شهداء الحزب

متى يُنصف الشهيد موفق الياس زوما ؟ / كمال يلدو

تفخر الشعوب بشهدائها، وتكبّر فيهم تضحياتهم وصبر أهاليهم، فتجعل منهم نبراسا طيبا للبشرية ورفعتها. يحدث هذا في الجزء الذي يقيم وزنا وأحتراما للأنسان وتضحياته. أما في وطننا الغالي، فقد سارت الأمور غالبا حسب مزاج الحاكم، ولهذا سخّر المؤسسات القمعية للأنتقام من أيّ شخص يحمل فكرا مخالفا، ناهيك بأن يكون معارضا، و لم يكتفوا بهذا بل شمل عقابهم أهله وعائلته وذويه، وأذاقوهم المر في الملاحقة والمضايقة وحرمانهم من الراحة والمساواة في التعامل مع بقية افراد الشعب.
كان لهذا الأمر انعكاساته السلبية على الكثير من العوائل المسالمة التي قدمت ابناءها قرابين من اجل حرية الوطن وأستقلاله وسعادة شعبه، فيما عاش اغلبهم على هامش الحياة، لا لذنب او جرم اقترفوه، سوى ان تلك كانت سياسة العقاب الجماعي التي مارستها الأنظمة الدكتاتورية، وفي المقدمة منها، نظام البعث الأجرامي، ولعل حكاية الشهيد (موفق الياس زوما) تبقى شـــاهدا حيا على تلك الجرائم والسياسات المدمرة.
ولد الراحل موفق في العاصمة بغداد، وحينما بلغ العاشرة كانت عائلته قد عادت الى مدينتها الأصلية تلكيف، حيث قام والده بأفتتاح مطحنة للحبوب ومعمل لصناعة الثلج في البلدة، ومع انتشار الأفكار الوطنية التي تزامنت مع انتصار ثورة ١٤ تموز و ارتفاع وتائر التآمر عليها، وجد طريقه للعمل في الشبيبة الديمقراطية، والنشاط من اجل العدالة والحرية بحدود العام ١٩٦٢. هذا الأمر الذي لم يرق للسلطات التي قابلت تلك المطالب بالملاحقة والأعتقال لمن يحملها وينشرها، وتفاديا للوقوع بقبضتهم، اختار الشهيد الالتحاق بصفوف المقاتلين الذين صعدوا الجبل (الأنصار ـ البيشمركة) منذ اواسط الستينيات، وعمل في فصيل القائد الوطني الراحل توما توماس (ابو جوزيف). بعد انقلاب عام ١٩٦٨، عاد البعثيون الى سياستهم الرعناء في محاربة حملة الأفكار الوطنية وسخروا لذلك عملاءهم ووكلاءهم في القرى والأرياف، اذ قام مدير الناحية وكان لقبه (الخفاجي) بأستدعاء والد الشهيد (السيد الياس زوما) وهدده بالحرف الواحد: اما ان تجلب ابنك، أو ان ترحل من هذه المدينة! فما كان من الأب إلا ان يستسلم لتهديد السلطات، فتوسط للوصول الى ابنه الذي التقاه (سرا) في مدينة القوش وطلب منه العودة والتوقف عن العمل في صفوف المقاتلين، مقابل وعود (الخفاجي) بعدم الملاحقة. هذه المواجهة وضعت مصلحة الأسرة بين فكي الرحى، فإما الأستقرار أو الحرمان من العمل والحياة الآمنة. كان الخيار صعبا عليه، لكنه في النهاية قرر الذهاب مع والده والتسليم للسلطات، التي غضت الطرف عنه آنذاك، وصادف أن نودي على مواليده فالتحق بالخدمة العسكرية الألزامية.
