية.
عندها اجريت اتصالات مع رفاقنا في كركوك وطوزخورماتو، واكدوا انهم الان بالقرب من جبال حمرين وسيتركونه صباحا لاخلاء جثث الشهداء، لان المسلحين نصبوا كمينا لاصطياد كل من يقترب من تلك الجثث.
مع بزوغ فجر اليوم التالي كان رفاقنا بالتعاون مع البيشمركه الموجودين في سيطرة حمرين، قد توجهوا نحو موقع الجريمة، حيث شموخ الشهداء واختفاء وهروب القتلة بكل وحشيتهم وخستهم ونذالتهم.
وهنا أتساءل: ماذا يكتب التاريخ عن هؤلاء المجرمين؟ ومن يذكرهم؟ واين قبورهم؟ ومن سيزورها؟ انهم نسي منسي، وستلاحقهم لعنة التاريخ ولن يذكروا إلا والخزي والعار يرافقهم.
أما سعدون فسيبقى خالدا في قلوب محبيه ورفاقه واصدقائه وكل من عرفه او تعامل معه، لما حمله قلبه الطيب من اخلاق ومبدئية عالية ومن حبٍّ وحسٍّ انساني رفيع ورغبةٍ ومثابرةٍ لاخراج العراق وشعبه من النكبة التي اوقعها فيه مثل هؤلاء المجرمين الذين تسيدوا الساحة في غفلة من الزمن.
نم قرير العين، يا رفيقي، يا أخي، يا حبيبي، يا صديقي: فما زال الاف من الرجال والنساء، شيبا وشبابا، يواصلون السير على دربك ويهتدون بنور افكارك وعظمة تضحياتك، وما زال جبل سفين وجبال كردستان تخلد ذكراك وتبكي لغيابك.
وما زالت العزيزة (دونيا) والورد المتفتح (كفاح) يواصلون الليل بالنهار للمساهمة مع الرفاق الآخرين في تحقيق حلمك بوطن حر وشعب سعيد.