شهداء الحزب

وفاء للشهيد النصير (أبو رغد) / كمال يلدو

يخرجون كل صباح، قاطعين القرى والأرياف والمدن حاملين اعلامهم الملونة وراياتهم الداعية لبناء الأوطان والإنسان، لرعاية الطفولة والمرأة ولضمان الحياة الحرة السعيدة، ولتحقيق العدالة والمساواة في هذا الوطن المثخن بالجراح والمليء بالحالمين والأحلام. اولئك هم جمهرة شهيداتنا وشهدائنا الأعزاء، الذين لن يغيبوا عن بالنا مهما اشتدت الأزمات وصعبت الأوقات.
الشهيد عباس مهدي محمد شكر ( أبو رغد ـ أبو مسار) من مواليد محافظة النجف عام ١٩٥٢، درس في مدارسها ونال شهادة الدبلوم من (معهد الصحة العالي ـ بدرجة مساعد طبيب). عمل في البصرة (المدَينَة) والفاو، ثم إنتقل بعد أن انهى خدمة الإحتياط العسكرية الى بغداد عام ١٩٧٧. إقترن بالسيدة (نضال مجيد حميد الياس) في مطلع العام ١٩٧٩، ولم يمهله تدهور الوضع السياسي كثيرا، فاضطر لترك العراق عقب زواجه بأيام معدودة في شباط ١٩٧٩ وتوجه الى بيروت وليعاود نشاطه الوطني من هناك. وعندما اعيد تشكيل فصائل الأنصار المسلحة لمقارعة النظام الدكتاتوري في كردستان العراق كان من اوائل الملتحقين عام ١٩٨٠، وسقط شهيدا في آيار ١٩٨٤.