الا ان حادثا وقع في محافظة البصرة قلب كل الأمور رأسا على عقب، إذ القت سلطات الحدود القبض على السيد (ف ـ ب)، إبن بلدة الراحل وصديقه منذ الصغر، وهو يقوم بعملية تهريب من و الى ايران عن طريق البصرة. فخضع الى التعذيب بغية سحب الأعتراف منه والكشف عن الأشخاص المتعاونين معه، فما كان من (ف ـ ب) وللتخفيف عن مصيبته إلا ان يذكر لهم اسم الشهيد موفق، لعلمه بأنه ملتحق بالقوات (في الجبل) وسيكون من الصعوبة على الحكومة القبض عليه، حيث انه كان يجهل قصة (نزول) موفق والتحاقه بالخدمة الإلزامية. لم يمض وقت طويل حتى أتوا بالراحل، وأخضعوه لشـتى انواع التعذيب من اجل سحب الأعترافات منه، لكنه كان بريئا من كل ما نسب اليه، على ان انكاره لتلك التهم لم يشفع له، خاصة أن ملفه الشخصي يحمل تهمة حمله لأفكار مخالفة لفكر حزب البعث، فكان صيدا ثمينا وقع بيدهم.
جرت تلك الأحداث في بدايات حكم البعث (الثانية) الذي كان يسعى لتثبيت اركانه بكل الوسائل، بما فيها الأرهاب والقتل، فأبتدع قصة الشبكات الجاسوسية، ومارس سياسة الخداع والتضليل والمحاكم الصورية، والفتك بخصومه وأنزال اقصى العقوبات بهم لابل تعليق جثثهم علانية وفي أهم المراكز (بغداد والبصرة) في ممارسة انبأت بمرحلة خطيرة، اتت على الأخضر واليابس في فترة حكمهم الأسود لاحقا.
وهكذا البست تهمة الجاسوسية للشهيد موفق الياس زوما، وأُعدم شنقا في آب بسجن الرضوانية١٩٦٩. وكانت تلك الحادثة من أسوأ ما يمكن ان تكون على عائلته بآثارها المدمرة، حيث توفي والده (الياس) أثر انفجار في الدماغ حدث له بعد فترة قصيرة من اعدام ابنه، وتقوقعت العائلة على نفسها بعد أن حوربت من القريب والبعيد. ولا أظن ان احدا يستطيع قياس فعلها وتأثيرها على أهل الشهيد، إذ كيف يمكن المقارنة بين حمل الأفكار الوطنية وبين الجاسوسية؟
معادلة لا تستوي الا في سجلات البعثيين!
ولعل الوفاء لذكراه هي التي كانت تدفع زميله السيد جميل سلمو، الى الحديث عنه كلما جرى استذكار شهداء الحركة الوطنية فيقول: "انعقدت صداقة طيبة بيني وبين الراحل، وعملنا سوية في الشبيبة، كان محبا وطيبا وشجاعا ومناضلا جسورا، ومؤمنا بالأفكار الوطنية، وأشعر بالألم العميق للثمن الذي دفعه هو وعائلته على يد البعث الفاشست".
اما السيد جوزيف توماس، ابن القائد الراحل توما توماس، فيقول عن الراحل موفق: " نعم اني اتذكره جيدا رغم مرور أكثر من ٤٥ عاما، حيث تعرفت عليه حينما كنا نذهب الى مدينة تلكيف ونشتري الثلج منهم، وتعمقت العلاقة بعد التحاقه بصفوف المقاتلين. وأتذكر جيدا حينما أتى والده للقائه عندنا، وكان والدي من المعارضين لنزوله وتسليمه للسلطات لعدم ثقته بهم، وحزنت انا وعائلتي ووالدي على نهايته المأساوية. لقد كان ذكيا جدا وماهرا، ومن المؤكد اننا فقدنا انسانا بطلا وشجاعا".
تمضي السنين، لكن ذكرى الذين رحلوا عنّا بغير اوانهم ظلما، تأبى ان تغيب عن البال وتصر على ان تحضر باستمرار، شاهدا على الأنظمة القمعية والدموية التي ثبتت اركان حكمها بالقتل والدمار والكذب وخداع المواطن.
**المواساة لمن تبقى من عائلة الشهيد
**الراحة لوالديه، الياس وماري اللذين قضيا بالحزن والألم
**المواساة لأهله وأقربائه وأحبابه وكل من عرفه انسانا طيبا
**والذكر الطيب للشهيد موفق الياس زوما، الأنسان الذي يبقى اسمه انظف من جلاديه، اولئك الذين انتهى مصيرهم الى مزبلة التأريخ.