ومن اجل أن تكتمل الصورة عن مسار البطولة كان لنا لقاءان، الأول مع السيدة نضال، زوجته وشريكة حياته:
- تعرفت على الشهيد عبر أحد زملائي (عامر جميل) عندما كنت طالبة في الجامعة المستنصرية، وتم الزواج في اوائل ٧٩، واضطر للمغادرة في شباط ٧٩ قاصدا بيروت، وقد تمكنت من اللحاق به في تموز من العام ذاته ووضعت مولودتي الأولى (مسار) في بيروت، وأفترقنا من جديد، حيث عدتُ الى بغداد فيما التحق هو بفصائل الأنصار. كنّا نتواصل بشكل صعب جداً، وبقيت معه في كردستان لفترات قصيرة، لكني كنت مضطرة للعودة الى بغداد. في عام ١٩٨٤ التقيته لمدة ثلاثة ايام في احدى القرى القريبة من دهوك، إذ كان أخي يملك عيادة بيطرية في مدينة دهوك. عدت بعدها الى بيت أخي، وإذا بي افاجأ بخبر استشهاده في اليوم التالي لفراقنا، فأنتقلت الى بيت أخي في بغداد، وساهم بأعالتي وتغطية احتياجاتي. بعد أن قام بتأجير منزل لي شاركتني به والدتي وشقيقتي وإبنتي مسار ايضا. من المحزن انه رحل حتى دون أن يعلم خبر حَملي الثاني بأبني (مجد) الذي ولد عام ١٩٨٤، العام نفسه الذي رحل فيه عباس. لقد كان الخبر قاسيا جدا عليّ، ليس بسبب مسؤولية الأطفال بل لأن الوضع العام كان كله مربكا، فالحرب مع ايران قائمة، والحرب على القوى الوطنية مستعرة، والسجون والأعدامات متواصلة، والبلد كله على فوهة بركان، وأنا مع طفلين (٤سنوات وسنة واحدة) لكني تدبرت أمري. إضطررت لمغادرة العراق بحثا عن الأمان وتوفير المناخ الملائم لتربية الأبناء وأعيشُ اليوم بجزيرة (غوتلاند) في المملكة السويدية. لقد كبرت مسار وكذا مجد، وقد تزوج كلاهما وغالباً ما نتحدث بسيرة والدهم الشهيد رغم انهما لا يتذكرانه لكنه دائمُ الحضور بيننا، وأقص عليهما عن كردستان والنضال والعمل الوطني والتضحية من اجل المبادئ السامية.
أما اللقاء الثاني فكان مع صديق الشهيد وزميله السيد عامر جميل:
- تعود بنا الذكريات الى العام ١٩٧١ حينما تعرفت على الشهيد أبو رغد عبر صديق وحينها عرفت بأنه من كوادر "اتحاد الطلبة العام". استمرت تلك الصداقة وتوطدت اكثر، وكنت استضيفه كلما حل في بغداد مجازا. كنت من اسعد الناس وأنا اشارك في بناء عائلته الصغيرة مع زميلتي الغالية (نضال مجيد). كان آخر لقائي به في شارع السعدون مقابل سينما النصر في شباط ٧٩. أما أشد الصدمات ألما لي كانت يوم وصلني ذلك الخبر الذي نزل عليّ كالصاعقة، حينما استلمنا في ديترويت (بيانا) موقعا من قبل المنظمات العربية العاملة في بيروت عام ١٩٨٤ وهي تنعى الشخصية الوطنية والكادر الشبابي (عباس مهدي ـ ابو مسار). وعلمت عبر د. كاظم حبيب بأن الشهيد كان عضوا في الأعلام المركزي للحزب الشيوعي، وأنه اصبح سكرتيرا لـ (اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي) حتى ساعة استشهاده، اما عن ظروف الأستشهاد، فقد قص لي بعض من رفاقه المشهد الذي أودى بحياته حيث قالوا: كان الشهيد عائدا بمفرده في احدى المناطق، وإذا به يلتقي بإثنين ممن كان يعتقد بأنهما من مقاتلي أحد الأحزاب الكردستانية، فسار معهم مطمئننا، لكنهما كانا من المنهارين وفي طريقهما لتسليم اسلحتهما بعد قرار (العفو) الذي اصدره النظام آنذاك، والذي وعد فيه بدفع مبلغ (١٠٠ دينار) لكل من يسلّم بندقيته للنظام، وهكذا عالجاه غدرا بطلق ناري، اودى بحياته وتركاه في العراء حتى اكتشف رفاقه الأمر لاحقا. وعلمت ايضا بانهما لم يفلتا من العقاب. كان أمرا محزنا أن ينتهي هذا الكادر السياسي الوطني، والشخصية الطيبة بهذه الطريقة، وهو الذي ترك خلفه حياة المدينة والزوجة والأطفال وألاهل والأصدقاء وتوجه حاملا سلاحه وأيمانه من أجل مقارعة الدكتاتورية، بغية اقامة وطن آمن، وطن يتسع لأحلام الطفولة وأماني العشاق.
اما آخر الكلام فكان ثانية لزوجته الطيبة (أُم مسار):
- مازلت على قناعة بأن الإختلاف في الإنتماء السياسي يجب ان لا يكون ثمنه الغربة أو الموت. من حق الناس ان تعتنق ماتشاء، ويجب على القانون والدولة أن تحمي المواطن. إن جرائم البعث وصدام والدكتاتورية لا تغتفر، فلولا ارهابهم ما كان (عباس) قد غادرنا، ولا تغّرب وتغّربنا، ولا مات بهذه الطريقة الخسيسة، انهم وحدهم يتحملون المأساة التي يعيشها العراق أمس واليوم، ومع كل هذا فأني أشعر بالفخر والإعتزاز كوني زوجة الشهيد (أبو رغد)، وأفتخر بانتمائه وحبه للوطن، كما وأشكر رفيقاته ورفاقه الذين وقفوا معي على مدى السنين وغمروني وأبنائي بمحبتهم. أتمنى ان يتعافى العراق من جراحه ويعود جميلا للجميع، ويملؤني الأمل بناسه الطيبين وشبابه المتطلعين للغد الديمقراطي السعيد.
-المجد للشهيد النصيرعباس مهدي محمد شكر (ابو رغد)
-العار لقتلته الأوغاد وللنظام العفلقي الذي اوصل البلد للدمار
-كل التضامن مع زوجته نضال وأبنته مسار وأبنه مجد، ومع كل عائلته وأصدقائه وكل من عرفه انسانا رائعا.